لم يَكُن لأشدّ المتشائمين، من معارضيّ الرئيس السوريّ بشار الأسد، أنْ يتوقعوا ترشّحه للانتخابات الرئاسيّة عام 2021 وهُم الذين كانوا يمَنّون أنفسهم بتسلّم مفاتيح العاصمة دمشق، وبَنوا حساباتهم الوحيدة على تكرار النموذج الليبيّ، الذي بدأ باحتجاجات شعبية ضدّ نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، تلاه تدخل حلف شمال الأطلسيّ “ناتو” لصالح الفصائل الليبيّة المسلّحة، وانتهى بتسلّم المعارضة مقاليد الحُكْم, وقَتْل القذافي.

كانَ المشهد السوريّ خلال السنوات العشر الماضية سرياليّاً بحقّ، فَمِن نظام استبداديّ مقابل احتجاجات شعبيّة، إلى جماعات مسلحة تتلقّى الدّعم من دولٍ شتّى، وكيانات سياسيّة مُنتَجة على عَجَل من قِبَل دول إقليميّة، لم تكن حريّة وكرامّة ومصالح الشعب السّوريّ من ضمن أهدافها يوماً.

اليوم باتَ المشهد مختلفاً كثيراً، فدول الخليج باتت أقرب إلى دمشق من أيّ وقتٍ مضى، عُمان لم تقطع علاقاتها مع الحكومة السّوريّة، وهي، بطبيعة الحال، الدولة المُتَّفَق عليها خليجيّاً، كَي تكون الوجه المَرِن لمجلس التّعاون الخليجيّ.

أمّا الإمارات، التي حافظتْ على “شعرة معاوية” مع نظام الرئيس بشار الأسد، فأعادت العلاقات معها، وقدّمت مساعدات إنسانيّة، وخاصة في أزمة (كوفيد 19)، كما أعادت فَتْح سفارتها في دمشق، وتَبِعَتْها في ذلك البحرين، وهاتان الدولتان لا تتحرّكان إلا وفق المجال الحيويّ السيّاسيّ للمملكة العربيّة السّعوديّة، وبالتالي فَهُما تُمهِّدان للتطبيع الأكبر، ويبدو أنّ دمشق والرياض أصبحتا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إليه، وتَشي نبرة وسائل إعلام البلدين بأمرٍ من هذا القبيل.

بالإضافة إلى الموقف العراقيّ المؤيّد للحكومة السّوريّة، ولاحقاً المصريّ، ومؤخراً الأردنيّ، وكذلك دول أخرى عديدة ترى أن سوريا داخل المحيط العربي ستكون صاحب قرار سياديّ أقوى من الوقت الراهن.

المنطقة بِرُمِّتها تشهد منذ فترة مقاربات جديدة لأزماتها، فَمِن انفتاح سعوديّ على إيجاد مَخْرَج سياسيّ لأزمة اليمن، إلى تقارير صحفية تُفيد بلقاء رئيس الاستخبارات العامّة السّعوديّة خالد الحميدان مع مسؤولين إيرانيين في العاصمة العراقيّة بغداد، أواخر الشهر الماضي، وذلك سعياً لترميم العلاقة بين البلدين، وهو ما سيؤثِّر بشكلٍ مؤكَّد على استقرار الأوضاع في سوريا.

بالإضافة إلى دعوة عدد من الدول الحليفة لدمشق لإعادتها للجامعة العربيّة، وقد تكون قمة الجزائر بعد أشهر قليلة، مسرحاً لها، والهدف من إعادة دمشق للنادي العربيّ، هو إبعادها، بشكلٍ نسبيّ عن إيران، ومواجهة التواجد التركيّ داخل الأراضي السورية.

يبدو أنّ التطبيع العربيّ مع الحكومة السورية لم يَرُق لبعض دول”مجموعة السبع” حيث رأت بأنّ الوقت غير مناسب لهذه الخطوة، وأكدت أنّ تطبيق القرار الأممي (2254) هو الطريق الإلزامي الأوحد لإعادة دمشق للمنظومة الدوليّة.
حاولت دمشق، إطالة أمد النقاشات داخل اللجنة الدستورية، والوصول بها إلى الانتخابات الرئاسيّة، كي تفرض أمراً واقعاً مفاده أنّ الأسد رئيس شرعيّ لسوريا حتى عام 2028 والدستور القادم الذي يتمّ صياغته في اجتماعات اللجنة الدستوريّة في جنيف، يجب أنْ يُراعي هذه الحقيقة، بل أنْ يكون للأسد الحقّ في الترشّح لأيّة انتخابات أخرى تُجرى بعد العام 2028.

لكنْ تبقى مشكلة الوجود الإيرانيّ بشكله الحاليّ في سوريا  قائمة، وهو سيناريو غير مقبول خليجيّاً، وإسرائيليّاً، والأهمّ أميركيّاً، وكان هذا الوجود هو السبب الرئيسيّ لدعم دول الخليج للمعارضة السوريّة، وللقصف الإسرائيليّ المستمر للمواقع الإيرانيّة داخل سوريا، وكذلك للضغط الأميركيّ على الحكومة السّوريّة، إضافة لاعتبارات أخرى تخصّ كُلّ دولة على حِدة.

تدرك دمشق أنّ عليها التخلّي عن تشدّدها في الحفاظ على علاقتها الحالية بالجّمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، وأنّ بقاء القوات الإيرانيّة، والفصائل المسلحة التي تدور في فَلَكها، إنّما يعني استمرار الحرب، وبالتالي استمرار العقوبات الأميركيّة، والقصف الإسرائيليّ، والقطيعة مع الدول العربيّة الرئيسيّة، وكذلك دول الاتحاد الأوروبيّ.

وبالنسبة للوجود التركيّ في شماليّ سوريا، هو أيضاً عامل عدم استقرار في المشهد برمّته، فتتريك المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل السوريّة الموالية لها، والتغيير الديمغرافيّ في تلك المناطق؛ هي من القضايا الأكثر حساسيّة التي تواجه مستقبل البلاد، والمطلوب الوصول إلى حلّ سياسيّ يضمن خروج القوّات التّركيّة من الأراضي السّوريّة، وإعادة النازحين والمُهجّرين إلى ديارهم.

لن يكون ما بعد الانتخابات الرئاسيّة كما قبلها، فكثير من الدول باتت الآن في الربع ساعة الأخيرة من تحقيق ما تصبو إليه في الميدان السوريّ، فالأهداف أصبحت أوضح من ذي قبل، وأدركت أطراف الحرب الرئيسيّة أنْ لا منتصر في هذه الحرب، وأنّ قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” قد تكون الوصفة الأكثر عملانية لإنهاء الصراع الدمويّ المستمر منذ عشرة أعوام، وأنّ الدول الإقليميّة، وبالتحديد تركيا وإيران يجب أنْ تترك التدخل الفجّ في الشأن السوريّ، وأنّ سقف علاقاتها مع أي حكومة سورية مستقبليّة هي علاقات طبيعية متكافئة، مع مراعاة الهواجس الكُبرى لهما.

بهذه الطريقة وحسب، فإنْ العمليّة السياسيّة المُرتقبة إنّما ستوضع على السكّة الصحيحة، وعجلة إعادة الإعمار ستجد الفرصة للدوران، في طريق إعادة السِّلْم إلى البلاد.

وأيّ تشدد آخر من الحكومة، يعني عودة الأمور إلى نقطة الصفر، وبالتحديد موضوع العلاقة مع طهران، وتضيع فرصة الخروج من عنق الزجاجة، التي وُضعِت فيها منذ عشر سنوات.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.