برزت في الفترة الأخيرة تحركات سياسية ودبلوماسية أردنية نشطة (زيارة الملك عبد الله الثاني إلى واشنطن في 20 تموز الماضي، تلتها زيارته إلى موسكو في 23 الشهر الماضي) تطمح فيها عمّان إلى أخذ دور جديد لها في الملف السوري، عبر طرح “خارطة طريق” تخصُّ تسوية للجنوب السوري، وذلك ضمن تحركات لها أشمل في الإقليم، حيث كانت القمة الثلاثية الأردنية- المصرية- العراقية في بغداد نهاية حزيران الماضي، وتخص تعاوناً في مجالات الطاقة، وتوسع لقاء الأسبوع الماضي في بغداد، ليشمل السعودية وقطر والإمارات والكويت وإيران وتركيا وفرنسا، إضافة إلى الأردن ومصر والعراق.

هناك دوافع وراء تحركات الأردن هذه، أمنية واقتصادية وسياسية؛ الأمنية تتعلق بإبعاد خطر تمدد المليشيات الشيعية على حدودها الشمالية، خاصة أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي لم يحصل فيها تمدد للنفوذ الإيراني، فضلاً عن مخاوف من انتشار تجارة الحشيش والمخدرات، ومن حصول موجات لجوء إضافية إلى الأردن، في حال اقتحم النظام والمليشيات الإيرانية درعا البلد ومحيطها.

وهناك دوافع اقتصادية، وهي الأهم في ظل الضائقة الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها الأردن؛ ففي واشنطن، حاول الملك عبد الله إقناع الرئيس بايدن بالانضمام إلى فريق عمل “خريطة الطريق” والذي يضم الأردن وروسيا وإسرائيل ودولاً عربية، لوضع تسوية جزئية لملف الجنوب، وأن يكون تحت وصاية روسية أردنية، وأن توافق واشنطن على مراجعة العقوبات المفروضة على نظام الأسد، وخاصة المتعلقة بقانون قيصر، للسماح بالحركة التجارية مع دمشق، وبإعادة إعمار جزئي، تتعلق بالبنى التحتية في قطاعات المياه والصرف الصحي والصحة، والاستفادة من الأموال الأوروبية والخليجية، وبما يضمن عودة اللاجئين، حيث ستستفيد الأردن من حركة الأموال والبضائع اللازمة لإعادة الإعمار، عبر حدودها.

طموحات الأردن الاقتصادية تتجاوز الاستثمار في إعادة إعمار الجنوب السوري، إلى الاستفادة من خطة إنقاذ، قد تكون مطروحة، تخصّ لبنان، وهو يريد جنوب سوريا منطقة مستقرة، كونها المنفذ الأردني إلى لبنان، حيث ستستفيد من الحركة التجارية، ومن نشاط حركة الموانئ الأردنية، وفتح مكاتب لشركات إعادة الإعمار في عمّان، وبالتالي تشغيل أكبر للأيدي العاملة في الأردن، والتخفيف من مشكلة البطالة. وفي هذا السياق كان حديث الملك عبد الله أمام الرئيس بايدن عن انهيار دراماتيكي محتمل للدولة اللبنانية وهجرات طائفية وسيطرة أكبر لحزب الله، إذا لم تنفّذ خطة التعافي للبنان.

كذلك تريد عمّان أن تكون شريكاً في برنامج الغاز المصري إلى لبنان، عبر الأردن وسوريا، ما يعني أنها تريد استقراراً في الجنوب، وبضمانة روسية، وليس بضمانة النظام وإيران، المعروف عنهما نكث التعهدات.

من اللافت أن حزمة العقوبات الأميركية الأخيرة على نظام الأسد، الصادرة في 28 تموز الماضي، لم تكن ضمن إطار قانون قيصر، ولم تكن اقتصادية، ما يعطي انطباعاً برسائل حسن نية أميركية إلى الأردن وروسيا، بقبول مبدئي بالخطة، وذلك ضمن سياسة بايدن الجديدة تجاه الملف السوري، وموافقته على مبدأ “التعافي المبكر” ضمن القرار الأممي الخاص بالمساعدات الإنسانية عبر الحدود، وعبر الخطوط الداخلية.

أما الدوافع السياسية، فتتعلق بالاستثمار في موقع الأردن الاستراتيجي في المنطقة، وأن بإمكانها أخذ دور ريادي، باعتبارها البلد الوحيد المستقر نسبياً، مقارنة بدول الجوار في شرق المتوسط، خاصة بعد تعرض المملكة لمحاولة انقلاب، وأنها يجب أن تكون حائط صدّ أمام النفوذ الإيراني باتجاه الخليج، بل تقليص هذا النفوذ في الجنوب السوري، لقطع الطريق أمام رغبة إيران بتمركز طويل الأمد في الجنوب السوري، وتشكيل حزام صاروخي يمتد من جنوب سوريا إلى جنوب لبنان وصولاً إلى غزة.

التحرك الأردني ليس منفرداً؛ فوراءَه موافقة إسرائيلية، لردع النفوذ الإيراني في الجنوب، وتفعيل أكبر للدور الروسي، ووراءه حلف عربي، لنفس الدوافع، حيث كان هناك اتصالات وتنسيق مع كل من الإمارات والسعودية وسلطنة عُمان.

هناك توافق عميق روسي- أردني حول “خريطة الطريق”، تم عبر لقاءات متعددة العام الفائت، حيث تلتقي المصالح؛ فروسيا تريد أيضاً الاستفادة من أموال إعادة الإعمار الجزئي، خاصة أن بايدن وعد بجمع ملياري دولار من حلفائه، لكنها أيضاً تريد تعويم نظام الأسد، لذلك طلب بوتين من الملك عبد الله التواصل مع نظام الأسد من أجل تنسيق أمني حول إبعاد المليشيات الشيعية عن حدود الأردن، مقابل تخفيف العقوبات، وتمرير خطوط الطاقة عبر سوريا.

رغم أن دمشق بدورها تتطلع إلى الاستفادة من أموال الإغاثة والإعمار، مع تأجيل التسوية السياسية وفق المقررات الأممية، وتعطيل عمل اللجنة الدستورية، لكن إيران، المتضررة الوحيدة والمستهدفة من خطة “خريطة الطريق”، والمتحكمة بقرارات النظام، بسبب تهالك جيشه، وفق ما أظهرت المعارك الأخيرة، تفضّل التصعيد في الجنوب، وهذا ما يجعل اتفاق التهدئة الأخير، الذي بدأ تنفيذُه صباح الأربعاء، عرضة للإفشال من جانب النظام، خاصة أنه ينص على انسحاب عناصر الفرقة الرابعة والمليشيات المرافقة لها من درعا البلد ومحيطها، والاستعاضة عنها بمراكز أمنية مشتركة مع الفيلق الخامس.

بالتالي المعضلة الأكبر أمام “خريطة الطريق”، والتي يُطلب من روسيا التصدي لها، هي النفوذ الإيراني. روسيا تنافس إيران في السيطرة على الجنوب، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع الاستغناء عن مليشياتها، والاكتفاء باللواء الثامن وعناصر الفيلق الخامس.

يرفض أهالي درعا البلد والبلدات المحيطة أي تطبيع عربي مع النظام، لذلك قطعوا الطرقات بعد إعلان الأردن عودة الحركة التجارية والأفراد مع سوريا، وذلك عقب زيارة الملك عبد الله إلى واشنطن، وارتياحه للموقف الأميركي.

ترغب روسيا في إنهاء حالة المعارضة في درعا، وعلى ذلك استعجلت في إنتاج اتفاق التهدئة الأخير، مع تلبية بعض المطالب لأهالي درعا، باعتبارها ضامناً لتنفيذ بنود الاتفاق والذي لا يرضي حليفها الإيراني.

موسكو لا تملك حالياً مخططاً بشأن النفوذ الإيراني، سوى السماح بالعودة إلى التنسيق القديم مع حكومة إسرائيل حول تكثيف الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سوريا، وهو ما حصل، خاصة في القنيطرة، بعد زيارة رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الجديد إلى روسيا.

كانت تسوية الجنوب في 2018 أردنية- روسية بموافقة أميركية وإسرائيلية، ذات أهداف أمنية، تتعلق بإبعاد المليشيات الإيرانية؛ فشلت روسيا في ضمانها، ما يدفعها اليوم إلى تحقيق ما لم تستطع تحقيقه سابقاً، بتسريع تسوية أشمل للجنوب، وألا تبقى هذه المناطق خارج سيطرة النظام، وأن يتحقق استقرار جزئي، يضمن لروسيا وللأردن الاستفادة من الأموال المتدفقة من الباب الإنساني، وإعادة الإعمار المبكر، حيث تطمح الأردن للاستثمار في قطاعات النقل والتجارة.

قد يكون اتفاق درعا الأخير فاتحة لتسوية جزئية لملف الجنوب، في ظل غياب الحل السياسي، ولا تعني بأي حال تعويم نظام الأسد، بل الضغط عليه لتغيير سلوكه بعيداً عن سيطرة إيران.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.