يجمع طيف واسع من السوريين على أهمية البنى الديمقراطية السياسية وعلى حرية الرأي منذ اندلاع الثورة السورية و حتى الآن، في حين غابت هذه البنى والمبادئ عن مجمل الساحة السورية الداخلية والخارجية، الموالية للنظام الحاكم والمعارضة له، داخل مناطق سيطرة النظام وخارجها، كما لا ينحصر غياب هذه البنى والمبادئ على الإطار السياسي فقط، بل يتعداها إلى الأطر الاجتماعية والاقتصادية وأحيانا الفنية والرياضية، وهو ما يؤشر إلى عمق الأزمة الثقافية والاجتماعية والسياسية.لكن وفي مقابل غياب البنى الديمقراطية ومنظومة الحوار السوري- السوري، نلحظ تزايداً واضحا في مبادرة السوريين لإبداء آرائهم وتحديد موقفهم من كل شاردة وواردة، عبر الوسائل المتاحة والمتمثلة فقط في صفحات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي جعل من صفحات التواصل الاجتماعي ساحة للتعبير رغم عفويتها وانتقائيتها، وهو ما حول النقاش الدائر إلى فعل آني مؤقت يستحيل البناء عليه لاحقا.

من هنا نلحظ إشكاليتين في الحوار أو النقاش السوري، الأولى منهجية إجرائية تتعلق في كيفية التعبير عن الرأي، والثانية منهجية تنظيمية أو بالأصح لا تنظيمية. فبما يخص الإشكالية الأولى المنهجية نجد أن السمة العامة لغالبية النقاشات السورية- السورية المنظمة والعفوية على صفحات التواصل الاجتماعي، أنها ذات توجه اتهامي لا يخلو من التخوين المباشر أو شبه المباشر، كالتخوين الوطني أو الإنساني أو الأخلاقي، دون أن يكلف المتهم نفسه بإسناد اتهاماته بأدلة تدعمه أو تؤكدها، أدلة حقيقية ترقى إلى مستوى هذه الاتهامات الخطيرة. إذا هناك استسهال في رمي الاتهامات شمالا ويمينا، وكأننا في مضمار سباق اتهامي، الأمر الذي يقصي جميع الأصوات المخالفة، مهما كانت درجة خلافها، فلا مكان هنا لأي اختلاف مهما صغر أو كبر حجمه، وهو ما يتناقض كليا مع جوهر النقاش أي نقاش كان، وبالطبع يلغي كليا الحق في إبداء الرأي، ويفرض تقسيمين قسريين لا ثالث لهما، إما معي أو ضدي.

تعود هذه الإشكالية إلى أسباب عدة نفسية وثقافية وللأسف سياسية أيضا، خصوصا إن عدنا بها إلى البدايات الأولى، وبالتحديد إلى أشهر الثورة الأولى، التي عمل خلالها الإعلام الرسمي ومن ثم المعارض على فرض انقسام مجتمعي قسري قائم على الموقف السياسي، مع أو ضد النظام في خطاب الإعلام الرسمي، مع أو ضد الثورة في خطاب الإعلام المعارض، فلا وجود لأي تباينات أو تدرجات هنا أو هناك، لا وجود لموقف وسطي رافض لسياسات النظام وناقد لسلوكيات المعارضة الرسمية بحدها الأدنى، كما لا أمل بحدوث اختراقات هنا أو هناك، فالمؤيد سوف يبقى مؤيدا والمعارض كذلك، لذا لا أهمية تذكر للحوار والنقاش والعمل السياسي ولا قدرة لهم على تغيير التوجهات، كما لا دور لهم في معالجة الأخطاء أو الهفوات التي ساهمت في نفور شريحة اجتماعية ما من هذا الطرف أو ذاك. قد يكون ذلك مقبول في أشهر الثورة الأولى خصوصا بعد تصاعد ممارسات النظام القمعية والأمنية والإجرامية، لكنه غير مقبول لاحقا رغم استمرار جرائم النظام وتصاعدها أيضا، كونه يلغي أهم مهام النضال السياسي المتمثلة في التحريض والتعبئة والاقناع، التي تشكل جوهر العمل السياسي وأساس نجاح أي عملية تغيير شعبية، وهو ما افتقدته الساحة السورية حتى الآن للأسف.

لقد استمر النقاش السوري ذو الطبيعة الإقصائيةعلى ذات النسق في كل قضية سورية أو إقليمية أو دولية، كالنقاشات الاتهامية التي حصلت بعد إقرار قانون قيصر وحول الغزو الروسي وبشأن المصالح والممارسات التركية والخليجية والعربية، وصولا إلى الموقف الذي طال رسام الكاريكاتير السوري علي فرزات. بل بتنا اليوم في موقع أسوء من ذي قبل، بعدما لعبت الشخصيات العامة دورا رئيسيا في سحق الحوار السوري- السوري، وتكريس بنى ثنائية متناقضة ومتنافرة غير قابلة للتقارب، على قاعدة إما مع أو ضد، إذ اعتمد جزء كبير من الشخصيات العامة ومنهم فرزات نفسه، على أسلوب يتهرب من نقاش الفكرة عبر خطاب تحريضي واتهامي يرمي به في وجه كل صوت لا يتفق معه في الأسلوب أو جزء من أفكاره، وعليه نقيس ذات الممارسة في قضايا مشابهة.وكأن النخبة السورية السياسية والاجتماعية والفنية تروج لسياسة القطيع، وتكرس الولاء والتبعية المطلقة والعمياء، في حين كان عليها أن تلعب دورا مغايرا ونقيضا بالمطلق، دور المحاور المنطقي الهادئ والمرن القادر على تدارك الهفوات والأخطاء وتصحيحها بأسرع وقت ممكن، دور يرفع من قيمة الموقف الجماعي، ويحول القضايا العامة إلى ساحة للعمل الجماعي المنفتح على التطور وعلى المساهمة المجتمعية، حتى تتحول من مجرد رأي عابر إلى عمل مشترك دائم وقابل للتطور.

هنا وقبل الانتقال إلى الإشكالية الثانية لابد من المرور على الموقف من الأزمة الأخيرة التي أثارها فرزات، إذ تخندق فرزات خلف معارضته المحقة للائتلاف الوطني ولسائر المؤسسات المعارضة التابعة الإعلامية منها والسياسية، هاربا من أخطائه التي اقترفها في تعليقاته المشينة والسوقية في بعض منشوراتها على صفحات التواصل الاجتماعي، التي انحرفت من النقد السياسي إلى الإيحاء الجنسي الخالي من النقد السياسي وبالطبع الخالي من الحوار. حيث استخدم إيحاءات جنسية فجة بذريعة الخلاف السياسي، وهناك فرق كبير بين استخدام الجسد البشري من أجل نقد الموقف أو التوجه السياسي، وبين استخدام الموقف السياسي كأداة للتحريض الشخصي والتنمر السياسي التي مارسها فرزات بشكل فج في تعليقاته ومنشوراته الأخيرة تجاه غالبية المختلفين معه من عامة الشعب ومن العاملين بالحقل العام، الذين رماهم بتعليقات معيبة ومخلة بأدبيات الحوار، وزادها باتهامات كيدية غير مسنودة بأي دليل يذكر جاعلا منهم مجموعة متماسكة وموجهة على اعتبارهم مرتزقة لهذه الجهة أو تلك، معتقدا أن إلقاء الاتهامات جزافا عبارة عن أسلوب هجومي يعفيه  من نقاش الآراء التي يطرحونها، وبالتالي يعفيه من الإقرار بالخطأ وبالطبع من تصحيحه، وكأنه معصوم عن أي خطأ مهما كان صغيرا، وهو ما أعمى بصيرته عن الخطأ الكبير الذي أقترفه ومازال يقترفه.

أما إشكالية الحوار السوري الثانية، فتتمثل بحصره عبر صفحات التواصل الاجتماعي، فكل الأطراف الفاعلة في الشأن السوري تدعوا لحوار سوري- سوري، دون أن تبادر إلى تنظيم فاعلية حوارية دورية يدعى لها طيف واسع من القوى المنظمة والمثقفين والشخصيات الفاعلة والناشطة في الحقل العام، مهما  كانت آرائهم وتوجهاتهم، طبعا لا ضير من وضع ضوابط عامة أو مبادئ عامة تضبط آليات المشاركة في الحوار، دون أن تتحول إلى آليات إقصاء قسرية وفق رؤى ومصالح الجهات الداعمة والممولة، فالغرض الحقيقي من الحوار السوري- السوري هي تمثيل مصلحة سورية وشعبها والتوصل إلى أفضل سبيل ممكن لذلك، خصوصا في ظل الوضع الكارثي الحاصل في سورية. طبعا هناك بعض الفعاليات الحوارية غير المنتظمة التي تدعوا إليها بعض الأطراف السورية، والتي تقصي بعض الأطراف أو الأصوات الناقدة أو المعارضة لتوجهات الممولين، كما تفتقد هذه الفعاليات للاستمرارية التي تعتبر شرط محوري في تطوير الحوار السوري الداخلي، وأخيرا تفتقد للشفافية والمشاركة الشعبية ولو بحدها الأدنى الأمر الذي يحد من دورها وتأثيرها ويفقدها أي إمكانية للتأثير على الوضع السوري ومجرياتها والأهم على وعي وتوجهات الكتلة الاجتماعية السورية.

في النهاية وقبل الختام توحي مساهمات السوريين عبر صفحات التواصل الاجتماعي ببعض السمات الإيجابية التي يمكن البناء عليه، لكن سوف نكتفي بالإشارة إلى سمتين منها، الأولى توق السوريين للحوار وتبادل الآراء حول مختلف القضايا الداخلية والخارجية، وهو ما يعكس انخراط السوريين في الشأن العام وفي العمل السياسي، وبالتالي يعكس رغبتهم في صنع التغيير واستعدادهم لتحمل تكلفته المعنوية والمادية والجسدية. في حين تعكس السمة الثانية تطورا ملحوظا في وعي شريحة كبيرة من السوريين القادرين على نقاش أي قضية داخلية أو خارجية من منظور شمولي يربط الثقافي بالسياسي والاقتصادي والاجتماعي والعكس بالعكس، الأمر الذي ينبئ بإمكانية بناء رأي عام تكاملي منهجي، بعيدا عن التدجين القسري الذي اعتمده النظام السوري منذ بدايات سيطرته على الحكم، ثم اعتمدته المعارضة الرسمية لاحقا لاسيما بعد انطلاق الثورة السورية. وعليه نحن أمام سمتين مهمتين يمكن البناء عليهم مستقبلا، خصوصا إن تم الاستفادة منهما في خطة منهجية توعوية على المستوى الثقافي والاجتماعي وتحريضية وتعبوية على المستوى السياسي والاجتماعي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.