أثار خبر افتتاح “مكاتب تعدد الزوجات” في إعزاز في الشمال السوري، العديد من ردود الأفعال؛ البعض رأى أنه يأتي ضمن سياق طبيعي، باعتباره يعبِّر عن الثقافة الدينية السائدة لدى شريحة كبيرة من المجتمع السوري، وهناك من انتقده بشدة كونه يأتي في إطار رواج قصص المتاجرة بالأرامل، والجمعيات الخيرية للثكالى والأيتام، وبغطاء ديني وشرعي.
القضية هنا ليست في ثقافات متنوعة داخل المجتمع السوري، ويجب احترامها. هذه المكاتب لا تخدم ذلك الجزء من المجتمع، القاطن في الشمال، والمتدين بطبيعته، بل جاءت استغلالاً فجاً، من قبل قوى الأمر الواقع، لعوز الناس وحاجتهم إلى لقمة العيش، في ظل غياب فرص العمل؛ أي أنها تخدم الرغبات الشخصية لقادة الفصائل الإسلامية المدعومة من تركيا، ومن يدور في فلكها من تجار الحرب واللصوص، وتحت سقف التدين وتطبيق الشريعة.
تلك القوى الحاكمة شمالاً لا تمانع افتتاح كل تلك الجمعيات التي تحط من قيمة المرأة، وتبقي المجتمع متخلفاً، وتعزز سلطتها عليه، طالما أنه يأتي تحت غطاء الدين؛ بل على العكس، فمنذ شهرين، استضاف مجلس إعزاز المحلي نفسه، الشيخ أسامة الرفاعي لإلقاء خطبة يخوِّن ويكفِّر فيها المنظمات النسوية التي تعمل على تمكين المرأة.
اللافت أن المجلس اضطر إلى إصدار بيان يتنصل فيه من ترخيص مكاتب تعدد الزوجات، ما يدل حجم الاعتراض الشعبي على تلك المكاتب، وأن الشعب بات يعي قصة المتاجرة بالدين، وأن حكامه ديكتاتوريون وفاسدون ولصوصٌ، سرقوا الثورة.
التظاهرات الأولى في 2011، كانت معبِّرة عن وجع كل المجتمع السوري، حيث نادت بالحرية، وبأن “الشعب السوري ما بينذل”، ولم تكن مؤدلجة على الإطلاق؛ ولم تحمل من الشعارات السياسية غير “إسقاط النظام”، بوصفه ديكتاتوراً، وعائقاً في وجه تطور المجتمع، وليس بدوافع طائفية أو تكفيرية، ولا من أجل المطالبة بحكم إسلامي. لكن فشل المعارضة السورية في تشكيل جسم سياسي ذو توجه وخطاب وطني لكل السوريين، وقادر على مأسسة الجيش الحر لمواجهة النظام وحماية النشاطات المدنية للمنتفضين، ساهم بشكل كبير في حالة العجز عن مواجهة الآلة القمعية للنظام، ودفع البيئات المنتفضة إلى البحث عن سبل الدعم، واللجوء إلى الممولين، وكلهم أصحاب أجندات فئوية. رغم أن التيارات السلفية كانت متواجدة منذ البداية، كونها شكلت التيار السلفي الدعوي الذي نما خصوصاً مع عودة المقاتلين من العراق، لكنها لم تتمكن من السيطرة إلا منتصف 2013، ساعدتها بنيتها التنظيمية والعقائدية المتماسكة، والتمويل القادم من الشبكات السلفية في الخليج العربي (السعودية وقطر والكويت)، والذي شمل أيضاً فصائل الجيش الحر، مشترطاً تسميات وشعارات إسلامية، كانت منفرة لجزء كبير من الشعب السوري.
كان لدخول التيارات الإسلامية على خط الثورة دور مشتِّت منذ البداية، وعلى صعيدين؛ الأول أن كل توجهات الإسلام السياسي ضمن الثورة، أدت إلى تعميق الهوة مع الفئات الموالية، ومع تلك التي لم تنتفض بعد، خصوصاً من الأقليات الدينية، في حين أنها أحدثت شرخاً من البداية مع المكون الكردي الذي انتفض في الشمال الشرقي وضمن السياق الوطني العام؛ في حين أن التوجهات السلفية تحديداً، سببت نفور الشرائح المتدينة، وتحديداً تلك التي تعتبر نفسها أكثر أصالة وقوة، مثل التيارات الإسلامية الشامية التقليدية (الأشعريين)، وكذلك التيارات الصوفية، وكلها كانت ترفض التمدد السلفي في العمق السوري.
أما على الصعيد الثاني، فقد حملت تلك الفصائل توجهات عقائدية متباينة، أدت إلى انقسامات بينها واقتتال، حتى ضمن رقع جغرافية صغيرة، كالغوطة الشرقية، والحقيقة أن النزاعات كانت على مناطق النفوذ والغنائم، ومغطاة إعلامياً بخطب شرعية وبالمناظرات العقائدية بين شرعيي تلك الفصائل؛ ويضيف عامل المناطقية بعداً مشتتاً آخر بين تلك الجيوش الإسلامية، فجيش الإسلام مثلاً نشأ في الغوطة وبدعم من تجارٍ من دوما، إضافة إلى التمويل القادم من الشبكات السلفية الخليجية، بحكم العلاقة التاريخية التي تربط مؤسسه زهران علوش بتلك الشبكات.
التيار الإخواني السوري يقول بالديمقراطية والدولة المدنية، لكن له أيضاً دوراً مشتِّتاً في الثورة السورية ومنذ البداية. لم يكن للإخوان المسلمين حضور تنظيمي قوي داخل المجتمع السوري، لذلك كانت محاولاتهم في تشكيل فصائل عسكرية، أو تبني أخرى، هامشية؛ لكن وضعهم في الخارج على العكس من ذلك تماماً، فلهم حضور سياسي وإعلامي منظم ومدعوم ومرتبط بالأجندات الخارجية، خصوصاً قطر وتركيا، وقبلهما السعودية، وبالتالي كانت سياساتهم هي المسيطرة على كل عقلية المعارضة، نظراً لأنهم الأكثر تنظيماً بين التيارات السياسية، مقارنة بتلك الليبرالية منها التي تحالفت معهم، أي إعلان دمشق، ضمن المجلس الوطني والائتلاف الوطني، والذين فرضا على السياسة السورية المعارِضة عقلية الاعتماد على الدول الداعمة لإسقاط النظام، بالتدخل المباشر أو بالحصول على الدعم، المشروط بالتأكيد، بدلاً من نقد الثورة وتطويرها.
سيطر الإخوان على كل خطاب الثورة، والذي كان طائفياً. يرى الإخوان أنفسهم ممثلين للأغلبية الدينية في سورية، وأن هذا ما سيمكنهم من الحكم، ويعتبرون سورية جزءاً من أمة إسلامية متخيَّلة، وعلى ذلك يبنون ولاءهم المطلق لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ولأجنداته في سوريا، ومن ضمنها عداء المكون الكردي، الذي يمثل جزءاً من الشعب السوري، بدلاً من البحث عن سبل الحوار معه حول شكل للدولة يحفظ حقوق الجميع.
لم يقدم الإخوان، حتى، مشروعاً إسلامياً متماسكاً، بل ظلّوا هلاميين في تقديم رؤيتهم، بما يسمح لهم ببراغماتية أعلى لتحقيق تحالفات مع كل الأطراف السياسية، وبذلك لم يقدموا انتقاداً للجهادية، لا داعش ولا النصرة ولا بقية الفصائل السلفية التي سيطرت على الساحة السورية.
توصف فصائل الشمال السوري، في مناطق النفوذ التركي، بأنها إسلامية معتدلة، أو أنها تابعة للائتلاف أو مقربة من الإخوان المسلمين، والحقيقة أنها هي، وحكومة الائتلاف المؤقتة وتيار الإخوان المسلمين، باتوا يدورون في فلك الأجندة التركية وحسب، وليس ضمن مشاريع سياسية واضحة، فيما نخر الفساد تلك الفصائل وباتت تتقاتل للسيطرة على المعابر.
تقيم فصائل الشمال سجوناً ومقرات تعذيب، وتمارس إرهاباً على الشعب الذي تحكمه، كما النظام، وبالتالي هي تحاول مصادرة التغيرات الحاصلة في وعي الشعب، سياسياً واجتماعياً، بفعل سنوات الحرب الدامية وآثارها الاجتماعية والاقتصادية. وقد وصلت بنا ديكتاتورية النظام والفصائل المعارضة إلى أن تُصنف سورية كثاني أخطر دولة على المرأة في العام 2021، بعد أفغانستان، فيما يتعلق بالعنف المنظم والسلامة المجتمعية، وفق مؤشرات معهد جورجتان للمرأة والسلام والأمن، ومركز بريو للجندر والسلام والأمن في الأمم المتحدة الصادر في 19 تشرين الأول من هذا العام.
الآن، وبعد أن خبِرَ الشعب بنفسه فساد التيارات الإسلامية، وفئويتها، ورداءة حكمها، بات من الضروري فتح نقاش حول الدولة العلمانية، وأنها إلى جانب قيم المواطنة والحريات الشخصية وحرية التجمع والدعوة، باتت ضرورية لحماية حق الأفراد والجماعات في اختيار شكل تدينهم، أو الحفاظ على مذاهبهم؛ فالدولة العلمانية وحدها قادرة على احتواء كل الاختلافات الإيديولوجية والقومية، لأنها بالضرورة مؤسسة على قيم المواطنة والحريات العامة واستقلال القضاء، وتحييد الأديان عن المجال العام، وألا يتم استغلالها في الصراعات المجتمعية. والنقاش الذي يجب فتحه، وطال انتظاره، هو حول التشويه التاريخي الذي طال فكرة العلمانية، سواء من التيارات الإسلامية على تنوعها، أو من الدول والتيارات القومية واليسارية التي ادعت العلمانية، لكنها كانت ديكتاتورية وشمولية، ووظفت الطائفية من أجل ديمومتها أو تأبيد حكمها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.