ربما فقدت روسيا معظم أو كل مكانتها البارزة السابقة في تشكيل تصور العالم الخارجي لبلدان رابطة الدول المستقلة، وهي منظمة دولية أورو-آسيوية مكونة من 12 جمهورية سوفيتية سابقة ومقرها في مينسك، عاصمة روسيا البيضاء (بيلاروسيا).

مما يثير القلق الأكبر الآن هو أن الكرملين (الرئاسة الروسية) يتخذ خطوات استباقية لتشويه صورة العمليات التي تحدث في كازاخستان وحولها بشكل كبير في أعين الجمهور الأجنبي. والهدف هنا على ما يبدو هو زيادة تعرض نور سلطان (عاصمة كازاخستان) للضغط الروسي إلى مستوى حرج إذا دعت الحاجة، وإعطاء النخب الحاكمة الكازاخستانية فهما واضحا لهذا الأمر. بحسب ما نقل موقع “أوراسيا ريفيو” وترجم عنه موقع “الحل نت”.

يبدو أن الهدف النهائي للكرملين فيما يتعلق بكازاخستان يكمن في إخراج بيلاروسيا أخرى من جمهورية آسيا الوسطى من خلال جذبها إلى “دولة الاتحاد الروسي”. وهنا يتعلق الأمر فقط بكيفية تطور الأمور في حالة تنفيذ سيناريو ضعيف من قبل موسكو. أما بخصوص الخيارات الأخرى التي يمكن للجانب الروسي اتخاذها، فلا يسع المرء إلا أن يخمن. لكن الوقت الحالي هو وقت سيء جدا لتنفيذ أي مبادرات تكامل جديدة مصممة، على سبيل المثال، على نموذج بيلاروسيا وروسيا.

وبالتالي يمكن صياغة المهام التي شرعوا الروس الآن في إنجازها فيما يتعلق بكازاخستان على ما يبدو على النحو التالي: أولا، إنشاء وصيانة “ستار” مصمم لإخفاء الحالة الحقيقية للعلاقات بين الجانبين الروسي والكازاخستاني، حتى تتمكن روسيا من استخدام مساعدة كازاخستان بحرية في التهرب من العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب غزوها لأوكرانيا. ثانيا، القيام بمناورات دعائية مضللة تهدف إلى إضعاف قدرات القوى والجماعات السياسية الكازاخستانية البديلة لتوسيع نطاق المنافسة على السلطة، من أجل تقديم المساعدة بدورها للنظام الحاكم الكازاخستاني الحالي.

الآن دعونا نلقي نظرة على الظروف التي يجب أن يصبح فيها مثل هذا السيناريو مسألة ضرورة وكيف يتم تنفيذه الآن. هذا هو المكان الذي يكمن فيه السر لفهم وتفسير الوضع الذي تطورت فيه العلاقة بين موسكو ونور سلطان والسياسة الكازاخستانية.

لنبدأ بأولى هاتين المهمتين. يدرك الكرملين جيدا الأهمية التي توليها الدوائر السياسية الأمريكية والأوروبية للحفاظ على علاقات جيدة مع النظام الحاكم الحالي في كازاخستان نظرا لقيامها بدور الضامن لحرمة شروط العقود المبرمة مع الشركات الغربية متعددة الجنسيات لتطوير أكبر رواسب الهيدروكربون في البلاد. لذلك يبدو أنه من المناسب أن يعتقد الجانب الروسي أنه حتى لو حدث خطأ ما، فإن الغرب لن يدرج كازاخستان قط في فئة الدول المارقة. ومع ذلك، ربما يكون من الصعب عدم تصديق ذلك، وإلا فكيف يفسر المرء لماذا لم يفرض الغرب أي عقوبات على كازاخستان بعد كانون الثاني الدامي لعام 2022، وكذلك بعد أحداث كانون الأول 2011؟.

فبعد انتفاضة أنديجان المماثلة عام 2005، فرض الاتحاد الأوروبي والكونغرس الأمريكي بالفعل عقوبات ضد أوزبكستان. وهي عبارة عن ثلاثة أحداث مأساوية متشابهة مع بعضها البعض. ونتيجة لذلك، فرضت عقوبات على أوزبكستان، ولكن ليس على كازاخستان. فكيف يمكن تفسير هذا النهج الانتقائي؟ الجواب على هذا السؤال يرتبط بتجارة النفط والغاز، وهي مسألة خطيرة للغاية ولا يمكن تركها للصدفة. وبناء على هذا النوع من العوامل، قد ترغب موسكو في استخدام كازاخستان، إذا جاز التعبير، كـ “نافذة لها على الغرب”. لكن يجب أن يكون من المهم بالنسبة للسياسة الروسية وصانعي القرار إخفاء نواياهم وممارساتهم لاستخدام دولة آسيا الوسطى هذه على هذا النحو، مع خلق مظهر يثبت أن الكازاخستانيين “يخونون الاتحاد الاقتصادي الأوروبي ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي الحلفاء”، وتهديدهم ببعض الإجراءات العقابية ردا على ذلك.

لقد كان من الممكن أن يفلت الروس من كل هذا، لولا جهود التباهي التي بذلوها لتحقيق هذا الغرض.

ابتداء من أوائل آب الجاري، أصبح الرأي العام الكازاخستاني متورطا في نقاش حول منشور من صفحة للرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف على موقع التواصل الاجتماعي الروسي “VK” حول كازاخستان كونها “دولة مصطنعة”. وهذا الهجوم اللفظي، على الرغم من إعلانه لاحقا على أنه مزيف، لم يفاجئ أي شخص في كازاخستان، حيث كان السياسيون والمواطنون العاديون قد سمعوا مرارا وتكرارا مثل هذه الأشياء من أفواه كبار المسؤولين والنواب في روسيا.

ويبدو أنه لا جدوى من سردها جميعا، حيث يكفي ذكر اسم واحد فقط: فلاديمير بوتين. ففي عام 2014، شكك بوتين في شرعية دولة كازاخستان ما بعد الاتحاد السوفيتي، بينما أمر الكازاخستانيين بأن يكونوا في أفضل سلوكا عندما يتعلق الأمر بخدمة المصالح الروسية. وقال بوتين على وجه التحديد: “لم يكن للكازاخ دولة يوما ما”.

لقد وضع نوعا ما معيارا جديدا في معاملة كازاخستان والكازاخستانيين للنخب السياسية والفكرية والإعلامية الروسية. فالنموذج الذي قدمه بوتين ترسخ في موسكو. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك من الماضي القريب نسبيا. فقد قال النائب الروسي فياتشيسلاف نيكونوف، الذي ظهر على التلفزيون الحكومي الروسي في كانون الأول 2020: “كازاخستان ببساطة لم تكن موجودة، وشمال كازاخستان لم تكن مأهولة بالسكان على الإطلاق. وكازاخستان اليوم هي هدية عظيمة من روسيا والاتحاد السوفيتي”.

ثم بين إيفجيني فيودوروف، نائب آخر في مجلس الدوما وعضو المجلس السياسي المركزي لحزب روسيا الموحدة الحاكم، بشكل أوضح ما هو المقصود بـ “هدية عظيمة من روسيا”. فقد أطلق على المجموعة العرقية الاسمية لكازاخستان، الكازاخستانيون، “نيتشبرودي” (“المتشردون والمتسولون”، أو “القمامة”، أو “المشردون الذين يتوسلون الصدقات”) الذين ليس لديهم الحق في أرضهم. وقال إيفجيني فيودوروف حرفيا: “انزع الدستور الكازاخستاني من أراضي كازاخستان والقوانين الكازاخستانية من أراضي كازاخستان! ما أتحدث عنه الآن هو مطالبة إقليمية مباشرة. مطالبة مباشرة ومتميزة بالإقليم”. وأشار إيفجيني فيودوروف إلى أن زميله في البرلمان، فياتشيسلاف نيكونوف، لم يقل شيئا غير ما قاله بوتين من قبل.

وإذا اتبعت مثل هذا المنطق، فسيكون من الضروري الاعتراف، أنه في الحالة المذكورة أعلاه، لم يغرد ديمتري ميدفيديف خارج السرب. حسنا، باستثناء أن النص المثير للجدل في المنشور على VK، المنسوب إليه، يتهم مباشرة السلطات الكازاخستانية بارتكاب إبادة جماعية ضد الروس، ويشير إلى أنه يجب إعادة أراضي كازاخستان (تماما وكذلك أراضي جورجيا)، حيث تزعم روسيا أنها “تستعد لاتخاذ الخطوة التالية لإعادة حدود وطننا”. وفي خضم الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية، تم التعامل مع مثل هذه الصياغات بجدية أكثر من قبل السياسيين والجمهور في جميع أنحاء الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي وما وراءه، وهذا على ما يبدو هو السبب في أن ردود الفعل على منشور ديمتري ميدفيديف كانت عنيفة للغاية. وفي مقابلة مع شبكة “بي بي سي” الأوكرانية، ادعى الرئيس السابق لأوكرانيا، ليونيد كوتشما، أن مولدوفا وكازاخستان وجورجيا ستكون التالية بعد أوكرانيا التي ستتعرض للهجوم من قبل روسيا. وقدم جيغا بوكيريا، رئيس الحزب الأوروبي المعارض لجورجيا هذا الرأي في هذا الصدد، قائلا: “لا أعرف ما إذا كان قد تعرض حسابه للاختراق أو كان مخمورا؟ ربما شخصا ما اخترق حقا حسابه وكتب كل ذلك، ولكن النقطة هنا هي أن كل ما هو مكتوب هنا هو شكل مكثف لما يخدم بوتين وميدفيديف ودعايتهم بانتظام”.

وقد ظهر المنشور المعني على حساب Medvedev’s VK في 1 آب وتمت إزالته في غضون 9 دقائق تقريبا، لكن تم تصويره ونشره على الإنترنت من قبل الشخصية التلفزيونية الروسية كسينيا سوبتشاك. وانتشرت منشوراتها بعد ذلك على الفور كالنار في الهشيم.

وفي 2 آب، نفى مساعد ميدفيديف، أوليج أوسيبوف، أن يكون الرئيس الروسي السابق قد كتب المنشور، مضيفا أنه ظهر على الحساب بعد اختراقه. وفي اليوم التالي، أدلى ميدفيديف نفسه بتصريح مماثل فيما يتعلق بهذا المنشور، بدا أن الأمر قد أغلق. ومع ذلك، فإن حقيقة أن النص المثير للجدل في المنشور على VK، المنسوب إلى الرئيس الروسي السابق، يتماشى تماما مع ما يقوله المجتمع السياسي والدعاية الروسية في كثير من الأحيان عن دولة كازاخستان. وحقيقة أن الشخصية التلفزيونية والمرشحة الرئاسية السابقة كسينيا سوبتشاك وزعت لقطات شاشة للمنشور أعلاه، والتي، وفقا لماكسيم شيفتشينكو، وهو صحفي روسي مستقل معروف، “أصبحت للتو لسان حال سلطات الكرملين، وقناتها على “التيليجرام” مجرد فرع من وكالة الأنباء الروسية الحكومية “ريا نوفوتسي”. وقد كانت أول من توقع أن حساب ميدفيديف قد تم اختراقه، تولد فكرة أننا كنا نتعامل مع نوع من التدرج السياسي الذي يفترض أنه تم إعداده من قبل الاستراتيجيين السياسيين في الكرملين.

وإذا حكمنا من خلال رد الفعل الضعيف من الدوائر الحاكمة الكازاخستانية والمقربين من السلطات على المنشور المذكور، فيفترض أن المجموعات القريبة من السلطة والتكنولوجيين السياسيين العاملين في Ak Orda كانوا على دراية بما كان يجري بالفعل، وبالتالي صانعو السياسة والقرار في نور سلطان لم يتأخروا في الرد وقت نشرها. وفي الجزء الكازاخستاني من وسائل التواصل الاجتماعي، أثار المنشور، على النقيض من ذلك، ردود فعل غاضبة ومناقشات محتدمة، حيث أثرت أجواءها على تصور بعض السياسيين الأوكرانيين والغربيين والصحفيين للوضع في كازاخستان.

فعلى سبيل المثال، وجه يوري بويتا، رئيس قسم آسيا والمحيط الهادئ في مركز دراسات الجيش والتحويل ونزع السلاح ومقره كييف، هذه الكلمات إلى نظرائه في كازاخستان، حيث قال: “لفت انتباه زملائي الكازاخيين فيما يتعلق آخر رسالة لميدفيديف. أعتقد أن التهديدات الموجهة لكازاخستان قد زادت بشكل كبير، وأن الاتجاه نحو “تصحيح الأخطاء” (التي ارتكبتها موسكو قبل وأثناء انهيار الاتحاد السوفيتي) آخذ في الازدياد. ويبقى السؤال حول ما إذا كانت كازاخستان ستفعل شيئا ما مع هذا التهديد المفتوح؟ حتى الآن، لا أرى أي علامات حقيقية على ذلك. ولا أرى حتى أي تلميحات حول مثل هذا التطور”.

وأكمل شيلبي هوليداي، لزميله في وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، بالقول: “لقد غيرت الحرب في أوكرانيا أيضا طريقة تفكير كازاخستان بشأن أمنها. ففي كانون الثاني الماضي، عندما اندلعت الاحتجاجات العنيفة المناهضة للحكومة في كازاخستان، دعا توكاييف القوات الروسية لاستعادة النظام. ولكن الآن بعد أن غزت روسيا دولة سوفيتية سابقة وجارتها، يعيد المسؤولون الكازاخستانيون التفكير في استراتيجيتهم. ولم تكتف كازخستان بزيادة إنفاقها الدفاعي، بل وافقت على تعزيز التعاون العسكري مع الصين، وفقا لوزارة الدفاع الصينية. كما أبرمت صفقة مع تركيا، العضو في الناتو، لإنتاج طائرات بدون طيار هجومية بشكل مشترك. واستقبلت كازاخستان أيضا زوارا من الولايات المتحدة، بما في ذلك قائد عسكري أمريكي كبير”.

بالإضافة إلى ذلك، أفاد إيفان غيرشكوفيتش سابقا، نقلا عن مسؤول كازاخستاني لم يذكر اسمه، أن كازاخستان تزيد بشكل كبير من إنفاقها الدفاعي وتسعى إلى توثيق العلاقات مع دول الناتو وسط مخاوف من انتشار طموحات موسكو الجيوسياسية خارج أوكرانيا. وفقا لهذا التقرير، ستلتزم هذه الدولة الواقعة في آسيا الوسطى بمبلغ إضافي قدره 441 مليار تنغي كازاخي (918 مليون دولار) لميزانيتها الدفاعية، أي ما يقارب من 1.5 ضعفا عن ميزانية العام الماضي البالغة 1.7 مليار دولار، وسيتم إنفاق جزء من الأموال الإضافية على تعزيز الاحتياطيات العسكرية.

كذلك يبدو ظهور هذا الخبر في الصحيفة الأمريكية وكأنه تحد للهيمنة الروسية في آسيا الوسطى. لكن أولئك الذين قاموا بمثل هذا “التسريب” للمعلومات ربما أرادوا تحقيق هذا التأثير فقط. ويبدو أن الآراء التي أعرب عنها الممثلون المذكورون أعلاه لأوكرانيا والغرب تعكس في الغالب الطريقة التي يريدون (في حالة يوري بويتا) أو يتوقعون (في حالة صحفيي وول ستريت جورنال) كازاخستان والكازاخستانيين للتصرف في سياق الأزمة المستمرة بين روسيا من جهة وأوكرانيا والغرب من جهة أخرى. ولا يبدو أنهم مدركون تماما لقدرات روسيا الإلكترونية والمعلوماتية لإبراز القوة والأفكار في كازاخستان والمجتمع الكازاخستاني.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.