القنابل العنقودية والمنازل المدمرة والحصار ومواصلة الهجوم، هي طريقة روسيا في خوض الحروب.

في هذه الأيام تمطر القنابل العنقودية على المناطق المدنية في أوكرانيا. انفجارات أصابت برج تلفزيوني في العاصمة، وأخرى وقعت بالقرب من نصب تذكاري للمحرقة في كييف المهددة الآن بالحصار، وتحولت الأبنية السكنية إلى أنقاض.

فبعد أقل من أسبوع من غزوها لأوكرانيا، تلجأ روسيا إلى قواعد اللعبة الوحشية ذاتها المُستخدمة في حملاتها العسكرية السابقة والتي تسببت بمستويات هائلة من الدمار والقتل، سواء بلجوئها إلى القصف البساطي، وهو عملية قصف كبيرة تتم عادة بإسقاط الكثير من القنابل غير الموجهة على المنطقة المستهدفة بغية تدميرها بالكامل، في الشيشان خلال تسعينيات القرن الماضي، أو الحصار المكثف كما فعلت في السنوات الأخيرة في سوريا.

الخبراء يحذرون من أن العنف العشوائي في الهجمات الأخيرة ضد أوكرانيا يشير إلى تحول تكتيكي خطير، حيث يتحمل المدنيون وطأة الهجوم الروسي المتزايد والمتعدد الجبهات، بحسب ما أفاد به تقرير لمجلة “فورين بوليسي” وترجمه موقع “الحل نت”.

“نشهد نقصا مشابها جدا بالاهتمام بالحياة البشرية، نحن نشهد ذلك أسرع مما كنا نعتقد”، يقول بول سترونسكي، الزميل في مؤسسة “كارينغي للسلام الدولي”. ويضيف قائلا: “لا أعرف ما إذا كانوا يفتقرون إلى القدرة أو الرغبة في الاستهداف بدقة أكبر. أعتقد أن ما يحدث هو دمج بين الأمرين”.

“لقد تم حظر استخدام الذخائر العنقودية دوليا بسبب طبيعتها العشوائية والمخاطر المرفوضة التي تشكلها على المدنيين عند الهجوم، والتي تستمر لسنوات بعده. ينبغي ألا تستخدم هذه الأسلحة نهائيا من قبل أي شخص وفي أي وقت لاسيما في المناطق المأهولة بالسكان”، يقول ستيف غوس، مدير قسم الأسلحة في “هيومن رايتس ووتش”.

في صباح يوم الثلاثاء الماضي، تم استهداف ميدان “الحرية” في وسط كييف بصاروخ أدى إلى مقتل ما لا يقل عن عشرة مدنيين وإصابة ما لا يقل عن عشرين آخرين، بالإضافة إلى إلحاق أضرار بليغة بمبنى البلدية. كما أظهرت لقطات لكاميرا وقوع انفجار قوي خارج مقر الحكومة المحلية حوالي الساعة الثامنة صباحا، حيث أحرقت كرة نارية السيارات والمبان المجاورة.

في حين طالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، رئيس البرلمان الأوروبي اعتبار روسيا “دولة إرهابية”، حيث قال: “هذا إرهاب ضد كييف، وإرهاب ضد أوكرانيا”.

وفي حين أن التكتيكات الروسية الوحشية حققت أهدافها في الشيشان وسوريا، حيث سحقت المؤيدين للاستقلال في الأولى ودعم الديكتاتور في الثانية، يرى خبراء أنه من غير المرجح أن تؤدي إلى النجاح ذاته في أوكرانيا.

“حتى لو لجئوا إلى هذه التكتيكات للسيطرة على هذه المدن الأوكرانية، ماذا سوف يبقون؟”، يقول سترونسكي، وهو محلل روسي سابق في وزارة الخارجية الأميركية. ويضيف قائلا: “يبدو أن الأمر برمته يأتي بنتائج عكسية. إنهم يدمرون أي قوة ناعمة تركوها في أوكرانيا. فالناس الذين ربما لم يكونوا يهتمون بالسياسة أصبحوا غاضبين جدا من روسيا، لأنهم اضطروا للهروب بعيدا عن منازلهم”.

دفعت المشاهد المروعة بالمزيد من الناس إلى الفرار، وكجزء من عملية نزوح جماعية، استقل فعليا ما يزيد عن 600 ألف أوكراني سياراتهم للفرار من البلاد. “لقد بذلت قصار جهدي لأبقى في المدينة حتى هذا اليوم. أحب بلدي، وأحب مدينتي، إنها مدينة جميلة جدا، لكنها الآن هدمت”، يقول دانييل، أب لثلاثة أطفال والذي يقع منزله في كييف على بعد أقل من ميل واحد من موقع الانفجار في ميدان الحرية، لـ “بي بي سي”. وها هو اليوم يغادر نحو مولدوفا أو بولندا مع زوجته وأطفاله الصغار، بينما بقيت والدته وحماته خلفهم في المدينة.

لقد قوبل القصف الروسي المتواصل بالإدانة الدولية، حيث شبهه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بالهجمات الصربية على سراييفو في التسعينيات، حيث قال: “وقوع فظائع ارتكبت عمدا ضد مركز مدني جعلني أشعر بالشعور ذاته”.

وقصفت القوات الروسية كذلك برجا تلفزيونيا ومنشآت إذاعية قريبة في كييف، مما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص وإيقاف بث بعض القنوات. وفي غضون ذلك، حذرت موسكو من أنها على وشك شن المزيد من الضربات على العاصمة، وحثت السكان على المغادرة حفاظا على سلامتهم، مما أدى إلى اندفاع مخيف إلى محطة القطار الرئيسية.

وإلى جانب تلك الضربات المدمرة، هناك تهديد متزايد بالحصار، حيث تطوق القوات العسكرية البلدات والمدن وتقيد وصول الطعام والأدوية والسلع الأساسية الأخرى، لإجبارها على الاستسلام. فقد كان مئات الآلاف من السكان المتبقين في كييف وخاركيف وأماكن أخرى يكدسون السلع بشكل يائس قبل الحصار المخيف، مما أدى إلى طوابير طويلة خارج المتاجر المستنفدة من بضائعها.

تقول إيما بيلز، كبيرة مستشاري “المعهد الأوروبي للسلام”: “لقد رأينا صورا للرفوف الفارغة في كييف اليوم. والدخول في حصار برفوف فارغة أمر لا يمكن تصوره”. فالتهديد بالحصار، لا سيما مع انطلاق قافلة من المركبات المدرعة الروسية بطول أميال باتجاه العاصمة، أعاد إلى الأذهان مشاهد مأساوية بين مراقبي سوريا. فالأثر العقابي للحصار يجلب معاناة مدنية هائلة، حيث يختفي الغذاء والماء والأدوية والوقود وغيرها من الضروريات الأساسية تحت القصف العشوائي، ويتحول التركيز من دبلوماسية إنهاء الصراع إلى المفاوضات الدقيقة حول وصول عمال الإغاثة وطرق الإجلاء.

وتضيف بيلز، التي كتبت سابقا على نطاق واسع عن الوضع في المناطق التي يسيطر عليها معارضو حكومة دمشق، موضحة: “كانت الحصارات موجودة في سوريا قبل دخول روسيا، لكن روسيا استغلتها أكثر، حيث ساعدت في تشديد تلك الحصارات وتأكدت من أن المساعدات وغيرها من العناصر المهمة لا يمكن أن تدخل وتخرج، إلا عن طريق التفاوض. ويبدو أن أجزاء من هذه السياسة الآن مألوفة للغاية في أوكرانيا. وما وجدته مقلقا ليس فقط الطريقة الروسية كما فعلت في سوريا، ولكن أيضا عدم الاستعداد لما يمكن أن يحدث”.

غير أن الخبراء العسكريين يؤكدون أن الحصار والضربات هي أدوات حرب، ولا تستخدمها روسيا وحدها. حيث يقول بين باري، خبير حرب الأرض، وزميل في “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية”: “إذا كنت تكتب قائمة بعوامل النجاح في حرب المدن منذ عام 1939، فإن محاصرة البلدة أو المدينة المستهدفة غالبا ما يكون عاملا من عوامل النجاح. في بعض الأحيان يسمح المهاجم للمدنيين بالمغادرة عبر طرق محددة، وبالتأكيد يبدو أن روسيا قدمت هذا العرض فيما يتعلق بكييف، ولا أعرف فيما إذا كان الروس سيحترمون ذلك أم لا”.

من جهة أخرى، فإن مقاومة أوكرانيا الشديدة للغزو الروسي، إلى جانب اللوجيستيات “الفاسدة” لروسيا (على حد تعبير خبير دفاع أمريكي)، قد أحبطت خطط موسكو لتحقيق نصر سريع. وردا على ذلك، قررت روسيا قصف المناطق المدنية لإضعاف معنويات المقاومة وإجبار أوكرانيا على قبول مطالبها. حيث جاءت الهجمات المدمرة على خاركيف بعد أن صدت القوات الأوكرانية توغلا روسيا فاشلا الأسبوع الماضي، مما أثار تكهنات بأن الهجوم على خاركيف خلال اليومين الماضيين يمكن أن يكون خطوة انتقامية ومصممة لإرسال رسالة واضحة.

ويختتم باري، وهو قائد سابق للجيش البريطاني الذي خدم في عمليات “الأمم المتحدة” و”حلف شمال الأطلسي” (الناتو) في البوسنة، حديثه بالقول: “إنهم يحاولون أن يظهروا للأوكرانيين أنهم إذا وقفوا وقاتلوا، فستكون هناك خسائر مدنية وعسكرية كبيرة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.