تحدثت غالبية التقارير والتحليلات السياسية عن تداعيات الصراع الدولي عامة والغزو الروسي على أوكرانيا خاصة على الوضع السياسي السوري والعالمي، في حين ندرت التحاليل التي تسلط الضوء على تداعياته الاجتماعية والاقتصادية، خصوصا على المجتمعات التي تعاني من تداعيات الحروب والصراعات الطويلة الأمد مثل المجتمع السوري. فغالبا ما تشير التحاليل إلى ارتفاع الأسعار وشح المواد التي باتت تعاني منها مجمل شعوب العالم، لكن تبدو المعاناة مركبة في حالة المجتمع السوري والمجتمعات التي تعاني كذلك من تبعات النزاعات المباشرة من تشريد ولجوء وانهيار اقتصادي وسياسي وانقسام جغرافي، وذلك نتيجة عوامل مركبة تجتمع على سحق هذه المجتمعات وانهاكها.
إذ دفع الصراع الأمريكي- الروسي دول العالم لزيادة إنفاقها العسكري حتى في الدول ذات الحياد العسكري، كألمانيا واليابان وسويسرا والسويد وفنلندا وغيرهم من الدول، فوفق تقرير معهد ستوكهولم لدراسات السلام الدولي (SIPRI) بلغ الإنفاق العسكري العالمي أعلى مستوياته في العام 2021 عند 2.1 تريليون دولار، أي ارتفع الإنفاق العسكري عن العام الذي سبقه بمقدار 0.7%،على الرغم من تراجع الاقتصاد العالمي نتيجة تداعيات أزمة كورونا وتبعاتها الاقتصادية،كارتفاع مستويات البطالة وأزمة سلالات التوريد والإغلاقات المتعددة طويلة الأمد. حيث تتسابق دول العالم على امتلاك التكنولوجيا العسكرية الدفاعية والهجومية، لاسيما في قارة أوروبا وأسيا كالصين واليابان وأستراليا والهند وإيران، وهو ما يؤشر إلى زيادة مخاطر اندلاع حروب جديدة في المدى القريب، مما ينعكس على الأوضاع الاقتصادية العالمية، من خلال مزيد من تضخم الأسعار وشح المواد والسلع وعلى رأسها الغذائية والنفطية.
على صعيد متصل وفيما يخص تضخم الأسعار نلحظ مسارعة دول العالم المتقدمة إلى محاولة ضبط الأسعار بكل الوسائل المتاحة، إما من خلال زيادة الإنفاق الحكومي على أصحاب الدخل المحدود، وهو ما يستهلك ميزانية الدول المتقدمة مجددا، بعد استنزافها بزيادة الإنفاق العسكري الذي تحدثنا عنه سابقا، ومن خلال المساعدات الإنسانية المرتبطة بغزو أوكرانيا. أو من خلال رفع معدلات الفائدة كالقرارات التي اتخذها البنك الفيدرالي الأمريكي، والتي تؤثر على مجمل الاقتصاد العالمي لاسيما في الدول المستدانة بعملات أجنبية. وعليه أصبحنا في مرحلة تستنزف ميزانيات الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، الأولى نتيجة حجم الإنفاق العسكري والاجتماعي المتضخم، والثانية بسبب ارتفاع أسعار المستوردات وانخفاض قيمة الناتج المحلي، الأمر الذي يهدد بانهيارات اقتصادية في الدول الهامشية المستقرة وبكوارث في الدول التي تعيش اضطرابات عسكرية وربما السياسية أيضا.
كل هذه المآسي والتعقيدات سوف تنعكس سلبا وبصورة مضاعفة على ظروف وأوضاع الكتلة الاجتماعية السورية داخل وخارج سورية وبدرجة أقل على المتواجدين منهم في دول اللجوء المستقر، فمن ناحية أولى باتت سورية دولة مستوردة لغالبية السلع الأساسية بما فيها الغذائية نتيجة التدمير الحاصل والنزوح والتقسيم الجغرافي، فمناطق النظام تستورد المنتجات النفطية والقمح والحبوب من المناطق الخارجة عن سيطرتها، كما تستورد المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بعض السلع الغذائية الزراعية من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فضلا عن تكلفة الاستيراد الخارجي لباقي الاحتياجات من ذات السلع ومن غيرها، وهو ما يرفع من مستويات التضخم في سورية نتيجة ارتفاع وشح السلع عالميا ونظرا لأولويات المصدرين، فمن مصلحة المصدرين تصدير سلعهم لأسواق مستقرة تربطهم بها علاقات اقتصادية وسياسية مشتركة بدلا من سورية المنهارة. وبالتالي فالمعاناة الاقتصادية والاجتماعية السورية لن تقتصر على مناطق سيطرة النظام فقط، بل سوف تشمل مجمل الجغرافية السورية بغض النظر عن طبيعة وهوية الطرف المسيطر عليه والقوى الدولية الراعية لها.
كما سوف تنعكس الظروف العالمية على تراتبية القضية السورية وبالتالي على رعاية أو متابعة الشأن السوري، فميزانيات الحكومات حول العالم تستنزف اليوم بفعل السباق المسعور نحو التسلح، فضلا عن ارتفاع تكاليف الرعاية الاجتماعية حول العالم في ظل التضخم العالمي والتباطؤ الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والفقر، وهو ما يؤدي إلى تقليص مخصصات الدعم والقروض والمنح الخارجية حول العالم، فضلا عن أولوية القضية الأوكرانية على سائر القضايا الإنسانية، لاسيما في حسابات حكومات الدول المتقدمة الأوروبية والأمريكية نظرا لتعقيداتها وتأثيريها المباشر عليهم، حيث تشكل كل هذه العوامل مؤشرات مقلقة على أوضاع السوريين داخل وفي محيط سورية، الذين يشكلون الجزء الأكبر من السوريين، والذين يعتمدون بشكل شبه كلي على المساعدات الخارجية الدولية والفردية، وهو ما تؤكده العديد من التقارير والتصريحات الدولية. كما في حديث الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي ” أصبح هناك أكثر من 14 مليون سوري في حاجة للمساعدة الإنسانية، إضافة إلى وجود عشرات الآلاف من المحتجزين والمختطفين والمفقودين”، كما حذرت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية جويس مسويا من تناسي القضية السورية في جلسة مجلس الأمن ” بينما تتجه أنظار العالم إلى صراعات أخرى، لا ينبغي أن تصبح سورية أزمة منسية، حيث يكافح ملايين السوريين كل شهر للبقاء على قيد الحياة”، كذلك استعرضت مسويا انخفاض حجم المساعدات المرسلة للسوريين في الآونة الأخيرة قائلة “نشر ثلاث قوافل هذا العام عبر الخطوط باتجاه شمال غربي سورية، بينما أرسلت الأمم المتحدة العام الماضي شهريا 800 شاحنة من المساعدات عبر الحدود”.
طبعا لا تقتصر الظروف السابقة على السوريين داخل مناطق النظام، بل تشمل محيط سورية أيضا، حيث رصدت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الأردن أن هناك نحو 65% من اللاجئين السوريين يعيشون بأقل من 4 دولارات في اليوم، وحذرت من أن ثلاثة أرباع اللاجئين سيكونون فقراء. كما رصد تقرير لمنظمة وورلد فيجن أوضاع 28 مخيما سوريا واستعرض الوضع الكارثي فيها ” لا يُسمح للنساء بمغادرة المخيمات بحرية. وبسبب عدم تمكنهن من البحث عن عمل مدفوع الأجر أو إعالة أسرهن، يجد البعض أنه لا خيار أمامهن سوى الانخراط فيما يسمى بـ الجنس من أجل البقاء”. أما الحوالات الخارجية الفردية، التي اعتاد السوريين المغتربين والمستقرين في دول اللجوء المستقر على تحويلها لعائلاتهم ومعارفهم بشكل دوري، فهي أيضا معرضة للانكماش بسبب التضخم العالمي وبالتالي ارتفاع تكاليف المعيشية حول العالم، ومنها دول اللجوء المستقر.
وعليه تزداد ظروف السوريين المعيشية صعوبة يوما بعد أخر، نتيجة استعصاء الوضع السوري ميدانيا وسيطرة قوى الاحتلال المتعددة على الجغرافيا والمصير والخيرات السورية ونتيجة ثانوية مصير السوريين في حسابات المجتمع الدولي والحكومات العالمية، وهو ما يضع الغالبية السورية أمام ثلاث خيارات صعبة إما الموت بصمت، أو الارتزاق لأي ممول ومعين مادي مهما كان الهدف والثمن، وإما المضي في طريق التغيير الثوري والتحرري مهما كانت الصعاب والعقبات والتكاليف. لكن علينا أن ندرك أنها خيارات نظرية فقط، حيث لا يملك السوري البسيط فيها حق الاختيار بحق، فالخيار النضالي خيار جماعي يتطلب تحقيقه شروطا وعوامل ذاتية كثيرة، يتحمل مجمل الشعب السوري المسؤولية عن غيابها حتى الآن بعد مضي أكثر من أحد عشر عاما على اندلاع الثورة السورية، فهي مسؤولية جماعية، تماما كما هي أوضاع السوريين وسورية الراهنة أيضا، لذا فقد حان وقت العزوف عن تحميل الآخر مسؤولية الوضع السوري رغم صحة ذلك نسبيا، من أجل العمل الجماعي على تغيير الواقع السوري بأسرع ما يمكن، أو على الأقل تهيئة الظروف الذاتية المناسبة لتغيره لاحقا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.