من السَّرديّة الجهاديّة إلى سَرديّة الثَّورة.. “الجُولاني” إذ يَخلَعُ ملابسه القروسطيّة

من السَّرديّة الجهاديّة إلى سَرديّة الثَّورة.. “الجُولاني” إذ يَخلَعُ ملابسه القروسطيّة

يقول زعيم تنظيم القاعدة في سوريا، أحمد حسين الشرع، أبو محمد الجولاني، في مقابلته مع مراسل “فرونت لاين”، الصحفي “مارتن سميث”، شباط الماضي، أنّ ارتباطه بتنظيم القاعدة انتهى، وليس لجماعته عمليات خارج سوريا، ويحارب المتطرفين وعناصر تنظيم داعش في إدلب، ويحارب النظام وإيران وروسيا، ولا يمارس الاعتقال التعسفي والتعذيب في سجونه؛ وبالتالي على الولايات المتحدة والغرب التعاطي معه كقوة أمر واقع في مستقبل سوريا، وأن ترفع عنه صفة الإرهاب.

انتقل الجولاني من السرية إلى العلنية، وغيّر سرديته الجهادية إلى سردية الثورة والإسلام المعتدل، وتخلّى عن تكتيكات المفخخات، وخلع ملابسه القروسطية وارتدى بدلة حديثة، وقابل صحفيين أجانب، وحاول تخفيف مظاهر التشدد داخل المجتمع، بتقليص دور الدعاة والداعيات، الذين كانوا يقومون بدور “هيئة الأمر بالمعروف” بين الناس ضمن الأسواق والشوارع، وسمح لبعض الفرق الإسلامية (الأشعرية والصوفية) ببعض الحرية في ممارسة دورها الدعوي، لكسب ولائهم، وتعاون مع مقربين من الإخوان المسلمين.

كما تُركت بعض المناطق ليديرها وجهاء محليون يحظون بقبول شعبي ويوالون الهيئة في آن واحد، لتخفيف الاحتقان الشعبي ضد سياساتها التعسفية. كل ذلك تم بعد إبعاد كبار العناصر المتشددة، خاصة الأجانب، ومنهم أبو مالك التلي، وأبو اليقظان المصري.

لكن هذه التغييرات في الماكياج لم تكن كافية للجولاني للهروب من ماضيه الجهادي، ولم تخفِ حقيقة دور الهيئة التسلطي في مناطق سيطرته، والتي يقطن فيها نصف سكان الشمال السوري.

الهيئة تدور في الفلك التركي، وإن كان ولاؤها لأنقرة ليس كلياً كبقية فصائل الشمال؛ فقد التزمت باتفاقات أستانة منذ انطلاقتها، وكأنها شريك غير معلن بها، وسلمت المناطق والطرقات الرئيسية، وتجنّبت استفزاز الروس في تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في آذار العام الماضي، وخاصة ما يتعلق بالمنطقة منزوعة السلاح الثقيل.

لكن كل ذلك غير كافٍ لأنقرة للتعاطي معها رسمياً وهي مصنفة إرهابياً من تركيا نفسها بمرسوم رئاسي في تموز 2018، تماشياً مع تصنيف الأمم المتحدة لها قبل شهر من تاريخه.

حاربت الهيئة الجهاديين الأكثر تشدّداً، كتنظيمي حراس الدين والحزب الإسلامي التركستاني، وعناصر من داعش، ولكن بوصفهم منافسين، فهي قبل ذلك حاربت الفصائل التي رفضت الانضواء تحت إمرتها، وسيطرت على أسلحتهم (جيش المجاهدين وحركة حزم وأحرار الشام ونور الدين زنكي…)؛ وسيطرت على كل المعابر مع تركيا (عتمة وخربة الجوز وباب الهوى).

الجولاني وجماعته لم يحاربوا النظام كما يدّعون، بل أقاموا معه صلات اقتصادية وثيقة، عبر سيطرته على المعابر مع مناطق النظام، والتي، إضافة إلى المعابر مع تركيا، تشكّل مورداً اقتصادياً مهماً لعناصر الهيئة، عبر تحصيل الإتاوات من مرور الشاحنات، ومنذ عام؛ يسعى الجولاني لفتح معبر سراقب سرمين، لكنه يفشل مع رفض الأهالي مراراً لهذه الخطوة.

التقارير الإنسانية حول انتهاكات هيئة تحرير الشام في المعتقلات؛ تُكذّب الجولاني، الذي يدّعي نظافة سجونه من هذه الانتهاكات؛ فهو استهدف الناشطين والإعلاميين وقادة من الجيش الحر، ضمن سياساته القمعية؛ ومنها تقرير لهيومن رايتس ووتش في كانون الثاني 2019، حيث لم تتجاوب الهيئة مع طلبات زيارة السجون؛ وهناك قَتلُ ناشطين، وشهادات حول التعذيب في السجون. وأبرز تلك السجون دركوش وجسر الشغور وحارم والعقاب وسجن إدلب المركزي، ومعتقلات أخرى غير رسمية.

وحسب إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قتل 497 مدني على يد الهيئة منهم أطفال ونساء، و27 شخصاً قتل تحت التعذيب، وهناك 2246 شخصاً تحت الإخفاء القسري، منذ بداية الثورة.

هذه الانتهاكات، هي جزءٌ من أسباب الرفض الشعبي للهيئة، يُضاف إليها تراجع الهيئة قتالياً، وسياسات الانسحاب من المناطق وتسليم الطرق للنظام، وكذلك سعيها الدؤوب لفتح المعابر، وسياسات فرض الضرائب التي تمارسها حكومة الإنقاذ التابعة لها بحق المدنيين، وسرقة المساعدات الإنسانية، إضافةً إلى صعوبة الوضع المعيشي مع تدني قيمة العملة.

كانت الهيئة تُخوّف السكان من النظام ومن تنظيم داعش، لكن الهدوء النسبي على الجبهات منذ عام، زاد من نقمة الأهالي وتزايدت الاحتجاجات منذ الربع الأخير من العام الماضي؛ وظهرت حملة “لا للتغييب” للمطالبة بالكشف عن مصير المغيبين قسرياً في سجون الهيئة، إضافة إلى الاحتجاجات الدائمة ضد محاولاتها فتح المعابر مع النظام.

يحاول الجولاني في ظهوره مؤخراً على الإعلام الأميركي، تقديم نفسه كسلطة أمر واقع، قادرة على السيطرة على منطقة مهمة في سوريا، وأنه جاهز للتفاوض مع أميركا والغرب حول مستقبل سوريا.

هناك من فسّر تصريح المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا، جيمس جيفري، حول أن الهيئة “وديعة مهمة” للولايات المتحدة، بأنه خطوة لرفعها من قائمة الإرهاب، على غرار مع فعلت الإدارة الأميركية مع تنظيم الحوثيين في اليمن بوصفهم سلطات أمر واقع في البلاد.

لكنّ الردّ الأميركي كان واضحاً في وقت المقابلة، في شباط الماضي، بالتذكير بالجائزة الثمينة التي أعلنت عنها وزارة الخارجية مسبقاً، لمن يدلي بمعلومات حول مكان الجولاني. يضاف إلى ذلك تصريح نائب المبعوث الأميركي إلى سوريا، جويل رايبورن، مؤخراً، بأن إزالة الهيئة من قوائم الإرهاب «لا يزال يمثّل احتمالاً بعيداً».

ظهرت جبهة النصرة في 2012، وغيّرت اسمها إلى فتح الشام، ثم شكّلت هيئة تحرير الشام بالتحالف مع فصائل أخرى، وصنفت وزارة الخارجية الأميركية الجولاني وجماعته ضمن قوائم الإرهاب في أيار 2013، بسبب الانتهاكات ضد الشعب السوري.

الهيئة تحمل ضمن سياساتها عوامل ضعفها، فالانفتاح الذي تحاول إظهاره، خاصة على الغرب، يُشكّل لها إحراجاً مع المتشددين ضمنها، والذين يمثلون عصب الهيئة، وقوتها التنظيمية.

يضاف إلى ذلك، أن الاحتجاجات تتصاعد ضدّها، مع تصاعد التحديات التي تواجهها في إدارة مناطقها، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، وتقلّص نفوذها لصالح النظام من جهة، ومن جهة أخرى لصالح الفصائل المعارضة المدعومة من تركيا، حيث مكّنها الانتشار العسكري التركي من التواجد في إدلب.

قد لا تكون محاربة الهيئة ضمن أولويات الولايات المتحدة، والتي تجد أنه من الأجدى تركها تضعف وتتفكك تلقائياً، عبر سياساتها المتناقضة، وبصراعها مع منافسيها، وعبر الاحتجاجات الشعبية ضدها.

وبالتالي، لن يستفيد الجولاني من تغيير جلده الجهادي، فهو غير مقبول دولياً وشعبياً في مستقبل سوريا، ومن غير الممكن مع استمرار وجوده إعلان إنهاء تواجد فرع تنظيم القاعدة في سوريا.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.