حدّد النظام السوري موعداً لإجراء انتخاباته الرئاسية في أواخر شهر أيار؛ تلاشت بذلك كل التكهُّنات، التي تم تداولها في الفترة الأخيرة، حول أن روسيا ستُقبِل على خطوة لتغيير ما في سوريا، سواء باعتمادها على معارضة الداخل، أو عبر جسم عسكري جديد، أو حتى بتأجيل الانتخابات الرئاسية السورية.

عاد التداخُلُ في العلاقات الدولية، وتشابُك ملفاتها، ليلقي بظلاله، مرّة جديدة، على الملف السوري، مع التصعيد الأخير حول الأزمة الأوكرانية، بسبب الدعم الغربي الأوروبي والأميركي الحازم، وذو الطابع العسكري والسياسي، لأوكرانيا في مواجهة روسيا، وذلك بإبداء الناتو رغبته بضم أوكرانيا للحلف وإرسال قوات إلى الدول المجاورة، ورغبة أميركية وبريطانية بإدخال سفن حربية إلى البحر الأسود عبر تركيا.

هذا ما زاد من حدّة الخلاف الأميركي الروسي في سوريا، ومن تشدُّد الموقف الروسي، الذي اختار تعطيل فكرة تأجيل الانتخابات الرئاسية، والتمديد لبقاء الأسد في الحكم سبع سنوات إضافية، متحدِّياً الرفض المسبق لواشنطن والاتحاد الأوروبي لنتائج الانتخابات، واعتبارها غير شرعية.

قبل تفكير الأسد بشرعية انتخاباته دولياً، يواجه مشكلة مقاطعتها داخلياً؛ فمدن درعا وبلداتها رفضت فتح مراكز اقتراع، مع تهديدات لمن يروج للانتخابات فيها، وفي السويداء مؤشرات حول رغبة المشايخ بالمقاطعة، ومناطق الإدارة الذاتية ترفض إجراء الانتخابات، بل شكَّلت مفوضية عليا للانتخابات لإجراء انتخابات تخصّ مناطق سيطرتها، وإدلب هي خارج سيطرة النظام، فيما نقمة الشعب في الداخل على النظام، بمن فيهم الموالون، ستدفعهم لعدم المشاركة الواسعة.

روسيا، وعبر تحالفها مع إيران في سوريا، حقَّقت إنجازات تخصُّها، بتمكين الأسد من السيطرة على مساحات واسعة، وإبعاد خطر إطاحته على يد معارضيه، ورسَّخت تواجدها العسكري بقواعد بحرية وجوية، وحصلت على عقود استثمارات طويلة الأمد للموانئ والمطارات؛ لكنّها تواجه مشكلة التنافس مع إيران في مناطق نفوذها، وسيطرة الأخيرة على أجنحة من النظام.

روسيا لا تريد فتح معركة مباشرة مع إيران وأجنحتها، لكنَّها تعمل على تنمية حلفاء لها داخل النظام، وتستفيد من إضعافه أكثر ومن الخلافات داخل أجنحته من أجل السيطرة عليه؛ وبالتأكيد تستفيد من الهجمات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية لإضعافها، وهي تريد توجيه رسائل لأميركا وإسرائيل ودول الخليج العربي بأنها تعمل على تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، وأنّ بقاءها في سوريا هو ضمانة لعدم سيطرة إيران في ظل ضعف الأسد، وأن الإطاحة بالأسد في هذا التوقيت ستؤدي إلى انفلات الأجنحة المرتبطة بإيران.

كذلك تعمل على الإيحاء بأنها تحارب الإرهاب المتمثّل بتنظيم داعش، وتحشد لهذا الغرض في دير الزور، فيما يتحدث إعلامها عن ضربات جوية روسية مكثفة للتنظيم في بادية تدمر منذ أيام، دون إمكانية التحقق من صحة الخبر.

تستفيد روسيا، أيضاً، من الخلاف الأميركي التركي، بعد اعتراف واشنطن مؤخراً بمجازر الأرمن، وإلغاء مشاركة تركيا في برنامج تطوير طائرات إف35، عدا عن الخلاف القديم بخصوص صفقة صواريخ إس400 الروسية، والخلاف حول الدور الأميركي في سوريا الداعم لسيطرة الأكراد على حدود تركيا.

إمكانية فتح معركة في إدلب ما زالت مستبعَدة، رغم حشودات الطرفين، وذلك بسبب التصعيد في أوكرانيا وبسبب الانتخابات الرئاسية السورية؛ المرجح الآن هو تقارب تركي روسي، حيث يجري نقاش حول مقترح روسي يخصّ هدنة دائمة في إدلب، تريد منه موسكو إعادة النازحين إلى مناطقهم، وتحسين وصول المنظمات الإنسانية والدولية للعمل على البنية التحتية، وتحت إشراف الشرطة العسكرية الروسية. وهذا يتَّفق مع خطة روسيا حول السيطرة على أموال الدعم الإنساني، حيث تتحضَّر مجدداً للتصويت في مجلس الأمن على إغلاقها، وأن تمرّ المساعدات عبر دمشق، ما سيوقف تدهور الليرة السورية.

إذا أجرى النظام انتخاباته الرئاسية، وبقي الأسد في الحكم، فهذا سيزيد في إضعافه، مع الرفض الأميركي والأوروبي نتائج هذه الانتخابات. وهذا يفتح المجال على تصعيد أكبر من المجتمع الدولي ضدّ شرعية النظام السوري، لكنّ هذا التصعيد لن يتجاوز حدَّ التشدُّد في محاصرة النظام بالعقوبات الاقتصادية، ولن يرْقَ إلى مستوى الإطاحة به عسكرياً، بسبب تعقيدات وتشابكات التدخلات الدولية والإقليمية في الملف السوري.

تستفيد روسيا من ضعف النظام في تقليل دور فرقه العسكرية المرتبطة بإيران، لكنّها في الوقت نفسه تواجه مشكلة عجزها عن تعويمه دولياً، وبالتالي الدخول في عملية إعادة الإعمار والاستفادة من الاستثمارات التي وقّعتها معه.

رغم تقارب دول الخليج العربي مع روسيا، وعودة علاقات بعض عواصمه مع دمشق، إلا أنه لن يُقبِل على تمويل عملية إعادة الإعمار، ليس بسبب عقوبات قانون قيصر الأميركي وحدها، لكن أيضاً بسبب استمرار الوجود الإيراني، ولا ضمانات روسية حقيقة حول تحجيمه.

أمّا التعويل على انتفاضة جديدة في الداخل السوري، فهو مازال مستبعداً، بسبب تجربة الثورة المريرة التي انتهت بالفشل، وما رافقها من قتل وتدمير وتهجير واسع على مدار عشر سنوات، ويحتاج السوريون إلى فترة استقرار للملمة جراحهم وإعادة تشكيل أنفسهم، وتقويم أخطائهم أيضاً.

خروج الشعب مجدداً إلى الشوارع يحتاج إلى إرادة سياسية موحَّدة تصوغ برامج شديدة الوضوح، وتتعلق بمطالب تخصّ كلَّ السوريين، ومنها طرد الاحتلالات.

موسكو تتحدى واشنطن بالسماح للأسد بإجراء مسرحية انتخاباته، هذا يعني تغييباً كاملاً لأي حلٍّ في سوريا؛ فالحل الممكن لا بدَّ أن يمرَّ من بوابة التوافق الأميركي الروسي؛ هناك تحضير لقمة أميركية روسية بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين، لكن توقيته ما زال بعيداً، ولا يمكن التكهن بنتائجها، وقمة أخرى أميركية تركية، وكلا القمتين ستناقشان الوضع السوري، وقد يتحقق بعض التقارب.

الواضح حتى اللحظة أن الانتخابات الرئاسية السورية ستجري بعد أقل من شهر، وهذا يعني تثبيت التقسيم الحالي لسوريا إلى ثلاث مناطق دولتيَّة، واحتمال انفصال مناطق جديدة، وبالتالي زيادة الفوضى والتآكل السوري. تتحمّل روسيا مسؤولية كل ذلك الاستنقاع، ما يجعل الساحة السورية مرتعاً للنفوذ الإيراني، الذي يعتاش على الخراب.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.