تتوالد على هامش الحرب على  أوكرانيا والغزو الروسي لها، ديناميكيات جديدة من شأن تطورها أن يؤدي إلى فوضى أمنية خطيرة، ويبدو أن هذه الحرب لن تكتفي بالجغرافية الأوروبية، ولن تكون محصورة ضمن حدود أوكرانيا، إذ أن نذرها السيئة بدأت تتجمع بوضوح في سماء الأزمة السورية.

وفيما يبدو أنه محاولة لاستغلال الضباب الذي ينشره دخان الحرب الأوكرانية والذي يحجب الأنظار عما يحصل في منطقة الشرق الأوسط، تتسلل كل من تركيا وإيران باحثتين عن مساحات نفوذ جديدة في سوريا، كانت تقع سابقاً في نطاق المحرمات عليهما، نتيجة ترتيبات دولية وإقليمية، أو جرى إخراجهما منها تنفيذاً لتفاهمات بين الفاعلين الإقليميين والدوليين، والتي كان من مخرجاتها، ابتعاد إيران عن جبهة الجولان السورية.

في شرق سوريا، ربما لا يخرج التصعيد التركي عن السياق الصراعي الذي طالما كان هو العنوان الرئيسي في تلك المنطقة بين تركيا و”قسد”، إذ سبق أن شهدت المنطقة ثلاث جولات صراعية، كان من نتيجتها فرض تركيا لواقع عسكري جديد، في محاولة منها لتقوية أوراقها التساومية في سوريا، وبدرجة أقل في تخفيف أزمة اللجوء عبر خطط ومحاولات توطين أعداد من اللاجئين في هذه المناطق.

ويأتي التصعيد الحالي في إطار هذا السياق، لكنه أيضاً ينطوي على أهداف سياسية انتخابية، إذ يسعى الرئيس التركي رجب أردوغان إلى توظيف نتائج هذا التصعيد في الانتخابات التركية التي بدأ العد التنازلي لها، ومن المتوقع أن تحدث في موعدها المعلن حزيران 2023، والتي تشكّل مسألة اللجوء السوري أحد أكبر محاور التنافس الانتخابي فيها، وتلمّح الحكومة التركية أنها بصدد توطين أكثر من مليون ونصف من اللاجئين السوريين في تركيا بمناطق شرق وشمال سوريا.

ومع أن هذا الرقم يبدو كبير جداً على المناطق المشار إليها، حيث لا توجد بنية تحتية و خدمية كافية لخدمة هذا الرقم الكبير، في مناطق تستوعب بالأصل أكثر من طاقتها من السكان، نتيجة وجود أعداد كبيرة من النازحين فيها، إلا أن الواضح أن الحكومة  التركية تبحث عن حلول سريعة لحل أزمة معقّدة، من أجل تقديمها في الانتخابات القادمة كورقة تدعم موقف “حزب العدالة والتنمية” و “أردوغان”، وبالتالي لن يكون مستغرباً رؤية مئات ألوف السوريين في أكبر طابور من الأراضي التركية إلى الأراضي السورية التي تقع خارج سلطة نظام الأسد.

وربما أدركت روسيا هذا التوجه، وبالتالي تحاول التصدي له عبر عودة التوتر في المناطق الشمالية والقيام بقصف مكثف في مناطق جبل الزاوية والتركمان، واستهداف مقصود للمواقع التركية في الشمال، غير أن المعادلة التركية-الروسية الجديدة، لا تقتصر فقط على التوتر بينهما في شمال سوريا وشرقها، بل تطوي بداخلها، الموقف الروسي المنزعج من اقتراب تركيا من الموقف الغربي في الحرب الأوكرانية، والذي ترجمته الإجراءات التركية ضد روسيا من خلال منع سفنها العبور للبحر الأسود عبر المضايق التركية أو منع مرور طائراتها المحمّلة بالجنود والأسلحة إلى قواعدها في سوريا العبور عبر الأجواء التركية.

في جنوب سوريا، تسارع إيران في إعادة تشكيلاتها العسكرية إلى هذه المنطقة، فيما يبدو انه ناتج عن تنسيق مع روسيا، التي أخذت علاقاتها مع إسرائيل تتوتّر نتيجة موقف الأخيرة من الأزمة الأوكرانية، مما دفع روسيا إلى التلويح بورقة الجولان في المنابر الدولية، وتأكيدها بأن ما تقوم به إسرائيل من إجراءات وممارسات في الجولان يهدّد الاستقرار الإقليمي، وهذا معناه، أنها تشجع ما يسمى” المقاومة” التي تدعمها إيران في العمل ضد إسرائيل في الجولان، أو على الأقل تراها مشروعة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

وتلوح روسيا بورقة إنهاء” السماوات المفتوحة” التي سمحت لإسرائيل عبر السنوات الماضية بمنع إيران من التموضع في جنوب سوريا من خلال استهداف نشاطاتها في تلك المنطقة، الأمر الذي ستفسره إسرائيل على أنه إعادة صياغة غير مقبولة للتفاهمات والمعادلات التي استقرت عليها العلاقات الروسية الإسرائيلية طوال سنوات الحرب في سوريا، وبالتالي ستبحث عن مقاربات جديدة للتعاطي مع هذه الأوضاع الناشئة لحماية أمنها القومي حتى لو تطلب ذلك المغامرة بخوض حرب أوسع على الجبهات السورية واللبنانية.

الملفت أن جميع اللاعبين المنخرطين في الأزمة السورية، يصدرون عن مواقف مأزومة، ويحاولون التنفيس عن أزماتهم في المقلب السوري إذا جاز التعبير، ولو اقتضى الأمر تفجير المعادلات التي توافقوا عليها في المراحل السابقة، ومن الواضح أن قواعد الاشتباك، في ظل استمرارية هذا النهج التصعيدي، في طريقها إلى التغيّر، بعد أن جعلتها التطورات الأخيرة غير مناسبة، وبناء على ذلك يمكن رسم سيناريوهين للتطورات في سوريا في المرحلة المقبلة:

السيناريو الأول: تصادم الفاعلين الأساسيين، عبر وكلائهم في سوريا، فحكومة أردوغان تستعجل إيجاد حل لأزمتها الانتخابية في سوريا، وروسيا المطعونة بفشل إستراتيجيتها العسكرية في أوكرانيا تسعى لاستعراض قوتها في سوريا، وإيران تسعى إلى تقوية أوراق تفاوضها في فيينا، وإسرائيل لا يمكنها الصمت عن التحركات الإيرانية في جنوب سوريا، وبالتالي فإن اللعبة بالنسبة للجميع في سوريا باتت لعبة صفرية، بمعنى أنه لا مجال للمساومة، وأي تقدم لطرف ما على جبهة من الجبهات هو خسارة قاتلة للطرف الأخر، ما يعني أن سوريا ستكون في الأشهر القادمة مسرحاً لأنماط من الحروب والصراعات.

السيناريو الثاني: حلول الفوضى بأعلى درجاتها، حالة أقل من الحرب المباشرة بين الأطراف، أو حرب غير معلنة، تشتمل مناوشات دائمة وعلى كل الجبهات، وقد لا تؤدي إلى تغيير في المواقع، لكنها ستسهم في خلق مناخ فوضوي يحطم الاستقرار في سوريا بدرجة كبيرة ويفاقم في سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية أكثر مما هي سيئة.

من غير المتصور أن يحدث عكس ذلك في سوريا، ومن السذاجة الاعتقاد بأن الأمور تسلك مسارات مغايرة، فالمتغيرات الجيوسياسية المتسارعة ستفرض نمطاً جديداً من الاشتباك في الساحة السورية، باعتبارها أكثر الساحات المزدحمة بخطوط التماس التي بات تحريكها ضرورة لتدعيم المسارات الجيوسياسية المأزومة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.