أمّا وإنّ الحرب السوريّة قد أتَتْ بِكُلِّ ما هو غيرُ متوقَّع، فإنّ الوصولَ لنقطةِ النهاية غير المتوقّعة، لَم يَعُدْ مستبعداً الآن، وبَعْدَ أنْ كانت إسرائيل هي أُسّ مشاكل سوريا منذ عام (1967) فربما ستصبح بوّابة الحَلّ، وتكون بداية نهاية الحرب هي عمليّة سلامٍ طالَ انتظارها بين دمشق وتل أبيب.

السَّلام الّذي لطالما كانتْ سوريا تَربطهُ بِحَلّ القضيّة الفلسطينيّة، وذلك قَبْل توقيع معاهدة أوسلو للسّلام عام (1993)، أمّا في المرحلة التي تَلَتْها، فأصرَّتْ على تلازم المسارين السوريّ واللبنانيّ، ويبدو أنّ الحال لن يبقى كما كان عليه.

انخرطتْ سوريا في عمليّة السّلام للمرّة الأولى في مؤتمر مدريد عام (1991)، واعتمدتْ مبدأ «الأرض مقابل السَّلام» وذلك عَقِب انهيار حليفها الأقوى (الاتحاد السوفيتيّ) حيث كان عليها حينئذٍ أنْ تخطوَ خطوةً نحوَ المجتمع الدوليّ الجديد المتشكّل، وكانتْ «عملية السّلام» هي الطريق الأكثر عَمَلانيّة لعودتها للمنظومة الدّوليّة.

أرادَ الرئيس السوريّ السابق حافظ الأسد تسليم نَجْله الرئيس بشار الأسد بلداً يعيشُ حالة سلام، لطالما افتقدهُ طيلة فترة حُكْمه التي بَلَغَتْ ثلاثين عاماً، لذا كانَ مُنْفَتِحَاً للوصول إلى اتّفاق سلام مع الجانب الإسرائيليّ، وشاركتْ بِلاده في جولتَيّ مباحثات مع تل أبيب في «واي بلانتيشن» عامي (1995) و (1996) وفي «شيبردزتاون» عام (1999).

انتهت المفاوضات تِلْك دونَ نتيجة، ذلك أنّ تل أبيب تخلَّتْ عن تعهّدِها بالالتزام بـ «وَديعة رابين» (التي تعهّدَ فيها رئيس الحكومة الإسرائيليّة السابق بانسحاب إسرائيل من كامل هضبة الجولان السوريّة، مقابل ترتيبات يُتَّفَقُ عليها)، وكانتْ تريدُ أنْ تُبادِلَ أراضٍ مع سوريا، وهو ما لَمْ يَكُنْ الرئيس الأسد مستعدّاً لتقديمه آنذاك.

تسلَّمَ الرئيس بشار الأسد مقاليد الحُكِم مِن والده عام (2000)، وبَقيَ الحالُ على ما هوَ عليه في قضيّة الصِّراع مع إسرائيل، وشكّلتْ حرب العراق عام (2003) بداية الضغوط الكُبرى الدوليّة على الرئيس السّوريّ، وباتَ الحَلّ -غربيّاً- أنْ يُقْدِم الأسد على مبادرة للسّلام، وهو ما طالبوا به بشكلٍ مباشر، حين أَوْفَدُوا مبعوث الرئيس الفرنسيّ السابق جاك شيراك، موريس غوردو مونتان إلى دمشق في تشرين الثاني/نوفمبر عام (2003) وكان رَدّ الأسد حينها سلبيّاً، حيث اعتبرَ أنّ الأميركيّين يريدون رأسه!.

تتابعتْ محاولات الوساطة بين الجانبَين أعوام 2007، 2008، 2010، ولكنْ باءت كلّها بالفَشَل، إلى حِيْن بداية الأحداث في سوريا عام (2011) وارتأتْ عدد من الدُّوَل دَعْم مناهضيّ الرئيس السوريّ، وصولاً إلى إسقاط حُكْمِه.

في غَمرة الضغوط الدوليّة على حكومة الأسد، كانت الأنظار تتّجه للتنازلات التي سيقدِّمُها الرئيس السوريّ لِكِلّ مِن الولايات المتحدة وإسرائيل في سبيل تخفيف الضغوط الدوليّة عليه، وكسر عُزلته، لكنّ الأسد رأى أنّ دَرْبَ خلاصه يَكْمُن في السَّير بالرَّكْبِ الروسيّ، وكذلك بالاعتماد على دَعْم حليفه الوثيق الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، واختار طريق المواجهة مع المحور الغربيّ وداعميه من دول الخليج.

راهنّ الأسد على تَضَعْضُع الحِلف التركيّ الخليجيّ، وكانَ أنْ حصلَ ذلك بالفعل، فباتتْ تركيا وقطر مِن أشدِّ خصوم السعوديّة والإمارات، وشكّلَ ذلك بداية انفتاح خليجيّ على التعاون معه.

أُوْلَى طلائع محاولات تعويم الحكومة السوريّة كانتْ قد بدأتها دولة عُمان منذ عام 2015 والمعلوم أنّ عُمان هي الدولة الخليجيّة المُتّفَق عليها لتكون الواجهة المَرِنة لمجلس التعاون الخليجيّ، وهيَ بالتالي لا تقوم بأيّة مبادرة دون موافقة «كِبار المجلس» وفي مقدمتهم السعوديّة.

ويندرج في نفس السياق التقارب الإماراتيّ السوريّ، بعد سنوات من القطيعة، لكن إدارة الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب أوقفتْ تلك الجهود، وربطتْ عودتها بتحقيق جُملة شروط أميركيّة رفضَ الأسد الامتثال لها.

روسيا هي الأخرى بدأتْ، عَبْرَ لقاء ثلاثيّ جَمَعَها بالولايات المتّحدة وإسرائيل، في حزيران/يونيو 2019 بترتيبات إعادة الحكومة السوريّة التدريجيّ للمجتمع الدوليّ، عَبْرَ إعادة وضع الجولان إلى ما كان عليه قَبْلَ الخامس عشر من آذار/مارس عام (2011) وكذلك عودة «القوّات الدوليّة لِفَكّ الاشتباك» إلى الفَصْل بين الجانبين السوريّ والإسرائيليّ في الهضبة المحتلّة منذ عام (1967) وذلك بعد سيطرة «جبهة النُّصرة» (هيئة تحرير الشّام حاليّاً) وفصائل سوريّة معارِضة على المنطقة الحدوديّة مع إسرائيل في آب/أغسطس من العام (2014).

من الواضح أنَّ الرئيس السوريّ بشار الأسد باتَ مقتنعاً أنّ إرسال رسائل إيجابيّة في هذا الصّدد هو الطَّريق الأكثر أماناً لعَودة الاستقرار إلى بلاده، لذا فقد أعلنَ أنّ سوريا مُستعدّة لإقامة علاقات طبيعيّة مع إسرائيل، بشرط استعادة الجولان، مُعتبراً أنّ “المسألة بسيطة جداً.. ولذلك، يكون الأمر ممكناً عندما تكون إسرائيل مُستعدّة”.

وتزامنت تصريحات الأسد مع إعلان لبنان عن اتفاق إطار لِبَدْء مفاوضات مباشرة مع الجانب الإسرائيليّ حول ترسيم الحدود البريّة والبحريّة بين الجانبين.

تأكيد إيران المستمرّ، إما بشكلٍ مباشر، أو عن طريق حُلفائِها في المنطقة، على أنّها سَبَبُ بقاء النِّظام، وليس روسيا، يَتأتّى مِن خِشيتها أنْ يُقْدِمَ الرئيس السّوريّ على الانخراط في جهود إخراج القوّات الإيرانيّة من سوريا، أو على الأقل، تحجيم دورها، مقابل ضمان التمديد لِحُكْمِه، وهوَ ما تَعْمَل عليه عديد الدُّوَل الفاعلة في الحرب السوريّة منذ زمن، وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة وروسيا، وبطبيعة الحال، إسرائيل، التي لطالما شنّت طائراتها غاراتٍ على مواقعَ إيرانيّة في سوريا، مترافقة مع صَمْتٍ روسيّ، وتبريرٍ أميركيّ.

قَدْ يُفاوِض الأسد تلّ أبيب، مِن كَوْنِها الطَّرَف الأكثر تأثيراً في صُنْع قرارات الولايات المتحدة المتعلّقة بالشّرق الأوسط، وبالتّالي فَهوَ، بِتفاوضه مع إسرائيل، إنّما يَكْسِب رِضا واشنطن، ما يجعله يفكر جدياً باستعادة الأراضي التي تُسيطر عليها كلٌّ من «قوّات سوريا الديمقراطيّة» في شمال وشرقيّ سوريا، بما تمتلكه من موارد طبيعيّة مهمّة للغاية، وتركيا في شمال وشمال غربيّ البلاد.

يبدو الرهان الغربيّ على إبعاد الأسد خطواتٍ عن طهران، لهُ ما يُبَرّرُه، فمستشار الرئيس الأميركيّ السابق، جاريد كوشنر، اعتبرَ أنّ أهميّة اتفاقات التطبيع بين عدد من الدُّوَل العربيّة وإسرائيل تَكْمُن في تشكيل حِلْفٍ ضدّ الوجود الإيرانيّ في سوريا ولبنان، وكذلك فإنّ دُوَل الخليج لطالما راهنتْ على هذا الخَيار، وفي مقدِّمَتِهم السّعوديّة والإمارات، وقد يكون هذا مفتاح الحَلّ في سوريا.

فاتّفاق سَلام سوريّ إسرائيليّ، تستعيد فيها دمشق أراضيها الخارجة عن سيطرتها، مع مراعاة الهواجِس الإسرائيليّة مِن أيّ وجود إيرانيّ في سوريا يهدِّد أمْنِها مِن جِهة، والانتهاء من المِلَف اللبنانيّ، وبالتّالي إزالة كلّ أسباب التهديدات الإيرانيّة من الدّاخل اللبنانيّ من جهة أخرى، وبالتالي قد يكون بداية استقرار مُستدام للمنطقة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.