يردد الكثير من المعنيين بالشأن السوري مقولة” أن حل أو معالجة القضية السورية قد باتت مسألة توافق دولي بعيداً عن إرادة الشعب السوري”، وهو ما يدفع البعض نحو الاصطفاف مع هذا الطرف الخارجي أو ذلك، مبررين ذلك بمصالح وحاجات الشعب والأرض السورية، كأمريكا وروسيا وإيران وتركيا، حيث يعبر جزء من معارضي نظام الأسد عن قناعتهم وتفاؤلهم بالدور التركي تحديداً، على اعتبار الدولة التركية نموذجا للحكم الديمقراطي المنشود، وبفعل تقارب العادات والتقاليد الاجتماعية لاسيما ذات الخلفية الإسلامية منها، وبحكم سياسات الرئيس التركي أردوغان وحزبه العدالة والتنمية المقاربة لمطامح وآمال الشعب السوري وفق وصف أصحاب هذا الرأي. لذا وبغض النظر عن عدم صحة الاستكانة إلى تدويل القضية السورية والتعلق بأمل مساندة هذه الطرف الدولي أو ذاك لمصالح وتطلعات الشعب السوري، اعتقد أننا بحاجة إلى التدقيق في التوجهات التركية تحديدا والمؤشرات الميدانية المرتبطة بها، كونها تحظى بثقة جزء مهم من الوسط المعارض الذي يعول عليها.

فبما يخص المؤشرات الميدانية نستطيع تلمس العديد منها على المستويات الإنسانية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، حيث تحتضن الدولة التركية قرابة الثلاثة ملايين وسبعة مائة ألف سوري وفق هيئة الإحصاء التركية، فضلا عن أكثر من 7 ملايين سوري داخل سورية يقيمون في مناطق خاضعة للسيطرة التركية المباشرة أو غير المباشرة مثل إدلب ومحيطها ودرع الفرات، كما تؤثر السياسات والممارسات التركية على مصير وأوضاع أكثر من 3 ملايين سوري ممن يقيمون في المناطق الخاضعة لسيطرة قسد. وهو ما يكشف عن تأثير تركيا الكبير والمباشر لأكثر من 13 مليون سوري في كل من سورية وتركيا، أي قرابة نصف تعداد الشعب السوري المفترض والمقدر ب أكثر من 26 مليون سوري. إذ يلحظ أن الدولة التركية تحتضن العدد الأكبر من اللاجئين السوريين الذين يتمتعون بظروف أفضل من نظرائهم المتواجدين في بقية الدول المحيطة بسورية خصوصا بما يخص الحقوق الاستشفائية والتعلمية، بينما يحظون بحقوق أقل من نظرائهم المتواجدين في دول الاستقرار الدائم وخصوصا السويد وألمانيا وكندا وهولندا، التي تمنح اللاجئين حقوقا كاملةً على جميع المستويات بما فيها حق العمل والتنقل والنشاط السياسي غير المشروط. بينما يعاني السوريون في مناطق سورية تخضع لسيطرة القوات التركية أو الفصائل السورية المحسوبة على تركيا من ظروف معيشية وإنسانية صعبة وقاسية يصح اعتبارها خالية من حقوقهم الإنسانية الأساسية، من انعدام الأمان الغذائي وفقدان السلع والخدمات الأساسية، إلى الفلتان الأمني وتوغل المحسوبيات، وانعدام الحريات الأساسية بما فيها حرية العمل الصحفي والنشاط السياسي، ومن تدهور القطاعين الصحي والتعليمي، الأمر الذي تتحمل السلطة السياسية التركية مسؤوليته أيضا كونها الطرف القادر على ضبط سلوكيات الفصائل المحسوبة عليها، وعلى اعتبارها تملك الإمكانيات التي تمكن هذه المناطق من استثمار امكانياتها وتأمين حاجياتها الأساسية لو رغبت بذلك.

كذلك تتحمل تركيا مسؤولية كاملة عن الكثير من الجرائم ضد الإنسانية بحق مواطنين سوريين حاولوا عبور الحدود تجاه أراضيها، وتجاه مدنيين كانوا يقيمون في المناطق التي سيطرت عليها تركيا لاحقا في عملياتها الثلاث درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، فضلا عن مدنيين مقيمين حتى اللحظة في مناطق سيطرة قوات قسد، حيث ساهمت ممارسات حرس الحدود التركي والمعارك العسكرية التركية في قتل وإصابة عدد كبير من السوريين (قرابة ال 500 قتيل بنيران حرس الحدود التركي و300 قتيل بنيران الجيش التركي).

في حين نجد على الصعيدين العسكري والسياسي ترابطا كبيرا بينهما، فمن ناحية تلعب تركيا دورا سياسيا واضحا على اعتباره الطرف الإقليمي والدولي الداعم لقوى المعارضة الرسمية لاسيما ذات التوجهات الإسلامية، كما تلعب دروا عسكريا داخل الأراضي السورية من خلال العمليات العسكرية الثلاث التي شنتها على أرض سورية، وعبر دورها كضامن عسكري وسياسي لمنطقة إدلب ومحيطها، ونظرا للدور العدائي الذي تلعبه تجاه المناطق الخاضعة لسيطرة قوات قسد بما يشمل المدنيين هناك. حيث يبدو من حصيلة الدور التركي السياسي والعسكري في الشأن السوري مدى أولية الهواجس الأمنية التركية الساعية إلى تقويض الحقوق الكردية والمطامح الكردية القومية على حساب الأرض والشعب السوري، إذ تلجأ تركيا إلى سياسة أمنية بحتة في تعاملها مع المطالب والحقوق الكردية داخل حدودها الجغرافية، وهي ذات الاستراتيجية التي اتبعتها في سورية أيضا مع رفع منسوب العنف الدموي داخل الأراضي السورية. الأمر الذي جعل تركيا تستغل ملفات حقوق ومصالح السوريين كورقة مساومة، تستخدمها في التفاوض مع الأطراف الفاعلة في سورية من أجل غض الطرف عن عملياتها العسكرية تجاه المناطق الخاضعة لسيطرة قسد، كما تجلى عندما ساومت على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في حمص وحلب وحماة وإدلب في السنوات القليلة الماضية، وكما يخشى الكثير من السوريين تكراره في مقبل الأيام في مناطق إدلب ومحيطها. فضلا عن مساومتها الاتحاد الأوروبي على ملف اللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا ونظرائهم العالقين على الشريط الحدودي التركي- السوري، دون أي اعتبار لحاجات السوريين ومخاوفهم وظروفهم الحالية والمستقبلية، أي حولتهم إلى مجرد ورقة ضغط لا أكثر.

وأخيرا نجد على المستوى الاقتصادي مفارقات عجيبة، ففي الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2014، بلغ مجموع الصادرات الصينية نحو سوريا 5.285 مليون دولار، لتحتل المرتبة الأولى على اعتبارها أكبر مصدر لسوريا، تليها تركيا التي بلغ مجموع صادراتها خلال هذه الفترة 4.938 مليون دولار، ثم الاتحاد الفيدرالي الروسي بمجموع 3.461 مليون دولار، تليها كوريا الجنوبية بقيمة 2.144 مليون دولار.

ثم من عام 2014، أصبحت تركيا أكبر مصدر للسوق السورية، حيث وفرت 26 بالمائة من الواردات السورية، لتحل محل الصين التي وفرت 14 بالمائة فقط من حاجيات السوق السورية. وفي عام 2016، بلغ نصيب تركيا والصين من الواردات السورية على التوالي 30.74 بالمائة و21.26 بالمائة. إذ بلغت صادرات تركيا إلى سورية 1.4 مليار دولار في العام 2017، في حين بلغت المستوردات الرسمية التركية من سورية 71 مليون دولار فقط. طبعا تنشط التجارة غير الرسمية أو التهريب من سورية إلى تركيا لاسيما بما يخص الثروات الطبيعية وبعض المعدات الإنتاجية التي تم رصدها ببعض التقارير الصحفية والإعلامية، التي يستحيل تنفيذها دون غطاء وتسهيلات ومساعدات أمنية تركية. فضلا عن استثمار رؤوس الأموال السورية لأموالهم في تركيا، إذ كشفت مؤسسة البحوث الاقتصادية في تركيا (TEPAV) في تقرير لها، عن أنّ السوريين في تركيا قد أسسوا أكثر من 10 آلاف شركة حتى مطلع أيلول/سبتمبر 2018، 60%من هذه الشركات سوريّة خالصة، بينما 40% منها شراكة بين سوريين وجنسيات أخرى.

من كل ذلك نلمس وبسهولة حجم المصالح التركية في سورية ذات الأبعاد المتعددة، اقتصاديا وسياسيا وامنيا، كما يسهل تحديد الاتجاهات التي تخدم المصالح التركية، فمن ناحية اقتصادية تحتاج تركيا إلى سورية كدولة مستهلكة للمنتجات التركية أولا وكجسر عبور للسلع التركية تجاه سائر أسواق دول المنطقة ثانيا، كما تحاول تركيا الاستفادة من الخيرات والثروات البشرية والطبيعية والمالية السورية ثالثا، من خلال فتح الحدود وتسهيل عبور الكفاءات وأصحاب رؤوس الأموال. أما سياسيا فتحتاج تركيا إلى تمكين سيطرة قوى سياسية سورية تضمن لها مصالحها داخل سورية لمدة زمنية طويلة نسبيا، الأمر الذي يجعل تركيا غير معنية بمشروع دمقرطة سورية، بل على العكس تتطلب مصالح تركيا الاقتصادية حماية نظام استبدادي الجوهر وديمقراطي المظهر،يحاكي نماذج عديدة في المنطقة من العراق ولبنان وإيران يقزم العملية الديمقراطية إلى مجرد ممارسة انتخابية شكلية دورية. وهو ما تجلى في موقفها الأول من الثورة الذي سبق خلافها مع النظام وادعائها دعم الثورة، حيث حاولت تركيا التوصل إلى اتفاق سياسي مع نظام الأسد ثنائي الفوائد، يستفيد من خلاله نظام الأسد من قدرات تركيا الأمنية عبر مد أجهزة الأمن السورية بوسائل القمع الحديثة أولاً ومن خلال الاستفادة من خبرات الأجهزة الأمنية التركية القمعية ثانيا التي تمرست على قمع الحركات الاحتجاجية بوسائل أقل عنفا من تلك التي اتبعها نظام الأسد. في مقابل رضوخ الأسد لمطالب تركيا بدمج قوى المعارضة السورية المقربة منها متمثلةً بتنظيم الإخوان المسلمين ضمن هياكل النظام الحاكم والمسيطر على سورية، الأمر الذي كان سوف يحول سورية من دولة ديكتاتورية الشكل والمضمون، إلى دولة ذات مظهر خارجي ديمقراطي ويضمن لتركيا مصالحها الحيوية والاقتصادية لمدة زمنية طويلة نسبيا.

أما اجتماعيا وإنسانيا فيبدو النظام التركي غير معني بمصالح سورية والسوريين أو بظروفهم وأوضاعهم عامة، وإن كانت حريصة على الاستفادة من الطاقات الكامنة في سورية وفق حاجاتها الاقتصادية، وهو ما يتبدى في دور تركيا السلبي تجاه حماية الكتلة الاجتماعية السورية في أكثر من مناسبة كانت قد صرحت بعزمها على التدخل فيها لمنع مجازر نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، من حماة وريف دمشق إلى حمص وحلب وصولا إلى إدلب اليوم. بل ويتأكد ذلك بحكم انتهاكات حقوق الإنسان التركية تجاه السوريين على حدودها مع سورية وفي المناطق التي يستهدفها الجيش التركي والتنظيمات المسلحة السورية التابعة لها. من كل ذلك يبدو جليا أن مصالح تركيا في سورية تتناقض مع مصالح السوريين التي عبروا عنها في موجتهم الثورية الأولى، فتركيا لا تريد سورية أمنة ومستقرة تتمتع بحياة سياسية ديمقراطية وحرة، وذات بنية اقتصادية متينة تعتمد على قواها الإنتاجية الصناعية والزراعية، وبالتالي لا يمكن التعويل عليها في أي عملية سياسية دولية تهدف إلى حل أو معالجة الوضع السوري، إذ سوف تسعى تركيا من هذه العملية إلى تحقيق مصالحها في سورية عبر مساومة القوى الدولية الأخرى على مستقبل الشعب والأرض السورية، تماما كما يحدث اليوم في المباحثات التركية- الروسية، والتركية- الإيرانية، والتركية- الأمريكية. لذا بات علينا أن نعي الواقع والمصالح الدولية جيدا بما فيها التركية، حتى ندرك أن مسار الحل الدولي المزعوم ما هو سوى أداة جديدة لأسر الشعب السوري ونهب ثرواته وقدراته الطبيعية والبشرية، لذا لابد من بناء قوانا الذاتية وتنظيم صفوفنا وتحديد مسارنا التحرري والثوري الذي يقودنا إلى سورية التي نريد مهما بان ذلك صعبا وربما مستحيلا وفق للبعض في اللحظة الراهنة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.