بعد مضي ما ينوف عن ستة أعوام على إعلان الإدارة الذاتية الديمقراطية، تجد شعوب منطقة شمال وشرقي سوريا، نفسها أمام خيارات قد تبدو للوهلة الأولى أنها فرص تاريخية تستطيع عند انتهازها من إحداث قطيعة مع سنوات التهميش التي رافقتها خلال السنوات العجاف التي حكمها حزب البعث منذ انقلابه المعروف بثورة الثامن من آذار عام 1963 لكن سرعان ما تجد نفسها أمام حال آخر، تُنتزع منه أراضيه عبر صفقات بين القوى الإقليمية والدول العظمى، وهو ما تجلى بوضوح في كل من عفرين أوائل العام 2018 و”المنطقة الآمنة” الممتدة من رأس العين إلى تل أبيض أواخر العام 2019.

راهن حزب الاتحاد الديمقراطي على إيجاد توافق ما مع الحكومة السورية منذ التفاهم بينهما عقب تصاعد الاحتجاجات الشعبية والمعارك العسكرية بين الجيش السوري والقوى المعارضة المسلحة المدعومة من محور الدول الخليجية، وتركيا، إضافة إلى كل من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا عام 2011.

لم يُبنى التفاهم ذاك على أسس استراتيجية تنهي مأساة التمييز الحاصل ضد شعوب مناطق شمال وشرقي سوريا، وخصوصاً الكُرد منهم، وهي المنطقة التي تعتبر خزان سوريا النفطي، وقسم كبير من الغاز السوري، بالإضافة للثروة المائية، والزراعية، لكن منطق الحكومة السورية بقي كما هو منذ عقود من جهة الانفتاح على التعددية القومية في البلاد، واستمرت سياسة الحزب الواحد والقومية الواحدة واللغة الواحدة هي السائدة في منطق منظومة الحكم السورية.

انتقل مجلس سوريا الديمقراطية، وهو الذي عُيّن ممثلاً سياسياً لـ “قسد”، في رهانه إلى تحقيق مواءمة بين علاقاته بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، حيث كانت مناطق سيطرة  قوات سوريا الديمقراطية مقسمة بين النفوذ الأميركي في شرق الفرات، والروسي في غربه، لكن هيهات أن تستطيع قوة محلية فرض نفسها كطرف ثالث على الدولتين العظميين، وهو ما دفعت ثمنه غالياً بالتخلي الروسي عن عفرين لصالح القوات التركية والفصائل المسلحة السورية الموالية لها.

عند ذاك انتقل رهان “مسد” إلى الولايات المتحدة وحسب، على الرغم من أن المنطلقات النظرية لعمودها الفقري “الاتحاد الديمقراطي” مبنية على معاداة الرأسمالية، وهي بالتالي دخلت في دوامة تناقضات بين النظرية والتطبيق، ومع ذلك فقد بقي رهانها راسخاً إلى أن أعلنت واشنطن بصريح العبارة أن خروجها من سوريا أمر محتوم، وقد سحبت جزءاً من قواتها بالفعل عقب العملية العسكرية التركية الأخيرة المسماة بـ “نبع السلام”

منذ ذلك الحين وتحمل قيادة قوات سوريا الديمقراطية، بشخص قائدها العام مظلوم عبدي، على عاتقها تبني سياسة أكثر انفتاحاً على الأطراف المحلية والإقليمية، حيث يرسل رسائل إيجابية إلى تركيا، وينسج علاقات شخصية وحكومية مع قيادة إقليم كُردستان العراق، وعلى رأسها رئيس الإقليم نيجرفان البارزاني، بعد سنوات من المناكفة السياسية بين “الإدارة” و”الإقليم”.

بل ترعى مفاوضات سياسية بين الأطراف الرئيسية للصراع السياسي الكُردي السوري، وصولاً إلى تفاهمات بهدف تقوية موقفها في ما تبقى من مناطق سلطتها في شرقي شرق الفرات، باعتبار أن غربي شرق الفرات قد أصبح فعلياً منطقة نفوذ روسية، وبالتالي فلا مستقبل مضمون للإدارة الذاتية فيها.

يبدو أن خيارات “قسد” في المرحلة القريبة القادمة ستكون حاسمة، فتطبيق قانون قيصر أصبح قاب قوسين أو أدنى، حيث من المقرر البدء به شهر حزيران/ يونيو القادم، وبصرف النظر عن تطبيقه، من عدمه، في مناطق الإدارة الذاتية، فإن تداعيات الأزمة الاقتصادية التي ستمر بها الحكومة السورية ستنعكس سلباً على “الإدارة” فانهيار سعر صرف الليرة السورية في الآونة الأخيرة لم يفرق بين منطقة وأخرى، وكذلك فإن أزمة جائحة كورونا قد زادت الوضع الاقتصادي سوءاً، وبدء موسم المحاصيل الزراعية، والذي بات يترافق مع حرب اقتصادية بين دمشق وعين عيسى.

وبالتالي فإن مرحلة حسم الخيارات قد بدأ بالفعل، وستكون الإدارة الذاتية مطالبة بتحديد موقفها من السير بمشروع التقارب الكُردي الكُردي وصولاً إلى التعويل على موقف أميركي يدعم فعلياً مشروعاً لا مركزياً في سوريا، وإيجاد حلٍّ ما مع تركيا، أو التفاوض مع دمشق، برعاية موسكو، وفق قاعدة لا غالب ولا مغلوب، وعلى مبدأ التنازلات المشتركة من الطرفين، أو حل المعضلة الاقتصادية بإيجاد بديل اقتصادي عن الحكومة السورية، قد يكون إقليم كُردستان العراق هو المرشح الأبرز لشغل هذا الدور، ولكن لا يخفى الدور التركي الضاغط باتجاه عزل مناطق الإدارة الذاتية، سعياً منها لإفشال المشروع بشكل كامل.

ومن هذا المنطلق فإنه من المتوقع أن تضغط تركيا على حكومة الإقليم، وخاصة في ظل العلاقة المميزة بينهما، وقوى الضغط التركي داخل الإقليم، كي تمتنع عن تقديم أية مساعدة تتجاوز بها الخط الأحمر التركي في مناطق شمال وشرقي سوريا.

تبدو المنطقة أمام امتحان هو الأصعب منذ سنوات، فأي خطأ آخر في الحسابات سيكون ثمنه انهيار المشروع بشكل كامل، وإدخال المنطقة في حسابات خطيرة للغاية، قد لا يكون الخروج منها بالأمر الممكن، لذا فإن الإدارة الذاتية مطالبة بالحكمة في أي قرار استراتيجي ستتخذه مستقبلاً، وإشراك مكونات المنطقة السياسية في صنع قرارها، وهذا أدعى للحكمة، وأأمن لصياغة مستقبل يكون فيه ما هو آت، خيرّ مما قد فات.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.