أبرزت تطورات الأوضاع السياسية في المنطقة لا سيما المتصلة منها بسوريا، ضرورة حدوث بعض التغيير على المسارات العاملة ضمن الملف السوري، حتى تتكيف التطورات مع عوامل مشهد التوازنات هناك، لا سيما وإن كانت الأزمة السورية قد طال أمدها، والطرف الروسي أحد اللاعبين البارزين فيها قد سعى مؤخراً لتكثيف جهوده من أجل تحقيق مصالحه حتى ولو كان على حساب تحجيم نفوذ حليفه الإيراني ضمن مسارهم المشترك في “أستانا” إلى جانب الطرف التركي.

المتحدث باسم وزارة الخارجية الكازاخية، قال مؤخرا إن الجولة المقبلة من المحادثات السورية في مسار أستانا ستنعقد على مستوى نواب وزير الخارجية فقط. ما يعني تمثيلا دبلوماسيا منخفض المستوى للدول الضامنة المشاركة في المسار. ما يدفع للتساؤل حول معاني التخفيض الدبلوماسي في مثل هذا الوقت، فيما يمكن اعتباره تراجعا روسيا عن الاهتمام بالمسار الذي أنشأته قبل أكثر من 5 سنوات.

تراجع روسي؟

تقنيا، فإن المسار الذي لم تكن واشنطن راضية عنه خلال وقت سابق (قبل وصول إدارة بايدن للبيت الأبيض)، حققت موسكو منه أقصى أهدافها المرجوة من خلال السيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية وبسط نفوذها بشكل كبير هناك من خلال تغليب مصطلح “مناطق خفض التصعيد” والذي من خلاله انطلقت عمليات ما أسمته موسكو بالتسويات أو المصالحات، والانفراد بالمناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة واحدة تلو الأخرى.

باتت مسائل المعتقلين وعودة اللاجئين والدستور غير مجدية البحث ضمن مسار “أستانا”، وفق رأي المحلل السياسي، أكرم الأسمر، خلال حديثه لـ”الحل نت”، لا سيما وأن الدستور شُكّلت له بشكل رسمي لجنة خاصة، نهاية العام 2019. بينما نظمت موسكو مع دمشق مؤتمرا دوليا فيما يتعلق بعودة اللاجئين، وتعمل ضمن هذا الإطار لجنة تنسيقية خاصة مشتركة، وتعول موسكو في ذلك على علاقاتها مع دول أوروبية وعربية للدفع في هذا الملف بالتوازي مع ضرورة أن يسبقه ملف إعادة الإعمار.

أما من الناحية السياسية، فإنه ووفقاً لرؤية الأسمر فإن الرغبة الروسية في التقارب مع الولايات المتحدة داخل الملف السوري، تقتضي تخفيض الاهتمام بشكل كبير تجاه مسار “أستانا”، حتى ولو وصل ذلك لتحجيم النفوذ الإيراني ومنح الضوء الأخضر الإسرائيلي لرفع مستوى الاستهدافات العسكرية للنفوذ الإيراني على الأراضي السورية.

سيما وأن الانفتاح العربي المحدود حتى الآن على دمشق، يفيد في تغليب بعض المصالح لروسيا، ما يعني أن موسكو قد تذهب عميقا تجاه سياسة العصا والجزرة التي وضعتها واشنطن وقد تقبل بها موسكو لصالح تحقيق المكاسب في الأوراق الأكثر الأولوية لها داخل الملف السوري.

المبعوث الخاص للرئيس الروسي لدول الشرق الأوسط، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، أعلن مؤخراً بأن قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب ستكون على رأس جدول أعمال اجتماعات “أستانا” المقبلة.

وصرّح بوغدانوف قائلاً: “ستتصدر جدول الأعمال قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب وتشغيل آليات منع وقوع الحوادث”. مشيراً إلى أن “الاجتماع سيركز على تحليل كيفية تطبيق وقف الأعمال القتالية في سوريا، وخاصة في إدلب والمنطقة المحيطة بها”.

وزارة الخارجية الكازاخستانية، كانت من طرفها أعلنت موعد عقد الجولة الجديدة الـ17 من اجتماعات مسار “أستانا” بشأن سوريا. وقال المتحدث باسم وزارة خارجية كازاخستان، أيبك صمادياروف، إن المفاوضات الدولية حول سوريا وفق “صيغة أستانا”، ستعقد في مدينة نور سلطان خلال الشهر الحالي، موضحاً أن “الاجتماع سيعقد في الفترة من 21 إلى 22 كانون الأول/ديسمبر الجاري عبر الإنترنت”.

عدم جدوى استمرار “أستانا”

وكانت قد انعقدت الجولة السابقة الـ16 من اجتماعات “أستانا” في تموز/يوليو الماضي، وجاء في بيانها الختامي أن الدول الضامنة (تركيا، وروسيا، وإيران) “تؤكد على الحفاظ على الهدوء في إدلب”، و”تشدد على التنفيذ الكامل لجميع الاتفاقات القائمة في هذه المحافظة”.

الباحث السياسي، فراس رضوان أوغلو، قال إنه لم يعد هناك جدوى كبيرة لتصعيد الزخم في مسار “أستانا” بعد الوصول إلى “المرحلة الأخيرة” حيث هناك تثبيت لمناطق النفوذ لدى كل من الدول الضامنة وكذلك دمشق.

وتابع “هناك تكتيكات أخرى في المنطقة تضاف إلى احتمالات التفاهم الروسي الأمريكي. فواشنطن تنظر إلى أدوار دول أخرى في الملف السوري، ليس روسيا فقط وإنما الأردن ومصر والإمارات والسعودية وقطر. أي خطوة يتم التقدم بها ستكون بالتنسيق مع واشنطن أو أنها ستتم بعد أخذ موافقتها”.

وأعرب وفق تقديره أن هناك بعض الأمور العالقة والتي لم تحل بعد، مثل الدستور ومصير المعارضة وسحب السلاح من الميليشيات، وفق وصفه.

بحسب دراسة نشرها “مركز الجزيرة للدراسات” في آب/أغسطس من العام 2019، فإنه كان -ولا يزال- مسار أستانا ينطوي على تباينات بين الدول المؤسِّسة له. حيث يعتبر الموقف من دور الأسد في العملية السياسية المفترضة، هو الأكبر؛ إذ إن الدول الثلاث استحدثت مسار أستانا وهي مختلفة على مصيره. ففي الوقت الذي عبَّر فيه الجانب الإيراني عن تمسكه بالأسد، كان الجانب التركي يرفض هذه الفكرة تماما، لكنه لم يكن يمتلك الأوراق التي تخوله فرض موقفه أو جعله أمرا واقعا بقدر ما كان يمتلك الأوراق التي بإمكانها أن تقوض من مسار إبقائه.

وبين هذا وذاك، يحاول الجانب الروسي أن يُظهر دوما أنه ليس متمسكا بالأسد كشخص، وأن هدفه هو المحافظة على مؤسسات الدولة ومنع انهيارها التام، وفق المنطق الروسي، لكنه قدَّم -ولا يزال- للأسد كل الدعم اللازم لبقائه وتمكينه من الحكم. وإلى جانب هذا التباين، كان هناك تباينات أخرى من قبيل الآلية المناسبة لتمييز وفصل الجماعات المعتدلة عن المتطرفة، والتسلسل الذي من المفترض أن تجري فيه الأمور للوصول إلى الحل السياسي المنشود (وفق القرار 2254، أي انتقال للسلطة وكتابة دستور وانتخابات).

استمرار عجز المسار

الباحث في العلاقات الدولية، محمود علوش، اعتبر خلال حديثه لـ”الحل نت” بأن مسار “أستانا” ما يزال عاجزا عن تحقيق خرق في مسار التسوية السياسية. “يُدرك الروس أنهم عاجزون بمفردهم أو مع تركيا عن إحداث مثل هذا الخرق، من دون التعاون مع أطراف أخرى لاسيما الولايات المتحدة”.

وتابع في سياق آخر “لا يزال مصير منطقة خفض التصعيد في إدلب، يُشكل نقطة خلاف جوهرية بين تركيا من جهة وإيران وروسيا من جهة ثانية. كذلك لا تزال هناك حاجة لتفعيل هذا المسار إذا ما رغبت الأطراف الثلاثة بالفعل في الحفاظ على الهدنة الحالية”.

بينما رأى أن موسكو بحاجة لبقاء مسار أستانا بالنظر إلى الدور الذي منحته إياها في ضبط إيقاع التفاهمات العسكرية مع تركيا، فضلاً عن أنّه قد منحها دوراً سياسياً رئيسياً في عملية التسوية بعيداً عن استئثار الغربيين بهذا العملية.

فيما رأى الكاتب المتخصص في الشؤون الروسية، نصر اليوسف، خلال حديث سابق لـ”الحل نت” بأن الروس لن يتخلو عن مسار “أستانا” ولن يتركوه يموت لأنه يمثل ورقة إضافية يرفعها الروس في وجه جنيف، كلما استجدت الحاجة إلى تفاهمات جديدة.

وتابع “إذا لم يحصل الروس على ما يريدون من جنيف ومن الغرب، سيبثون الحياة مجدداً في أستانا. مسار أستانا سيظل حياً حتى شكلياً، إلا إذا حدثت تطورات جديدة بين روسيا والغرب والولايات المتحدة بشكل خاص”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.