كان غياب المسؤولين والإسلاميون الأتراك، الذين استقبلوا في وقت مضى المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد، عن جنازته واضحا. المفكر البارز توفي منتصف الأسبوع الفائت، بعد سنين طوال عاشها في نهجه السلمي الرافض للعنف، ودفاعه عن الاحتجاجات اللا عنفية ضد الحكومة السورية.

“غاندي العرب” كما لقبه العديد من مؤيدي فكره ونهجه، لجأ إلى إسطنبول منذ حوالي 10 سنوات هربا من الحرب في سوريا، وقد توفي في 30 كانون الثاني عن عمر ناهز الـ 91 عاما. كان سعيد أحد الموقعين على ما يسمى بـ “إعلان دمشق”، وهو بيان مشترك تبنته شرائح كبيرة من المجتمع السوري الذين دعوا إلى عملية إصلاح وانتقال سلمي للسلطة في سوريا.

انتقل المفكر السوري الراحل إلى تركيا في العام 2012 بعد مقتل شقيقه خلال اشتباكات مسلحة بين قوات الحكومة السورية وجماعة جبهة النُصرة في محافظة القنيطرة التي ولد فيها سعيد في جنوب سوريا.

رافضا العديد من عروض المساعدة من الهيئات الحكومية والمسؤولين الأتراك في تركيا، عاش سعيد وزوجته، التي توفيت العام الماضي، بشكل أساسي من دعم الأسر والمنظمات الشركسية. ورغم أنه عُرف باسم “غاندي العرب”، إلا أن سعيد ينحدر من أصل شركسي، حيث ولد في قرية شركسية في القنيطرة على الجانب السوري من مرتفعات الجولان السورية المحتلة.

وينحدر أسلاف سعيد من عشيرة “تسي” الشركسية البارزة واستقروا أولا في البلقان، ثم في الجولان، بعد أن طردهم الروس من بلادهم في القرن التاسع عشر.

وكانت رؤية سعيد، بشأن الطوائف الإسلامية مستوحاة من دراسات المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، وكانت رؤيته للإسلام تشكل مزيجا من المُثل الإنسانية بما في ذلك السلام واللاعنفية وحقوق الإنسان، والقيم الديمقراطية والتقاليد الشركسية.

وقد أشاد بتجربة تركيا الديمقراطية كنموذج للدول ذات الغالبية المسلمة ومحاولتها المتوقفة الآن للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، داعيا إلى إعادة تفسير الإسلام. مع ذلك فإن معارضته الشديدة لجميع أشكال العنف التي دافع عنها على مدى الستين عاما الماضية، لم تكن في الواقع مفهومة بشكل جيد لا من قبل زملائه الإسلاميين ولا من قبل الشعب الشركسي، وفق ما أفاد به تقرير لموقع “المونيتور” وترجمه موقع “الحل نت”.

لقد أعرب سعيد خلال مسيرته الحافلة، بشكل جازم في العديد من خطاباته ومقابلاته عن أسفه لعدم وجود جهود كافية في العالم الإسلامي، من أجل تطوير أفكار تمنح الأولوية لـ اللاعنف والعصيان المدني والديمقراطية.

وكان المفكر ناشطا خلال الاحتجاجات السلمية في سوريا في العام 2011، قبل أن يتحول الغضب العارم إلى حرب أهلية، وفق تقرير “المونيتور”، وفي تجمّع بمنطقة حوران في جنوب سوريا في ذلك الوقت، حذّر سعيد الناشطين السوريين من اللجوء إلى حمل السلاح تحت أي ظرف من الظروف، وحافظ على موقفه ذلك خلال الحرب الأهلية منتقدا بشدة أولئك الذين حملوا السلاح.

ومع ذلك فإن تحدّ سعيد المستمر لجميع أشكال العنف بالكاد يتطابق مع مستوى توقعات الجماعات الإسلامية منه وهو الذي سجنته السلطات السورية مرات عدة بسبب آرائه المعارضة. سارع الإسلاميون، الذين يعتقدون أن الكفاح المسلح هو الشكل الوحيد للدفاع عن النفس، إلى صم آذانهم عن آرائه والتي هي ثابتة ومعروفة منذ الخمسينيات.

بعد أن استقر في تركيا، حاولت الجماعات الإسلامية هناك ووسائل الإعلام الموالية لأنقرة حشد الدعم لسياسات الحكومة التركية في سوريا، من خلال تصوير سعيد على أنه “عالم هرب من وحشية الرئيس السوري بشار الأسد”، وقد استُقبل سعيد، الذي تُرجمت كتبه العديدة إلى اللغة التركية في البداية بتملق كبير في تركيا، حيث ألقى خطابات في أكثر من مائة مؤتمر في مدن مختلفة في البلاد.

لكن سرعان ما تحول هذا التملق تدريجيا إلى تهرب بسبب فشل موقفه اللاعنفي الحازم في تلبية توقعات هؤلاء الذين استضافوه، بحسب مصدر مقرب من سعيد لـ “المونيتور”، وأشار المصدر إلى أن مصالحهم التي رجوها من المفكر تضاءلت، فتم دفعه إلى العزلة، كما أن دفاعه عن اللاعنف جعله يتلقى إشارات من الدوائر المؤيدة للحكومة في تركيا، فقد ذهب خير الدين كرمان، الباحث الإسلامي التركي وكاتب العمود المقرب من الحكومة، إلى حد اتهامه بـ “اللعبة في يد الطاغية”، بدون ذكر اسم سعيد بشكل صريح.

لطالما واجه سعيد خلال المقابلات الصحفية أسئلة حول ما إذا كان مع الحكومة السورية أم مع المعارضة؟ إلا أن إجابته بقيت على حالها ولم تتغير وهي أنه واجه السجن مرات عدة من قبل الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة دمشق بصفته معارضا، وقال إنه يعارض كل من تكتيكات الأسد لاستغلال العنف وكذلك الكفاح المسلح ضده، مؤكدا أنه من الصعب تحقيق السلام والديمقراطية باستخدام السلاح.

إلى جانب حاكم إسطنبول ورئيس بلدية أوسكودار، كان رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، زعيم حزب “المستقبل”، أحد القادة السياسيين القلائل الذين حضروا جنازة المفكر السوري جودت سعيد في الواحد والثلاثون من شهر كانون الثاني/يناير المنصرم. فيما كان غياب حزب “العدالة والتنمية” والدوائر الفكرية الإسلامية، التي رحبت به بذراعين مفتوحتين في البداية، واضحا في هذه الجنازة.

في غضون ذلك، اقتصر تفاعل الحكومة التركية مع وفاة سعيد على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث قدّم نائب الرئيس التركي فؤاد أوكتاي، والمتحدث باسم الرئاسة إبراهيم كالين تعازيهما عبر “تويتر”.

خلال ترتيبات دفنه، طرح بعض البيروقراطيين من أنقرة فكرة دفنه في مجمع مسجد الفاتح في إسطنبول، حيث يرقد زملاء سعيد من خريجي الأزهر، إلا أن المناشدات، التي تم رفعها إلى الرئاسة التركية لإصدار تصريح وزاري لازم لتنفيذها، لم تلق ردا، بحسب مقربين من سعيد تحدثوا إلى “المونيتور”.

ويُنظر إلى هذه الحادثة على أنها جاءت انعكاسا لخيبة الأمل التي أطلقها سعيد في صفوف حزب “العدالة والتنمية” برفضه خط الحكومة التركية بشأن سوريا، وحتى أصدقاؤه المقربون، امتنعوا عن زيارته عندما كان على قيد الحياة، بما فيهم زملائه من الأزهر. الوحيد من مسؤولي حزب “العدالة والتنمية” الذي زاره في منزله كان محمد غورمز، الرئيس السابق للهيئة الدينية الرسمية في تركيا “ديانت”.

كان ذلك ثمنا دفعه سعيد بسبب موقفه الثابت، فقد كان يُعرف في دائرته المقربة بأنه رجل ذو كرامة ووقور يعيش حياة بسيطة ومتواضعة تماما، كما أنه تجنّب قبول أي هدايا قيّمة من المسؤولين الأتراك أو غيرهم من الأفراد المؤثرين، ورفض أي عرض لمساعدته على العيش حياة مريحة أكثر. لم تكن حياته التي أسسها لنفسه في إسطنبول مختلفة عن حياته المتواضعة التي قضاها في القنيطرة، حيث كان يعيش على بقرتين وعدد قليل من خلايا النحل ودراجة هوائية صدئة، وفق تقرير “المونيتور”.

احتل سعيد مكانة خاصة في صفوف المجتمع الشركسي باعتباره عالم الدين الشركسي الوحيد المشهور عالميا، ومع ذلك فضّل أن يبقى متحفظا عن الإجابة فيما يخص المشاكل الشركسية، مثل الاندماج العرقي والثقافي عند سؤاله عن رأيه. كان طوال حياته دائم الدعم للتقاليد والثقافة الشركسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة