رغم مرور عام على إغلاق صناديق اقتراع الانتخابات النيابية في العراق، إلا أن الأزمة السياسية ترفض إغلاق أبوابها، فالخلاف لا يزال سائدا بين الخصوم على شكل الحكومة القادمة وشخصياتها.

الاضطرابات التي شهدتها المنطقة خلال الشهور الماضية، تُفسر ضمن مفهوم الصراع السياسي وتطور مراحله من الخلافات الإعلامية والتصريحات النارية، وحتى الصراع المسلح الذي عبرت عنه أحداث “المنطقة الخضراء” في 31 آب/أغسطس الماضي، ورافقها في ذات اليوم حملة الاغتيالات التي طالت قيادات الخصمين في محافظة البصرة الواقعة في أقصى جنوب البلاد.

لم تكتب هذه الاغتيالات ختام الأزمة، وأعلنت عن استمرارها في 1 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، فرغم فض اعتصامات العاصمة بغداد فإنها استمرت في البصرة، وأخذت تتصاعد تدريجيا وصولا إلى اشتباكات مسلحة جديدة، خاضها الطرفين بعد ثلاثة أيام من انطلاق التظاهرة.

قد يهمك: البصرة تشتعل ومناوشات حادة بين الصدر والخزعلي

مستقبل الأزمات المتكررة التي تشهدها المحافظة، فيقول عنها الباحث السياسي والأمني علي البيدر، خلال حديثه لـ “الحل نت” بإن تكافؤ إمكانيات الأحزاب السياسية المتخاصمة في البصرة من ناحيتي الدعم الشعبي والعشائري، قد يدفع نحو استمرار حالة الصراع القائمة، كما أن قوة هذه الإمكانيات مقارنة بتلك التي تمتلكها الدولة، يبعد المؤسسة العسكرية إلى خارج حسابات المتخاصمين، وتاليا فإنه يستبعد قدرة الحكومة الحالية على تدشين حملة عسكرية ضد الأحزاب المتخاصمة، نظرا إلى قوة الإمكانيات والتدخل السياسي، إضافة الى أبعاد أيديولوجية أخرى.

الاضطراب الحالي

حساسية الوضع داخل المحافظة، دفع برئيس أركان الجيش عبد الأمير يار الله، إلى إرسال لواء عسكري بكامل تجهيزاته إلى قاطع عمليات البصرة، لتعزيز القوات الأمنية المتمركزة فيها.

الهدوء النسبي عاد إلى المحافظة، لكنه لم ينه الصراع على وجه التمام، فالخصمين نقلا صراعهما مؤقتا، من الطور المسلح إلى السجالات الإعلامية، في تعبير عن التوتر الحاصل بينهما.

الشخصية المقربة من زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر، والمعروف باسم وزير القائد، نشر في 6 تشرين الأول/أكتوبر، تغريدة على حسابه الشخصي في “تويتر”، دعا فيها الكاظمي بصفته القائد العام للقوات المسلحة، إلى كبح جماح الميليشيات “الوقحة” على حد تعبيره، إشارة الى “عصائب أهل الحق”، وقال لدرء الفتنة في محافظة البصرة، نعلن تجميد كل الفصائل المسلحة إن وجدت بما فيها “سرايا السلام”، ومنع استعمال السلاح في جميع المحافظات عدا سامراء وما حولها، وتحرم الاقتتال الداخلي.

أمين عام “عصائب أهل الحق”، قيس الخزعلي، رد على هذه التغريدة بأخرى نشرها على صفحته الشخصية في “توتير” بعد ساعات قليلة، بدأها بمواساة لمحافظة البصرة ودعوة الى حصر السلاح بيد الدولة، وألا تؤمر القوات الأمنية بكافة مسمياتها الثانوية، إلا بأمر القائد العام للقوات المسلحة، وهو ما يعتبر إشارة الى أن قواته لا تزال جزءا من منظومة الدولة الأمنية.

الجانب السياسي في الأزمات التي تشهدها محافظة البصرة مؤخرا، يعبر عنه الباحث السياسي والاقتصادي نبيل جبار العلي، خلال حديثه لـ “الحل نت”، بأن هذه الأزمات هي انعكاس لتلك الصراعات التي تشهدها الساحة السياسية الشيعية، من أجل السيطرة على مفاتيح السلطة، والتنافس على مواردها.

الأحداث التي شهدتها المنطقة في 31 أب/أغسطس الفائت، كشفت عن شكل جديد من أشكال هذا الصراع، يسود فيه محاولة تغييب الآخر أو إضعافه، وفق العلي، ولكنه يستدرك بأن هذا الصراع قد يكون نتيجة انفعالات القيادات الوسطية التابعة للأحزاب المتصارعة، ولا يعني بالضرورة إشراف قادتها عليه.

البصرة تحت المجهر

لطالما تميزت محافظة البصرة بالاضطرابات الداخلية، فالأحداث الأخيرة لم تكن الأولى من نوعها، فالصراعات العشائرية تشكل أبرز وجوه الأزمة التي تعاني منها المحافظة، حيث تكمن عمليات التهريب للنفط الخام والمخدرات، التي تضطلع فيها بعض العشائر، وهذه العمليات المنظمة هي إحدى أسباب الأزمة المستمرة التي تعيشها البصرة.

غالبا ما تستعين العشائر بعلاقاتها مع الطبقة الحاكمة، من أجل توفير الغطاء اللازم لعملياتها، ولكن تشعب هذه العلاقات بين العشائر، وتداخل مناطقهم المرافق لرغبات فرض النفوذ، يدفعها إلى تدشين خلافات مستمرة بين بعضها البعض.

مركز “الإمارات للسياسات” أرجع في تقريره المنشور في أيار/مايو الماضي، أسباب تصاعد الصراعات العشائرية إلى التنقلات العسكرية التي طالت الآلاف من عناصر الجيش والشرطة بين عامي 2014 و2018.

هذه التنقلات يمكن تفسيرها ضمن حملة الاسترضاء التي تقودها بعض الشخصيات السياسية من أجل كسب النفوذ العشائري، خاصة وأن العشائر تشكل ينبوع انتخابي مميز يمد السياسيون بالأصوات اللازمة لفوزهم، وهو ما قد يفسر حملة الاسترضاء السياسية المعتمدة اتجاه بعض العشائر، رغم ما سببه من أزمات ضخمة في المحافظة والعراق بشكل عام.

الموقع الإستراتيجي

الأزمة لا تتوقف عند حدود العشائر، فالتقصير الحكومي في معالجة هموم المواطنين، ساهم في تحفيز الاضطرابات داخل المحافظة، وتصاعد وتيرة الاستياء الشعبي اتجاهها.

ملامح الاستياء الشعبي، تبدو واضحة في زيادة رغبة المواطنين باستنساخ تجربة إقليم كردستان الكونفدرالية، وتوظيف موارد المحافظة المالية لخدمة أبنائها، فالمدينة الغنية بالموارد الطبيعية والمالية، تعّد من أسوء المحافظات إداريا، بحسب “المعهد الجمهوري الدولي” في واشنطن.

في الحقيقة فإن كميات النفط الموجودة في البصرة، وامتلاكها لأربعة حقول تّعد من ضمن أكبر 6 حقول في العالم، هو الذي ساعد العراق على احتلال المركز الخامس عالميا في نسبة احتياطه النفطي، والمرتبة الثانية ضمن أكثر الدول المنتجة للنفط بين دول “الأوبك”.

كما أن التمويل المالي الضخم الذي تدره موانئ المحافظة على خزينة الدولة، أكسبها بجدارة لقب عاصمة العراق الاقتصادية، ولكنها رغم ذلك، تعاني من نقص حاد في الخدمات وارتفاع نسب البطالة بين أبنائها.

النزعة الاستقلالية إنما هي تعبير عن مدى ما وصل له هذا اليأس الشعبي، وترجمت أولى ملامحها في عام 2008، عبر حملة جمع تواقيع المواطنين دشنها النائب عن المحافظة وائل عبد اللطيف، وجمع خلالها أكثر من 34 ألف توقيع، ولكن خسارته الانتخابية أفشلت مخططه، وهي ذات الخسارة التي دفعت بمجلس محافظة البصرة إلى اتهام مفوضية الانتخابات بتزوير النتائج.

محاولات الاستقلال لم تتوقف، وتوالت خلال الأعوام اللاحقة، حتى عام 2018، وانطلاق احتجاجات شعبية مطالبة بالاستقلال، رفع فيها العلم المقترح للإقليم، ولكن الحكومة أصرت على رفض هذا الأمر.

مصدر سياسي من محافظة البصرة (فضل عدم الإفصاح عن اسمه) يرى خلال حديثه لـ “الحل نت”، أن الرفض الحكومي لاستقلال البصرة، لا ينبع من أسباب ذاتية ووطنية فحسب، بل يندرج ضمن خانة الصراع الإقليمي في المحافظة، فإضافة إلى ما تدره من مورد مالي لحكومة بغداد، فأنها تساعد في تحسين الاقتصاد الإيراني المتضرر من العقوبات المالية المفروضة عليه.

حكومة طهران، وفق المصدر ذاته، تعتمد على موانئ البصرة في تصدير نفطها، كما تعتقد أن فقدان السيطرة على هذه المحافظة، يعني استبدال وجودها بآخر خليجي.

بذلك يمكن القول بأن النفوذ الإقليمي داخل المحافظة، ساهم بشكل أو بآخر في زيادة حدة الاضطراب، ليس بسبب منعه استقلالها، ولكن بسبب ما يعنيه من خسارة مالية تتكبدها المحافظة على حساب المصالح الإقليمية.

الصراع السياسي والأزمة المستمرة

الخلافات السياسية تجد مكانها دوما في الشارع بداخل محافظة البصرة، وكمثال على ذلك، فإن الخلاف بين رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وزعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر، انتقل من صراع إعلامي إلى مسلح بين القوات الأمنية و”جيش المهدي”، ضمن عمليات “صولة الفرسان” في عام 2008.

المورد المالي الضخم الذي تدره محافظة البصرة في جيوب الأحزاب، عبر صفقات الفساد وعمليات التهريب المنتشرة في محافظة البصرة، هو عامل بارز في عدم استقرارها، فالأحزاب السياسية تعمد إلى نشر الفوضى من أجل إبعاد الأنظار عن عملياتها.

اقرأ أيضا: الميليشيات العراقية وصراع الوجود.. لماذا يتقاتل الخصوم على البصرة؟

ومن أجل تسهيل هذه العمليات، تسعى الأحزاب المنتفعة إلى التدخل في كل ما يخص استبدال وتعيين الشخصيات السياسية والأمنية في البصرة، بحسب تصريح مصدر أمني لـ “الحل نت” (فضل عدم كشف هويته).

ملامح المستقبل لا تنبؤ بخير على العراق بشكل عام، وعلى محافظة البصرة بشكل خاص، فالصراع المسلح قد أصبح واقعا فعليا بعد أن كان مجرد فرضية يستخدمها الخصوم في تهديد بعضهما، ومن ثم فإن إبعاد شبح الأزمة التالية سيكون بلا شك بتوافق بين الخصوم السياسيون، أو اضطراب جديد ستثيره خلافاتهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.