فَرَضت الفصائل المسلّحة بعد عام 2014، واقعاً مختلفاً في العراق، فقد مكّنت الحربُ على تنظيم داعش هذه الجماعات من التحكّم بالقرار السياسي والأمني إلى حدٍّ كبير، والمجتمعي إلى حدٍّ ما، وتالياً مهّد هذا التحكم لها  السيطرة على السلطتين التشريعية والتنفيذية كحكومة بعد 2018.

في ذات الوقت الذي مازجت به الفصائل المسلحة وجودها بالعقيدة، فإنها ربطت من الناحية العملية بين تأسيسها واستمرار نشاطها ومستقبلها وبين تنفيذ الرؤية الإيرانية، فتحوّلت إلى أذرعٍ ذات مخالبٍ لكلّ ما يهدّد، ليس الأمن القومي الإيراني فحسب؛ بل كل من يحاول هز صورة إيران في الداخل العراقي، وتمظهرت سياسياً من خلال أحزابٍ وتياراتٍ تُوفّر المظلّة والدعم السياسي لها، بما يتناغم مع الأجندة الخارقة للحدود العراقية والوطنية.

نظرت طهران إلى الفصائل المسلحة في العراق بعد تصاعد التوتر بينها وبين واشنطن نتيجة العقوبات؛ كأوراق ضغطٍ فاعلة لإحراج الأخيرة، من خلال استهداف المصالح الأميركية الدبلوماسية والعسكرية بهجماتٍ منسقّة بصواريخ إيرانية متطوّرة، لإيصال رسالةٍ  فحواها أن هذه الفصائل تابعة لها، وهذا ما تُدركه واشنطن التي لم تفصل بين هذه الفصائل وبين قوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني.

واشنطن وطهران، وحتى الفصائل نفسها، تدرك أن مستقبل هذه الجماعات المسلحة ليس شأناً عراقياً، لذلك وضعت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب شرطاً تضمّن الإشارة إلى هذا المستقبل.

فقد  أعلن بومبيو وزير الخارجية السابق 12 شرطاً للتوصّل إلى اتفاقٍ جديد مع طهران حول الملف النووي، كان من ضمنها «احترام سيادة العراق ووقف تدفق المليشيات العسكرية الإيرانية»، وهذا الاعتقاد انتقل أيضاً إلى إدارة الرئيس بايدن الذي حذّر إيران بعد القصف المباشر لمواقع تابعة لجماعات مسلحة عراقية في شرقي سوريا، قائلاً: «لن تفلتوا من العقاب، احذروا»، للرد على الهجمات الأخيرة على أربيل وسقوط ضحايا من المتعاقدين الأميركيين.

إيران المتعطّشة لرفع العقوبات والجلوس إلى طاولة حوار لصياغة تفاهم مُحدث للاتفاق النووي الإيراني، أدركت أن سياستها في دعم الفصائل المسلحة لتهديد الوجود الأميركي، كانت لها نتائج عكسية على تطلّعها لتخفيف العقوبات المفروضة عليها.

وقد تكون إشارة المبعوث الأميركي لإيران روبرت مالي، إلى أن الهجمات التي ينفذها وكلاء إيران ضد القوات الأميركية في العراق، تُصعّب على إدارة بايدن حشد الدعم الداخلي لمبادرته الدبلوماسية بإحياء الحوار مع طهران، أوضح دليل على أن هذه الفصائل باتت تشكّل عبء كبير عليها، رغم أنها أطلقت سابقة تصريحات بأنها غير مسؤولة عن دعم وهجمات هذه الفصائل.

الفصائل المسلّحة كلّفت إيران خسارة القاعدة الشيعية في العراق التي كانت تتعاطف- إلى حدٍّ ما _ معها، وقد تكون التظاهرات التي حدثت في تشرين 2019، في جزءٍ كبيرٍ منها هو رفض سياسات إيران وسيطرة هذه الفصائل على الدولة ومؤسساتها.

لذلك، ليس من المستبعد أن تضع طهران استراتيجية جديدة لمستقبل هذه الجماعات المسلحة، مع اقتراب المفاوضات أو بعد الإعلان عن نتائجها،  بما يتناسب مع مصالحها القومية، تتمثل بتجميد الدعم التسليحي والمالي لها بدايةً،  ثم الانطلاق لتذويب عدد من هذه الجماعات مع بعضها البعض، وتالياً الإيعاز بوقف كل المظاهر المسلّحة داخل العراق بما فيها الهجمات على المصالح الأميركية.

كما ستعمد طهران إلى إعادة تقييم المظلة السياسية لهذه الفصائل أو الزعماء السياسيين الداعمين لها، وقد يكون واحد من خياراتها هو التعويل على مستوى جديد من الزعماء لا يتسبب لها بالحرج من جديد.

العراق سيتحمّل كلفة تفكيك هذه الفصائل المسلّحة عسكرياً وسياسياً، فهذه الجماعات لن تقتنع بانزواء نفوذها وسلاحها، مما قد يولد احتكاك محدود فيما بينها، وتالياً مع الدولة، ليُشكّل لحظات ارتباك أمني وسياسي  يُدخِل العراق بنفق أزمةٍ جديدة لا يمكن الخروج منه، إلا بحصر السلاح بيد الدولة وتطبيق القانون.

إيران ستواجه مشاكل مع الفصائل المسلحة المتواجدة في العراق، في حال كان هناك اتفاق نووي جديد مع واشنطن، فهذه الجماعات التي بُنيت على عقيدة العداء المسلح لأميركا وما أتاحه لها هذا العداء من صعود كبير في العراق في كل المستويات، سيكون من الصعوبة أن تتخلّى عما وصلت إليه من نفوذ، مع اعتقادٍ قد يسود عند زعامات هذه الفصائل من إمكانية إنهاء  ورقة الأذرع المسلحة.

كل ذلك، قد يدفعها (الفصائل) إلى التمرد على القرار الإيراني وستعمل على الضغط (بشكلٍ منفرد) على واشنطن من خلال هجماتٍ بقرارٍ ذاتي، لفرض شروطها المرتبطة بالساحة العراقية، ومنها رفع العقوبات عن زعمائها أو كياناتها السياسية والاقتصادية.

تلك الهجمات المنفردة، ستكون محرجة لطهران التي طالما ظهرت على أنها هي التي تمتلك قرار هذه الفصائل، مما قد يُربك أية عملية التزام لها تجاه الدول الغربية.

أما في حال لم يتم التوصل لأيِّ حلٍّ بخصوص الملف النووي الإيراني، ستكون هذه الفصائل فاعلة بشكلٍ كبير وستُنفّذ هجمات أعنف بكثير من السابق على الوجود الأميركي في العراق، وأزمة طهران هنا مع الفصائل تكمن بأن واشنطن ستختار الرد بشكلٍ مباشر على إيران.

وهذا ما أشار إليه بايدن بتحذيره طهران، ولم يذكر هذه الفصائل المسلحة، فضلاً عن أن اختيار العراق كأرض اشتباك مع واشنطن، سيكلّفها خسارة كبيرة، مع تصاعد الرفض الرسمي والشعبي في العراق لاستخدام أراضيه كساحةٍ لتصفية الحسابات، مما قد يُشعل مواجهة بين فصائلها في العراق وبين المؤسسة الأمنية العراقية التي ستعمل على ضبط الملف الأمني وفق المصلحة العراقية.

إيران في الحالتين، الاتفاق أو عدم الاتفاق على الملف النووي، ستكون في أزمةٍ كبيرة؛ تتمثّل في طبيعة التعاطي مع هذه الفصائل المسلحة، وعليها أن تُدرِك أن وضع سيناريوهات لهذا التعاطي يجب أن يبدأ من الآن، وبعكسه؛ ستواجه أثماناً باهظة جداً.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.