عفرين المَنْسيّة.. تَسْتَذْكِر آلامَها دونَ مُغيث

عفرين المَنْسيّة.. تَسْتَذْكِر آلامَها دونَ مُغيث

لَمْ يَكُن أشدّ المتشائمين قبلَ عشر سنوات يتوقّع أنْ تَصِلَ الحال بسوريا والسّوريّين إلى ما هيَ عليه الآن، فـ”الكابوس الحيّ”، على حَدّ وَصْفِ الأمين العامّ للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش، الذي تعيشه البلاد أنهكَ ما تبقّى مِن شعبها، حتى باتَ ما ينوف عن (60%) من السوريين يواجهون خطر الجّوع، حسب تقديرات الأمم المتّحدة.

أصبحَ الولاء لسوريا في المراتب الدُّنيا على سلّم أولويات القوى المحلّية المُتصارعة، سواءً في الميدان العسكريّ، أو السياسيّ، وباتت مصالح الدُّول الدّاعمة لهذه القوى هي الأولويّة الرئيسيّة لها، وخصوصاً الدُّول الإقليميّة الرئيسيّة في الملفّ السّوريّ، وهي تركيا وإيران.

مشهدٌ آخر ينتظر إحياء ذكراه خلال شهر آذار، وهو ذكرى سيطرة الجّيش التّركيّ وفصائل سوريّة موالية له، على منطقة عفرين في الشّمال السوريّ، حيث شَنّت تُركيّا في كانون  الثاني/يناير عام 2018 عمليّة عسكريّة تحت مسمّى “غصن الزّيتون” في دلالة على رمزيّة السّلام في عمليتها تلك، إلا أنّ الواقع كان مختلفاً تماماً.

العمليّة العسكريّة تلك، انتهت بسيطرة الأتراك ومواليهم من السّوريّين على المدينة في الثامن عشر من آذار/مارس مِن نفس العام، ومُذ ذاك والمدينة تعيش ظروفًا غايةً في السّوء.

سيطرتْ فصائل متعددة المشارب على المدينة وريفها، ومارستْ شتّى أنواع الانتهاكات كالّتي وثّقتها لجنة التّحقيق الدّوليّة المستقلّة الخاصّة بسوريا، والتي قالت في تقريرها الصادر في أيلول/ سبتمبر العام 2020 إنّ مسلحيّ “الجيش الوطنيّ السّوريّ” قاموا باحتجاز نساء وفتيات، حيث تعرضنَ للاغتصاب والعنف الجّنسيّ، كما قاموا بخطف الرهائن وممارسة التّعذيب، بالإضافة للاستيلاء على الأراضي والممتلكات الخاصّة في عفرين، كما وثّقت صور الأقمار الصّناعية الدمار والنّهب الحاصلَين للمواقع التراثيّة المصنَّفة من قِبَل “اليونسكو”، ووصفت تلك الممارسات بـ “جرائم حرب”

كانت تُركيّا تخشى مِن عامل الوقت في الحرب السّوريّة، والرئيس التّركيّ أعلن مراراً أنّه لَن ينتظر قيام كيان كُرديّ في الشّمال السّوريّ حتى يتحرّك، وكان  يتخوّف أنْ تمتدّ العلاقة العسكريّة القويّة بين الولايات المتحدة الأميركيّة وقوات سوريا الديمقراطية، إلى الجانب السياسيّ، وأنْ تعترف واشنطن بالإدارة الذّاتيّة في شمال وشرقيّ سوريا، وذلك ما دفعه إلى شنّ عملياته الثّلاث في سوريا، والتي بدأها بـ”درع الفرات” عام 2016 قاطعاً الطّريق أمام إمكانيّة وصول “الإدارة الذّاتيّة” إلى البحر المتوسّط، وأَلحَقَ بها “غصن الزّيتون” والهدف كان قصم ظهر “الإدارة” وختمت أنقرة سلسلة عمليّاتها في العام 2019 بعمليّة “نبع السّلام” وسيطرت بموجبها على كُلّ من رأس العين وتل أبيض.

كانت عفرين هدفاً تُركيّاً منذ إعلان الإدارة الذّاتيّة فيها عام 2014 وأرادتْ أنقرة إحداث تغيير ديموغرافيّ في المدينة ذات الصِّبغة الكُرديّة البَحْتة، وهو ما تقوم به فعلاً منذ السّيطرة على المدينة، فالاعتقالات التعسّفية بِحَقّ الكُرد بلغتْ مَبْلَغاً خطيراً، والهدف دائماً هو إيصال السّكّان الكُرد إلى طريق إلزاميّ يضطرون فيه لبيع منازلهم، والهروب من المدينة، وفي مرّات عديدة، الاستيلاء على تلك المنازل بحججٍ مختلفة، بُغية مَنْحِها للمهجَّرين من مناطق سُكناهم الأصليّة في الدّاخل السّوريّ، وبالتّالي تطبيع الأوضاع بعدئذٍ، وبذلك تتخلّص تركيا من عُقدة الوقت الّتي كانت تُلازمها طوال سنيّ الحرب السّوريّة، ليصبح كلّ تأخير في حلّ الأزمة يعني بالضرورة تثبيت التغيير الديموغرافيّ الحاصل؛ الأمر الّذي يُخلّصها من “شبح” أيّ كيان كُرديّ في المستقبل.

الحكومة السّوريّة، وبعد أنْ كانت تَقِف ضدّ العمليّة العسكريّة التّركيّة في عفرين، سلّمتْ بالأمر الواقع لاحقاً، بَلْ أصبحتْ تدعم، بالصمت، ما يحصل فيها من مآسٍ، وترى فيها وسيلة لوأد أيّ مشروع كُرديّ قد يحصل في المستقبل، ولم تَعُد تكترث للتّتريك الحاصل فيها على قَدَمٍ وساق، فدمشق حاولت مراراً إعادة إدلب لسيادتها عبر عملياتٍ عسكريّة عديدة شنّتها بالتعاون مع سلاح الجّو الرّوسيّ، ومستعينةً بقوّات إيرانيّة خاصّة، وبميليشيات مِن دول أخرى، لكنها لَمْ تطالب يوماً، بالحماس ذاته، باسترجاع عفرين بالقوّة العسكريّة.

أما الإدارة الذّاتيّة فهي لا تنفكّ عن ترديد الشّعارات المُنادية بإعادة عفرين إلى أهلها، ويبدو أنّها تكتفي بهذا الدَّور وحَسْب، دون أنْ تقوم بأيّة جهود فعليّة لتخليص المدينة مِن المصير القاتم الذي تعيشه، وأصبح هاجس “الإدارة” هو الحفاظ على ما تبقّى مِن سُلطتها شرقيَّ شرقِ الفرات، وباتتْ تتعامل مع كُلّ من عفرين ورأس العين وتل أبيض كمناطق خارج حساباتها.

كما باتَ خطابها مُقتصراً على المظاهرات السّنويّة في ذكرى سقوط تلك المناطق، وعلى المُلتقيات “الشّكليّة” التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع، ولم تُفِد أيّاً من سكّان تِلك المناطق، بل أصبح جُلّ همّها أنْ تبيعهم الوهم بأنّ عودتهم إلى مناطقهم باتت قريبة، وهي مسألة وقت لا أكثر، غير مكترثة بأنّ بقاء الحال على ما هو عليه لسنوات أخرى، سيضعف مِن إمكانية إعادة المدينة إلى ما كانت عليه قبل العام 2018

يبدو أنّ هناك خُذلاناً مزدوجاً لسكّان عفرين مِنْ الحكومة السّوريّة وكذلك الإدارة الذّاتيّة، اللّتان تقفان مكتوفتَيّ الأيدي تجاه مآسيهم، وكأنّ لسان حالهما يقول للعفرينيين: اذهبوا أنتم وربُّكم فقاتلوا، إنّا هاهنا قاعدون.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.