يمرُّ الموقف الراهن للسوريين إزاء فلسطين عبر موقف النظام منها، كانت قضية فلسطين واحدة من المسائل الأيديولوجية لديه، فلقد كرّر كذباً أنّه يريد استرجاعها، وبالوقت ذاته أمعن في قمع ونهب وإذلال السوريين. الاستخدام هذا كان سبباً في سيادة نوع من رفض القضية الفلسطينية، وهناك من غامر باعتبار إسرائيل دولة طبيعيّة، وديمقراطيّة ولا بد من السلام معها بغض النظر عن علاقتها بالفلسطينيين! وضمن ذلك، علت الأصوات من أجل وطنيّة سوريّة لا علاقة لها بفلسطين ولا بالدول العربية كذلك؛ والأنكى أنّ النظام كان يؤسس لتلك القطرية، ومنذ السبعينيات.

مع الثورة السورية، عاد التلاحم القديم بين الفلسطينيين والسوريين، وهي الحالة الطبيعية للشعبين إلى لحظة رسوخ نظام البعث في عام 1970، فارتبكت العلاقة، لقد فَتحت المخيمات الفلسطينية أبوابها للسوريين الملاحقين من أجهزة النظام وشبيحته، وظلّت هذه العلاقة قويّة إلى لحظتنا الراهنة؛ فدمّر النظام المدن السورية والمخيمات الثائرة.

لم يستطع النظام عبر مجموعات تابعةٍ له، أن يحشر الفلسطينيين إلى جواره وضد الشعب، وساهمت ممارساته التدميرية والتهجيرية للشعب الفلسطيني كما السوري، في ترسيخ علاقةٍ قويّة بين السوريين والفلسطينيين، وإن لم تتجل عبر برامج القوى السياسية أو الرؤى النظرية بعلاقتها بالثورة.

لقد ظهر موقف فئات كثيرة من المعارضة إزاء القضية الفلسطينية عبر المواقف السياسية العامة، والمؤيدة لحقوق الفلسطينيين، والرافضة لممارسات النظام في سوريا، وهذا تمّ بتأثير عوامل كثيرة، ولكن كذلك بتأثير وطنية صاعدة في سوريا وسواها، وتؤكد سوريا أولاً أو مصر أو العراق وهكذا، وانسياقاً مع تأبد الدولة القطرية العربية، والشعور بفقدان الثقة بإمكانية تحقيق مشروع الدولة الأمة، أو التفكير بالمسألة القومية انطلاقاً من المشروع السابق.

بكل الأحوال، حصل تطوّر ثابت في هذه الفكرة، وأصبحت تنطلق من الوطني أولاً، ونحو القومي ثانياً، وضمن ذلك تُطرح قضية فلسطين، أي كجزء من العالم العربي.

شكّلت الانتفاضة الفلسطينية الجديدة، منعطفاً قويّاً إزاء القضية الفلسطينية، عالميّاًّ وسوريّاً بالتأكيد. كان المنعطف بداية للعودة لتأييد الانتفاضة والقضية الفلسطينية واعتبار إسرائيل دولة عنصرية استيطانية، ويجب تفكيكها.

ساد هذا الوعي بقوّةٍ في الأيام الأخيرة، وتلاقت أعلام الثورة السورية والفلسطينية في مختلف دول اللجوء، الذي صار سمة ملايين السوريين والفلسطينيين؛ هذا التأييد وفضح ممارسات إسرائيل لا يشكل منعطفاً جديداً في الوعي القومي العربي، ولكنه يعبر عن إعادة نظرٍ بطبيعة إسرائيل، ومشروعها في المنطقة.

إن إعادة تشكل ذلك الوعي، تُعيقه تجربة فاشلة وكارثية من الأنظمة القومية التسلطيّة، وفي أكثر من بلد عربي. الوعي الذي يتراكم ويتسيّد ومنذ عقودٍ هو الوعي الوطني المواطني، وانطلاقاً منه تتم عملية رفض إسرائيل.

إذاً التأييد العربي، ورغم ما رأيناه في الأردن ولبنان من اندفاعٍ للوصول إلى الحدود مع فلسطين، ومحاولة بعض الشباب تخطي الحدود، لا يغيّر من أن الوعي السائد هو الوطني المواطني.

الثورات العربية ومنها السورية والانتفاضة الفلسطينية، أظهرت تداخلاً بين الشعوب العربية، حيث خيضت نضالات مشتركة من أجل التخلص من الاستبداد ومن الكيان الصهيوني وضرورة تفكيكهما.

هذا الجديد في منطقتنا، يقول بضرورة قيام مشتركات بين شعوب المنطقة “العربية وسواها”، وهذا ليس خارج سياق العلاقات بين الدول، أو تحليقاً في الأوهام، فلنلاحظ موجة التطبيع الأخيرة بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان.

وبالتالي، الكلام عن مشتركات بين الشعوب العربية واليهود القابلين بدولةٍ واحدة في فلسطين، وكذلك مع بقية الشعوب وبدءاً بالكرد وليس انتهاء بالأتراك والإيرانيين، يصبح أكثر من ضرورة من أجل تغيير أوضاع المنطقة بما ينسجم مع مصالح الشعوب المفقرة والمهمشة.

أنهى إسماعيل هنية، خطابه بشكر إيران ودولٍ عربية وآخرين، وهذا يضع حركة حماس إلى جانب الأنظمة الاستبدادية. خطابه هذا يتضمن إهانة شديدة للشعوب العربية، ولا سيما في العراق ولبنان واليمن وسوريا.

لقد انعدمت الحساسية الأخلاقية لدى الرجل، وأكمل ذلك أسامة حمدان بشكر النظام السوري؛ حماس بذلك “تفرمل” من التأييد العربي لقضية فلسطين، حيث تنظر الشعوب العربية للنظام السوري كما إسرائيل وكما نظام الملالي في طهران.

رغم ذلك، هناك وعي عربي وعالمي يتجاوز حماس وإيديولوجيتها الإسلامية وداعميها، وهذا حال السوريين والفلسطينيين الرافضين لحماس، وكذلك الرافضين لسلطة الضفة الغربية؛ طبعاً هناك وعي عربي إسلامي، يحبذ حماس، على مبدأ “ناصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”.

إن مستقبل الانتفاضة الجديدة معرّضٌ للخطر، سيما بعد اتفاق إيقاف إطلاق النار، ولكن الاتجاهات اليمينية في إسرائيل وسياساتها الاستيطانية والعنصرية تقود إلى تفجرٍ جديد في الانتفاضة، إن لم نقل استمرار الحالية كذلك. الوضع هذا، والتأييد الكبير سيُبقي السوريين مؤيدين للقضية الفلسطينية.

لن نتكلم عن أن فلسطين تاريخياً جزءٌ من سوريا والعكس صحيح، وهذا سبب مركزي للاهتمام السوري بفلسطين، إن التأييد الفلسطيني الكبير للثورة في سوريا، يفترض تأييداً كبيراً للفلسطينيين كذلك. إذاً ما رأيناه من علاقة وطيدة بين السوريين والفلسطينيين، لن يتغير وربما يزداد، إذا ما قارناه بما فعله شعب الأردن ولبنان وبقية الشعوب العربية.

لن أقول إن فلسطين ما زالت متقدمة عن القضايا الوطنية، أو أنها قضية العرب المركزية فقط. فهذا أصبح من الأكاذيب؛ ففلسطين جزء من نضالات العرب، وهي على لائحة برامجهم السياسية ورؤاهم للمستقبل. أكثر من ذلك غير مطروح عربياً أو عالمياً.

هذا التأييد، لا يمكن أن يترسخ أكثر قبل الانتقال إلى أنظمةٍ ديمقراطية عربية، وسيشهد انتكاسةً كلّما قويت الأنظمة الاستبدادية التي ترفع فلسطين كقضية مركزية. هذا الترابط، من أبجديات الحياة السياسية العربية.

ما أصبح واقعي بامتياز، أن النضالات ضد الصهيونية وضد كل أشكال الاستبداد، أمران مترابطان مع بعضهما البعض، وكل فصل بينهما سيعني تقويّة للصهيونية أو الاستبداد كما فعلت حركة حماس، أو سلطة الضفة الغربية بصمتها حيال الانتفاضة وكأنّها ترسل رسالة إلى إسرائيل بأنّنا لسنا مع الانتفاضة وننتظر الحوارات “اللانهائية” بخصوص العلاقة مع إسرائيل.

درس الثورات العربية وغيرها، يضع بعين الاعتبار ضرورة رفض كل إيديولوجية دينية، أو حزب سياسي يستند إلى الدين؛ وهو حزب تقسيمي للشعب ومضاد للوطنية وداعم للأنظمة بالضرورة، وكذلك يَحرِفُ الصراع نحو الديني ويفسد الصراع القومي والوطني؛ لنلاحظ علاقة الإخوان المسلمين السوريين بتركيا مثلاً، وعلاقتهم مع إيران لم تنقطع، رغم كوارث الأخيرة في سوريا.

أكثر الشعوب التي يفترض بها تعزيز العلاقات المشتركة هي السوريّة والفلسطينيّة، نظراً لأن البلدان كانا بلداً واحداً في زمن احتلال العثمانيين، والفرنسيون والبريطانيون هم من قَسمَوا المنطقة ووضعوا الأساس للدول القطرية، ونظراُ للقرب الجغرافي الشديد؛ بكل الأحوال ما أبداه السوريون والفلسطينيون إزاء بعضهم أثناء الثورة السورية والانتفاضة الأخيرة، يشكّل مدماكاً قوياًّ نحو أفضل العلاقات بين الشعبين، وهو ما حاولنا قراءة أوجهه خلال هذا النص.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.