باستثناء بعض التداعيات على المستوى الاقتصادي، لم تتبلور بعد التداعيات المحتملة على سوريا جراء الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث تشترك سوريا وأوكرانيا بوجود فاعلين أساسيين مشتركين في الساحتين، روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة لكون الأزمتين، السورية والأوكرانية، هما نتاج الصراعات الجيوسياسية، أو ما يمكن تسميته، الصراع على المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية نظراً لموقعها الجغرافي الحاكم.

تشكل سوريا في الفكر الإستراتيجي الروسي، الذي صاغه في العقود الأخيرة، الكسندر دوغين، الحد الجنوبي لأوراسيا، والذي يرتبط بدرجة كبيرة بالأمن القومي الروسي، وخاصة في الأجزاء الجنوبية “القوقاز” الذي يشكّل صداعا روسيا مزمناً، حيث تهب تيارات التأثير الإسلاموية؛ في حين تشكّل أوكرانيا الخاصرة الرخوة للأمن القومي الروسي، والسهول التي طالما سلكها الغزاة البولنديون والألمان لاحتلال روسيا عبر التاريخ.

حتى اللحظة، لا يبدو أن لدى خصوم روسيا أي رغبة في استغلال الساحة السورية لتشتيت القوّة الروسية وإضعافها، إذ تتركز الجهود بدرجة كبيرة على تضييق ساحات المواجهة مع روسيا إلى أبعد الحدود، ومحاولة إدارة الأزمة الأوكرانية بحذر حتى لا تخرج عن حدود أوكرانيا وتتسبب في صدام مع روسيا قد يخرج عن السيطرة ويتحوّل إلى صراع عالمي لا يرغب أحد به في هذه المرحلة.

لكن هذا الوضع لن يبقى على الدوام، ثمّة مؤشرات عديدة على أن العالم يعود بزخم إلى الحرب الباردة، وان الأزمة الأوكرانية، ومهما كانت نتائجها ومخرجاتها، فتحت الباب أمام صراعات مستقبلية، ستكون روسيا وحلف الناتو في قلبها، وهذا الصراع سينتقل إلى ساحات عديدة، وخاصة تلك التي تعتبر خواصر رخوة يمكن من خلالها تشتيت الخصم واستنزاف طاقته وإضعافه، ولا شك فإن سوريا تعتبر ساحة مثالية لتحقيق هذه الأهداف ضد روسيا لأسباب عديدة:

  • بعد سورية عن مراكز الغرب الحيوية، وبالتالي فإن الصراع فيها سيكون أكثر مرونة منه في أوكرانيا القريبة من حدود الناتو والمتداخلة مع مراكز المدن الغربية، إذ أن أي خطأ في هذه الرقعة ستكون نتائجه كارثية على الطرفين.
  • الفوضى الموجودة في سوريا، نتيجة وجود قوى عديدة متنافسة، محلية وإقليمية ودولية، وإمكانية استخدام الوكلاء بكثافة في الحرب فيها، كما أن قواعد الاشتباك في سورية تتميز بمرونة شديدة نتيجة هذه الفوضى وتعدّد الفاعلين.
  • عدم تأثير الحرب في سوريا على التفاعلات الاقتصادية العالمية، ولن تتأثر الأسواق الكبرى بتداعيات الحرب السورية، ويبدو أن أوروبا أصبحت أكثر أمانا من موجات لجوء محتملة قد تأتيها من سورية نتيجة الإجراءات الأمنية التي جرى تصميمها في السنوات السابقة على حدود الإتحاد الأوروبي الجنوبية والشرقية، وكانت أزمة اللاجئين الأخيرة من بيلاروسيا إلى بولندا اختبارا مهماً لمناعة الحدود الأوروبية.

لكن، لماذا الاعتقاد بأن ثمة تداعيات مستقبلية حتمية على سورية نتيجة الأزمة الأوكرانية؟.

لقد نبهت أزمة أوكرانيا الغرب إلى ضعف إستراتيجيات المواجهة مع روسيا والصين، وكذلك ضآلة الموارد المخصصة لهذه المواجهة، مع أن لا بكين ولا موسكو كانتا تخفيان تحديهما للنفوذ الغربي وتهديدهما لمصالح الدول الديمقراطية، بل أن بعض الدوائر الغربية ذهبت إلى إرضاء روسيا في محاولة لإبعادها عن الصين، التي ترى التقديرات الأمريكية أنها ستشكّل في المرحلة القادمة خطراً على الديمقراطيات الأسيوية والمصالح الأمريكية في منطقة المحيط الهادي.

تجلى ضعف الموارد المخصصة لدعم إستراتيجيات المواجهة ضد روسيا والصين في إفراغ بعض المناطق، وخاصة الشرق الأوسط، والسماح لروسيا بالتمدّد من دون أي عوائق، وخاصة في سوريا، أما الضعف الإستراتيجي فقد ظهر عبر اعتماد أوروبا الكلي على الغاز الروسي رغم معرفة هذه الأطراف احتمال توظيفه سياسياً لإضعاف تأثيراتها القارية مقابل ترسخ السيطرة الروسية في أجزاء واسعة من القارة الأوروبية.

يمكن القول، أن الأزمة الأوكرانية، دفعت الغرب، وعبر الإجراءات العديدة التي اتخذها ضد روسيا، إلى تصحيح الأخطاء التاريخية التي تم ارتكابها، فإضعاف روسيا يجري على قدم وساق عبر العقوبات الاقتصادية الهائلة التي تم فرضها على موسكو، والتي ستكلّفها أثماناً باهظة.

لكن من غير المتوقع حسم الصراع مع روسيا في أوكرانيا خلال مدّة زمنية قصيرة، وثمّة احتمالات كثيرة لمسار هذا الصراع، من احتلال لكامل أوكرانيا وتنصيب حكومة موالية، أو اقتطاع أجزاء من أوكرانيا وترك بقية المناطق في حال من الفوضى والعطالة، وفق مبدأ تجميد الصراعات الذي تجيده روسيا وسبق أن طبقته في جورجيا، وحتى في سوريا، ومن ثم تحويل أوكرانيا إلى أزمة أوروبية، سواء بسبب استمرار تدفق اللاجئين، أو التهديدات الأمنية الناتجة عن الفوضى في بعض مناطق أوكرانيا، ويزيد من هذا الاحتمال انخراط مقاتلين أجانب في هذه الحرب.

من الطبيعي أن الغرب لن يكتفي بإعادة توازن القوى في أوروبا مع روسيا، ذلك عنصر من عناصر إستراتيجية باتت مؤكدة، لكنه سيسعى أيضا إلى استنزاف روسيا، والبحث عن أي نقطة ضعف لها في مناطق انتشارها خارج أوروبا، بالإضافة لذلك، باتت سورية تشكّل معضلة إستراتيجية لمنظومة الأمن الأوروبي بعد أن أنشأت روسيا فيها قواعد عسكرية وزودتها بأنواع من الأسلحة يمكنها التأثير على جنوب أوروبا وسواحل البحر الأبيض المتوسط.

لا يمثّل ذلك كامل الصورة التي من المحتمل ان تكون عليها سوريا نتيجة تداعيات الأزمة الأوكرانية، فاصطفاف نظام الأسد بشكل قوي وصريح إلى جانب روسيا سيدفع الأطراف الغربية الفاعلة، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى عدم الاهتمام بالحل السوري في المرحلة المقبلة، والأخطر من ذلك أن قضايا مثل التعافي المبكر وإعادة الإعمار أصبحت من الماضي، ليس فقط انتقاما من نظام الأسد على موقفه في الأزمة الأوكرانية، ولكن لأن موارد الغرب وطاقاته ستذهب إما إلى إعادة إعمار أوكرانيا في حال تمت هزيمة بوتين، أو لتدعيم دول أوروبا الشرقية، الأعضاء في الناتو والإتحاد الأوروبي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.