التشنج التركي الذي لوحظ قبيل افتتاح قمة الناتو يوم الثلاثاء 28 حزيران هو تتويج لسلسلة من الأزمات التي أضرت بالعلاقات مع الأوروبيين والأمريكيين منذ ما يقارب من عقد من الزمان. فالمعسكر الغربي يحتاج إلى تركيا أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة أواخر القرن الماضي.

كذلك بالنسبة لموسكو، فإن تركيا محاور ذو أهمية كبرى. وفي كييف، ينظر إليها على أنها شريك دفاعي رئيسي. ومن خلال سيطرتها على المضائق، ووجودها في البحر الأسود، ستكون تركيا أيضا القوة الرئيسية في أي اتفاقية تسمح بتصدير القمح الأوكراني إلى بقية العالم، حيث يلوح خطر أزمة الغذاء العالمية، وفق ما أفاد به تقرير لصحيفة “لوموند” الفرنسية وترجمه موقع “الحل نت”.

ومنذ العدوان الروسي على أوكرانيا، كانت تركيا ضرورية وتعتزم حكومتها الاستفادة من ذلك، لأنها تواجه وضعا اقتصاديا متدهورا وموعدا انتخابيا رئيسيا في عام 2023. وفي مثل قمة الناتو، تستغل أنقرة، وهي عضو في التحالف منذ عام 1952، موقعها لإسماع مخاوفها الإستراتيجية، حتى لو كان ذلك يعني إزعاج حلفائها الغربيين.

وتتحمل السويد وفنلندا على وجه الخصوص العبء الأكبر من كل هذا. فإلى جانب الاتهامات الموجهة رسميا إلى البلدين بشأن علاقاتهما مع الحركة الكردية، تجد ستوكهولم وهلسنكي نفسيهما عالقتين في وسط العديد من الخلافات التي لم يتم حلها بين أنقرة وواشنطن والعواصم الأوروبية. كما يعاني البلدان أيضا من العلاقة الغامضة التي أقامها رجب طيب أردوغان مع روسيا فلاديمير بوتين.

استقلال استراتيجي

يقول مصدر دبلوماسي من شمال أوروبا: “احتجزت تركيا السويد وفنلندا كرهائن لأسباب خارجة عنهم. وقراءتنا لما يجري هي أن المطالب التركية، من حيث الجوهر، تتعلق بالأمريكيين فعليا وتتعلق بشكل خاص بعلاقاتهم مع أكراد سوريا”.

ويتساءل مصدر دبلوماسي سويدي آخر قائلا: “هل يريد الأتراك الحصول من الروس على انفراج في تصدير الحبوب الأوكرانية للظهور كصانعي سلام، مقابل تعنتهم في قمة الناتو في مدريد؟ هل يريدون الحصول على شيء ما من الأمريكيين؟ هناك قضايا أخرى غيرنا”.

ومع ذلك، فإن التعنت التركي له تاريخ أقدم من الصراع الأوكراني. إنه تتويج لسلسلة من الأزمات التي أضرت بشدة بالعلاقات بين أنقرة وحلفائها الأوروبيين والأمريكيين لما يقارب من عقد من الزمان. وهذه السلسلة بدأت مع الحرب السورية، حيث تباعدت المصالح التركية والغربية بشكل جذري، ابتداء من عدم اهتمام الغرب بخيار تغيير النظام في دمشق والتحالف الذي أقامه الأمريكيون مع القوات الكردية السورية في مواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي.

ويقول علي أونانير، السفير التركي في فرنسا والذي يأسف لأن باريس قد اتبعت خطى واشنطن: “لن يتم حل جذر المشكلة إلا عندما ينهي حليفنا الأمريكي تعاونه مع حزب العمال الكردستاني. بعد هجمات باتاكلان في باريس في تشرين الثاني 2015، حاول حلفائنا شن معركة منخفضة التكلفة ضد داعش . فتخيل كيف ينظر الرأي العام التركي إلى الأمر؟ فأعظم حليف أوروبي لنا، لتجنب 200 حالة وفاة في باريس، جاء إلى حدودنا للتعاون مع الإرهابيين”.

من جانبه، يقول الدبلوماسي التركي السابق سنان أولجن، وهو مدير “مركز الأبحاث المستقل”، في إسطنبول: “لقد جعلت سوريا العلاقات بين الأتراك والغربيين موضع شك أكثر من أي وقت مضى، كما دفع تغيير مواقف الأمريكيين والأوروبيين بتركيا إلى السعي للاتفاق مع روسيا في محاولة لتأمين استقرار الوضع على حدودها”.

ففي الواقع، كان بقاء تركيا وحيدة على الأرض السورية السبب الرئيسي للانخراط مع موسكو، في شكل من أشكال “الإدارة المشتركة” للصراع. وإذا لم يمنع هذا التوافق التركي الروسي التوترات العنيفة في بعض الأحيان، فإنه قد سمح لأنقرة ببناء استقلالها الاستراتيجي.

ويوضح يوحانان بنهايم، الباحث في المعهد الفرنسي للأناضول، أن “دوائر صنع القرار في أنقرة لم تعد تنظر إلى البلاد على أنها قوة غربية فقط، ولكنها دعت إلى بناء شراكات مع العديد من القوى ودائما في خدمة مصالح تركيا الخاصة. فهناك جيل جديد داخل الدوائر الحاكمة لم يعمل خلال الحرب الباردة. ولم يعد لديهم بالضرورة إيمان بالحلف الأطلسي فحسب، بل إنهم يميلون أيضا إلى رؤية الغربيين على أنهم معادون بشكل منهجي لمصالح تركيا”.

أخطاء في الإدراك

إن منطق الإدارة المشتركة هذا، الذي بدأ على الأرض السورية، يتكرر في ليبيا كما في نزاع ناغورنو كاراباخ بين أرمينيا، المعتمدة على روسيا، وأذربيجان، الحليف الوثيق لأنقرة. وعلى أي حال، سمح تورط تركيا وروسيا بتهميش الغربيين نسبيا.
فهل اعتقدت أنقرة أن هذا المبدأ يمكن تطبيقه على الصراع الأوكراني؟ بكل الأحوال، استغرق الأمر وقتا قصيرا قبل أن تستأنف تركيا، المشتبه في أنها اغتنمت فرصة غير متوقعة، محاولاتها للمساومة مع الغرب بشأن المسألة الكردية والجوار الإشكالي مع اليونان وإمدادات الأسلحة.

فأنقرة تلوح منذ نهاية أيار/مايو المنصرم بتدخل عسكري جديد ضد مواقع القوات الكردية، وهذا أمر مستحيل دون موافقة روسيا والولايات المتحدة. كما أنه ومنذ بداية الأزمة الأوكرانية، كان أردوغان أكثر عدوانية تجاه جاره اليوناني. ويلخص مصدر دبلوماسي من أوروبا الغربية المشهد قائلا: “نظرا لموقعها الاستراتيجي، فإن تركيا لديها مصلحة كبيرة في استخدام إلحاح الوضع ومكانتها داخل الناتو لتصفية الحسابات بشأن جميع القضايا”.

ويرد أونانير قائلا: “نحن نضمن وقف هذا العدوان على أوكرانيا، وقد اعتبرت تركيا نفسها دائما العضو الأوروبي الذي لا غنى عنه في الحلف. والانتقادات التي نتلقاها، مهما كانت خاطئة، تظهر أن حلفائنا، الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء فهمنا جيدا، لديهم الفرصة لفعل ذلك. لم يكن هذا هدفنا، لكن إذا سمح لهم هذا بالتغلب على أخطائهم في الإدراك بحقنا، فلن نكون من الجاحدين”.

فهل يمكن للرهان التركي أن يؤتي ثماره؟ في هذه المرحلة، لا تزال مكاسب أنقرة ضئيلة للغاية. فقد فشلت تركيا في تغيير الموقف الأمريكي من قضية دعم أكراد سوريا. والعملية العسكرية التي تهدد بها أنقرة في شمال سوريا بطيئة في التبلور، في مؤشر على انسداد محتمل من الجانب الروسي. وأخيرا، فشلت محادثات السلام التي بدأت في بداية الصراع بين الأوكرانيين والروس بوساطة أنقرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.