يفر الرجال السوريون في عمر التجنيد، الأمر الذي يجبرهم على تأجيل أحلامهم. فبالإضافة إلى الظروف الاقتصادية والسياسية القاسية، تستمر الخدمة العسكرية الإلزامية في زيادة رحيل الشباب السوريون الذين قد لا يعودون إلى البلاد مجددا.

وينتشر الفارّون والمتهربون من الخدمة العسكرية، حتى هؤلاء الذين يؤيدون الحكومة السورية، على نطاق واسع الآن. وبوتيرة ثابتة، تستنزف الهجرة من سوريا بعضا من أفضل نخبها وأكثرها تألقا، حيث يختار الكثير منهم الآن الذهاب إلى إقليم كردستان العراق. أما أولئك الذين لا يستطيعون الخروج من البلاد، فإن أفضل الفرص المربحة المتبقية أمامهم قد تكون الانضمام إلى الميليشيات أو الذهاب للقتال في الخارج.

المقابلات التي نشرها تقرير لموقع “المونيتور” وترجمه موقع “الحل نت” مع 20 سوريا في سن التجنيد يقيمون في إقليم كردستان العراق تؤكد أنهم كانوا يميلون إلى إكمال خدمتهم العسكرية قبل الحرب. وكانت الحكومة السورية قد وفرت آلية رسمية للإعفاءات من الخدمة، للابن الوحيد أو لبعض الأسباب الطبية، على سبيل المثال. وحصل طلاب الجامعات على تأجيلات تلقائية يمكن تمديدها، وكذلك يمكن للسوريين المقيمين خارج البلاد دفع رسوم بدلا من الخدمة.

وتشكل نسبة الرجال في سن التجنيد، والذين يحددهم القانون السوري بين سن 18 – 42، خمس سكان البلاد. ومنذ عام 2011، اعتبر الكثير من الرجال في سن التجنيد أن الخدمة العسكرية أشبه بعقوبة الإعدام، فهاجروا أو تهربوا بشكل جماعي من الخدمة.

والأشخاص الذين تحدثوا لـ”المونيتور” أوضحوا أنهم فروا إلى مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة أو إلى خارج البلاد بشكل كامل. وانخفض عدد جنود الجيش السوري النظامي من 300 ألف قبل العام 2011 إلى 80 ألفا في العام 2015، نتيجة لعوامل مشتركة منها الخسائر الكبيرة في ساحات المعارك وتشكيل فصائل المعارضة على إثر الانشقاقات في صفوف الجيش النظامي.

وبحسب تقرير متعمق أجرته سلطات الهجرة النرويجية، فإن التهرب من الخدمة العسكرية يعتبر السبب الرئيسي لفرار الشباب السوري اليوم، ويرتبط ارتباطا وثيقا بالحالة الاقتصادية المتدهورة منذ العام 2020. ومجرد زيارة إلى أي مطعم أو مقهى في إقليم كردستان العراق يوضح تماما موجة النزوح الجماعي هذه، حيث تشير التقديرات الحالية في الإقليم إلى وجود 500 ألف إلى مليون من الرجال السوريين، مع وصول العشرات أو حتى المئات كل أسبوع بالطائرات من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة.

وقد التقى “المونيتور” في السليمانية بـ آزاد (اسم مستعار) خلال عمله في أحد المطاعم، حيث روى هذا الشاب كيف انتهى به المطاف هنا بعيدا عن مدينته عفرين في شمال سوريا. ففي العام 2010، التحق آزاد دورة التجنيد المشؤومة رقم 102، وهي آخر مجموعة دخلت الجيش قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية، وأصبح لاحقا جزءا من اللواء 52 شرق درعا، حيث كان يمضي الساعات خلف أجهزة إطلاق صواريخ كونكورس روسية الصنع، متظاهرا بإطلاق الصواريخ ضد دبابات وهمية.

وقد انطلقت المظاهرات المناهضة للأسد في درعا في آذار 2011. وحذر الضباط هناك من الفرار من الخدمة. “أطلقوا النار على أي شخص يفر”، يتذكر آزاد ما قيل له.

وتراوحت تقديرات عدد الفارين من الخدمة العسكرية خلال العامين الأولين فقط بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية مابين 20 ألف إلى 100 ألف. وأصيب آزاد في حادثة دراجة نارية ومنح على إثرها إجازة مؤقتة لحين تعافيه. فاجتمع بعائلته في عفرين بأمان، إلا أن آزاد ذهب إلى أهله دون عودة. وبذلك خالف آزاد القانون بالرغم من أنه قضى أربعة أعوام في الخدمة، ما يزيد عن عامين على الفترة القانونية للخدمة، وهو يعاني اليوم من آلام مزمنة في ركبته وأسفل ظهره.

وفي تشرين الأول 2018، منحت الحكومة السورية عفوا عاما عن السوريين الفارين من الخدمة العسكرية، إلا أن آزاد رفض العودة. وقال أن الاضطرار إلى الانضمام لصفوف الجيش مجددا والقتال معه هو الشيء الوحيد الأسوأ من عدم اليقين فيما يخص بدء حياة جديدة في مكان آخر.

إلا أن آخرون يرون أن الخدمة العسكرية ضرورية. فـ ذو الفقار، من جبلة على الساحل السوري، يوضح كيف عمل في البداية على سفينة تجارية تسافر إلى ما يزيد عن 13 دولة. ولكن بعد أن نفذ تنظيم “داعش” الإرهابي في العام 2016 سلسلة من التفجيرات على طول الساحل السوري والتي راح ضحيتها ما يقارب من 200 شخص خلال يوم واحد، لاحقت ذو الفقار كوابيس بأن مقنعين يهاجمون أسرته بينما يقومون بالشواء على الشاطئ. فالتحق بسلك الضباط، وشعر أنه بمحاربة تنظيم داعش يحمي أسرت، لكنه أدرك على الفور أن الجيش “لن يبنيه كرجل أو أي شيء”، على حد تعبيره.

وبينما سعى ضباط آخرون للحصول على عمولات ورشاوى، صادف ذو الفقار جنود روس مثل رامبو وميليشيات ذات رواتب جيدة. وسمع كيف كان تنظيم “داعش” يسخر من الجنود السوريين من خلال رمي علب سجائر مارلبورو والدجاج عليهم. واستمر ذو الفقار بدعمه للحكومة السورية، ولكن أخيرا عندما سنحت له الفرصة فر، وهو منذ ذلك الحين في أربيل.

ومع فرار المؤيدين أيضا، استغلت الحكومة الرجال في سن الخدمة العسكرية من خلال المال لقاء الإعفاء من الخدمة. ويشكل هذا الجزء الأكبر من إستراتيجيتها القائمة على الرسوم لتحقيق تدفق الإيرادات المتبقية، على غرار سياستها المتعلقة بجوازات السفر. فزادت الحكومة تكاليف الإعفاء إلى سبعة آلاف دولار أميركي لمن قضى أربعة أعوام في الخارج. وبات على الرجال تأجيل مستقبلهم إلى حين دفع رسوم التأجيل للحكومة.

وبالإضافة إلى كل ما ذكر، تم تجنيد السوريون مؤخرا للقتال في أماكن بعيدة مثل ليبيا وأذربيجان وحتى فنزويلا. فقد سافر خالد في زيارة قصيرة من أربيل إلى مسقط رأسه في السويداء، لينتهي به الأمر عالقا هناك مدة تسعة أشهر بسبب إغلاقات فيروس “كورونا”. وبسبب مشاعر الفتور واليأس، سقط في الفخ وفكر بالانضمام إلى ميليشيا روسية. “كان عمي قد عاد لتوه من ليبيا. لقد جنى 10 أضعاف ما يمكن أن يجنيه أي شخص هنا. لقد كنت على وشك عقد صفقة مع الشيطان”، يوضح خالد. إلا أن الحدود فتحت من جديد وعاد إلى أربيل.

وقد فتحت روسيا في شهر آذار/مارس الماضي مكاتب تجنيد للسوريين من أجل القتال في أوكرانيا. وبحسب أحد المسجلين فإن الراتب الشهري يبلغ 2000 دولار. وهذا شريان للحياة، حيث يعيش 90 بالمئة من السكان في فقر وحيث يحقق أكبر مهندس ما يقرب من 120 دولارا فقط في الشهر. حتى أن المتقدمون رشوا مراكز التسجيل ليكونوا في القائمة المختصرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.