خلال الجولة الأخيرة من مباحثات أستانا، حاول المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا الكسندر لافرنتييف ضمن لقاء صحفي الطعن بالأرقام التي تقدمها المعارضة السورية بشأن عدد المعتقلين لدى النظام السوري، من خلال طرح رقم مبالغ فيه، قال انه غير منطقي، ولا يمكن أن يكون صحيحا.

والرقم الذي أورده لافرنتييف لعدد المعتقلين هو 980 ألف معتبرا أنه لا يمكن أن يكون معقولاً نظراً لعدد السجون الموجودة في سوريا.

وبطبيعة الحال، يدرك المسؤول الروسي أن هذا الرقم الذي يرد في إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان، لا يقصد به العدد الحالي للمعتقلين، بل يشمل مجمل الأشخاص الذين تعرضوا للاعتقال، بمن فيهم من أفرج عنهم خلال السنوات الماضية، أي منذ انطلاق الحراك الشعبي ضد النظام عام 2011.

ووفق إحصائيات المرصد، فقد تعرض 968651 ألف شخص بينهم 155 ألف سيدة للاعتقال منذ بداية الثورة السورية في مارس آذار 2011 من قبل أجهزة النظام الأمنية، قضى منهم أكثر من 105 آلاف شخص تحت التعذيب، يقول المرصد أنه وثقهم بالأسماء، أما المتبقين في سجون النظام حتى اليوم فيبلغ عددهم وفق المرصد نحو 152 ألف شخص.

وقريبا من هذا الرقم، تقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنها وثقت بالأسماء وجود نحو 150 ألف معتقل لدى جميع القوى المتصارعة في سوريا، بينهم أكثر من 131 ألف شخص ما زالوا رهن الاعتقال في سجون النظام، بما يعادل 87 بالمائة من مجمل المعتقلين. أما منظمة العفو الدولية، فهي تتحدث في تقاريرها عن اعتقال عشرات الآلاف في سوريا منذ عام 2011 وقدرت أن هناك أكثر من 75 ألف شخص ما زالوا مختفين قسرا.

إذا، الرقم الذي يورده لافرنتييف هدفه المناورة والمغالطة، حيث لا أحد يعرف على وجه التحديد الرقم الفعلي للعدد المتبقي رهن الاعتقال في سجون النظام السوري العسكرية والمدنية وأقبية أفرعه الأمنية، والميليشيات والجهات الأخرى التابعة للنظام، ومن بقي منهم حيا، ومن فارق الحياة تحت التعذيب، وهذه معطيات لا يعلمها إلا النظام نفسه، وكان الأجدر بالمسؤول الروسي أن يطلب من حليفه في دمشق الأرقام الحقيقية، ولعل روسيا تعلم هذه الأرقام، أو شيء قريب منها، لأن النظام لا يتوانى حتى عن خداع روسيا نفسها، إضافة إلى انه من غير المعروف مدى التنسيق بين مجمل أجهزة النظام التي لديها معتقلين سياسيين، وهل ثمة جهة لدى النظام توثق أعداد المعتقلين لدى كل الأجهزة والجهات التي تقوم بالاعتقال، حيث هناك كثير من المعتقلين يتوفون تحت التعذيب لدى أحد الفروع الأمنية أو أحد الحواجز، دون توثيق حالتهم والإبلاغ عنهم، وفي هذه الحالة يتحول المعتقل إلى مختف قسرا، ولا يعرف مصيره، حتى لدى الجهات العليا في النظام.

وخلال الجولة الأخيرة من محادثات أستانا، وعلى غرار بعض الجولات السابقة، تم التطرق إلى قضية المعتقلين، لكن دون تحقيق أي تقدم، حيث تكتفي روسيا قبيل كل جولة بتنظيم عملية تبادل محدودة للمعتقلين بين النظام وفصائل المعارضة، لا يتجاوز المشمولين فيها عدد أصابع اليدين، ليتم اختزال قضية المعتقلين بهذا الإجراء الشكلي، والذي يساوي بين الطرفين النظام والمعارضة، برغم الفوارق الشاسعة في أعداد المعتقلين لدى كل جانب.
وخلال عملية التبادل الأخيرة، ساد هرج ومرج حول نوعية الأشخاص الذين أفرج عنهم النظام مقابل الإفراج عن أسراه، وتبين أن معظمهم من حديثي الاعتقال، وليسوا معتقلين سياسيين أصلا، وهو ما يلقي الضوء على الأداء السلبي للمعارضة بشقيها العسكري والسياسي في قضية المعتقلين، حيث لم تنجح هذه المعارضة في تحريك هذه القضية الحساسة لا على صعيد المفاوضات مع النظام عبر عملية أستانا، ولا في إطار التبادلات الثنائية مع قوات النظام، ولا حتى على الصعيد الدولي من خلال مجلس الأمن والمنظمات الدولية الحقوقية المعنية، وأخفقوا حتى في الضغط على النظام لكشف الأعداد الحقيقية للمعتقلين، والسماح بزيارتهم ومعرفة أسباب وظروف اعتقالهم.

وما يلاحظ أن مراسيم العفو التي يصدرها النظام في دمشق، تستثني عادة المعتقلين السياسيين، وتشمل فقط إطلاق سراح مرتكبي الجنايات والمخالفات المرورية، إضافة إلى الفارين من الخدمة العسكرية.
وهذا الإغفال لقضية المعارضين للنظام، أو المعتقلين على شبهات سياسية، يشير إلى أن النظام لا يتعامل مع قضية المعتقلين السياسيين بوصفها قضية حقوقية أو حتى إنسانية، بل كورقة سياسية واجتماعية، يتوخى منها تحقيق أهداف عدة:

  • إرهاب المجتمع السوري، وردع أية محاولة فردية أو جماعية للخروج عن بيت الطاعة، لأن مصير من يخرج سيكون الاختفاء وراء الشمس إلى أمد غير معلوم، وقد يكون للأبد، أو يخرج معلولا مشوها، غير قادر غالبا على مواصلة حياته بصورة طبيعية.
  • تحطيم مجتمع المعارضة نفسيا، حيث يدرك النظام مدى حساسية قضية الاعتقال بالنسبة للأسر السورية، ولكل الأسر في العالم، من ناحية شل تفكير الأسرة، وزجرها عن القيام بأي تحرك ضد النظام، وجعلها تعيش في دوامة مستمرة، خاصة إذا كان المعتقل امرأة أو قاصر، بما يعني في المحصلة، معاقبتها الأسرة كلها أيضا بالتوازي مع معاقبة ابنها المعتقل.
  • التعامل مع المعتقلين كرهائن لدى النظام، ومع قضيتهم كورقة سياسية، يمكن للنظام المساومة عليها في أية استحقاقات سياسية مقبلة. أي إمكانية إطلاق المعتقلين، أو بعضهم مقابل أثمان سياسية، تتصل ببقائه أو التسامح مع جرائمه.
  • ابتزاز أهالي المعتقلين ماديا، والتعامل معهم كبقرة حلوب مقابل أية معلومات عن ابنهم المعتقل، وتصل المدفوعات أحيانا لآلاف الدولارات، وغالبا ما يكون ذلك مقابل الأوهام، أو الوعود الكاذبة.
    يضاف إلى ذلك، وجود نزعات من الحقد والانتقام لدى دوائر نافذة في النظام، تقوم على تفكير طائفي، ينظر إلى قطاعات واسعة من الشعب السوري كفئات مستباحة، بوصفهم أعداء بالفطرة للنظام، ولا ضير بالتالي من معاقبتهم جماعيا كلما سنحت الفرصة، والاعتقال بوصفه فعلا قسريا يتم تحت ذرائع أمنية، هو أحد أبرز الميادين لهذا العقاب الجماعي الذي قد يشتمل على ميادين أخرى مثل حرمان مناطق معينة من التيار الكهربائي أو تزويدهم بها بدرجة أقل من الآخرين، وكذلك الخدمات الأساسية الأخرى بما في ذلك الوظائف العامة.. الخ

وانطلاقا من هذا، فان النظام لن يفرج على الأرجح عن المعتقلين السياسيين، حتى الذين يعلم تماما أنهم غير ضالعين في أية أنشطة مناوئة له، بناء على محاججات حقوقية أو قانونية ولا بناء على مبادرات أو مفاوضات سياسية، لأنه لا يعير هذه الجوانب أي اعتبار، بل السبيل الوحيد للتعامل مع هذه القضية، هو تصديرها إلى واجهة الاهتمام الدولي، بما يولد موقفا حقوقيا دوليا مسنود سياسيا على أعلى مستوى، يقايض النظام في قضايا أساسية بالنسبة لمصيره ومستقبله. قد يكون ذلك في إطار صفقة سياسية شاملة تتدخل فيها روسيا كضامن للنظام، أو في إطار موقف ضعف شديد من النظام حين يتلمس السلامة الشخصية لأفراده مقابل إطلاق سراح المعتقلين، وهذا غير وارد ضمن المعطيات الحالية.

ومن المعروف أن أجهزة الأمن هي الركن الأساسي لنظام مثل ذلك القائم في سوريا، وبدونها سيغدو بلا أسنان، ويفقد سطوته أمام المجتمع المحلي، وبالتالي فان هذه الأجهزة لن تقبل إطلاق سراح المعتقلين نتيجة ضغوط سياسية، لأن هؤلاء المعتقلين سيتحولون إلى شهود إدانة لهذه الأجهزة، وللنظام كله، لذلك من المستحسن بالنسبة لها أن يموتوا في السجون، أو يكون إطلاق من تبقى منهم ضمن صفقة شاملة تتضمن عدم ملاحقة قادة الأجهزة الأمنية، وأركان النظام.
كما لا ينبغي التعويل على روسيا للمساعدة في إطلاق سراح المعتقلين، لأن روسيا تفكيرها ليس بعيدا عن تفكير النظام، وتتقاطع معه في كثير من النقاط الآنفة، فضلا عن أنها في الأساس دولة لا تقيم وزنا لمعايير حقوق الإنسان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.