في تاريخ المسرح العالمي صنع المبدع المسرحي الانكليزي شكسبير، أكثر شخصيتين مأساوية هما “الملك لير”، و”هاملت” اللتان تعيش بداخلهما الهزيمة، وعن هزيمتهما صنع المخرج غريغوري كوزنتسيف فيلم “هاملت” في العام 1964، وفيلم “الملك لير” في العام 1971، عرضتهما سينما الكندي بدمشق في العام 1976، ضمن أسبوع الأدباء العالميين.

 تبدأ مأساة “هاملت” مع إعلان عمه عن” الابتسامة المغمسة بالدمع قررنا أن نتخذ أختنا وملكتنا زوجة لنا”، ولم يكن قد مضى على موت الأب سوى شهرين، ويبدأ الحساب مع العالم في إعادة تقييمه للوصول إلى الحقيقة. لكن الحقيقة لم تكن في صالح العالم المحيط بـ “هاملت”، فالأم تخون الأب، والأخ يلطخ سرير أخته ويداه تقطران من دمه، والأصدقاء يشتريهم السلطان، والحاشية عبيد الحاكم.

اقرأ أيضا: هل الدراما السورية واقعية؟

أما الشخصية الأخرى المهزومة حتى بوجودها على عرش المملكة هي “الملك لير” الذي وزع أملاكه على بناته لتخرج الشخصية من صراع الحب والكراهية، الكذب والشر الذي يلتهم الأخوات وأزواجهم، رحلة “لير” الذي يكتشف الوعي عبر مأساته الإنسانية في الأرض الخالية من كل شيء، إلا من الريح والصخر التي تعلن ثورتها العاصفة، وكما في شخصية “هاملت” التي تقلق الجياد، وعند “لير” تستنفر الطبيعة قواها لتصب البرق والرعد والمطر على حياته التي لم يبقى معه فيها سوى الرجل الشريف الذي ظلمه “كل نت”، والمهرج وجه الحقيقة الساخر.

بعض الشخصيات المهزومة في الدراما

إذ كانت الشخصيات المسرحية المهزومة جزءا من تاريخ المسرح العالمي، فإن شخصيات الدراما السورية تحتفظ بحرارة وجودها شبه المستمر، من خلال إعادة عرض أعمالها الدرامية التي تتواجد بها هذه الشخصيات التي حققت حضورا دراميا كبيرا، وهذا ما نستطيع أن نشير إليه في أكثر من عمل درامي كبير منها “الزير سالم” للمخرج حاتم علي والشاعر ممدوح عدوان.

حليم زاهر/ غسان مسعود:

تعد شخصية “حليم” في العمل الدرامي مع “وقف التنفيذ” من تأليف علي وجيه يامن الحجلي وإخراج سيف سبيعي، حامل الحكاية الدرامية، وعماد المسلسل حين تشكل حياته ومصيره جزءا كبيرا من العمل، وتبدأ هزيمة هذه الشخصية منذ لحظة اعتقالها في حملة اعتقال الموقعين على بيان 99، وزجه في الزنزانة 101، وطلاق زوجته بعد عدة أشهر من الاعتقال حيث يصاب بالدهشة والخذلان ولا يستطيع التعبير عن ذلك سوى بالصمت المطبق أمام قرارها، وزواجها وسفرها إلى الكويت وخروجه مخذولا محطما مصدوما بولديه، البنت التي لا تعرف ما تريد غير السهر والموسيقا الغربية ورغبتها في الهجرة من البلاد، والابن خريج الفنون الجميلة الذي يستخدم علمه في رسم وصناعة قوالب تزوير العملة وطباعتها، وعند اكتشاف ذلك يتدخل الأب لإنقاذ ابنه بصفقه عدم الكتابة السياسية ضد الحكومة مقابل الإفراج عنه.

 لكن النقطة المضيئة بعد خروجه من السجن هي محاولة فضح الفساد على المستوى العام في البلاد من خلال زميله الصحفي” أبو الشوق” الذي يدفع حياته ثمن المحاولة، ما تنعكس على حليم هزيمة مضاعفة.

 ومن أكثر اللحظات إيلاما في حياة حليم، لحظة مواجهة الاعتراف الذي قدمه بشير الباري/يزن خليل، أمام المحقق برهان/ غسان عزب، حيث لا تغيب عن ذاكرته خصوصا، أنه كان يعد بشير من أقرب المناضلين إليه، وتلميذه المقرب، شخصية حليم نادرا ما تبكي بكائا واضحا مع دموع، لكن ذلك يحدث عندما تعود ابنته رولا/ سارة بركة، من لقاء مع حبيبها، وتخبره أنه تركها وتسأله هل أنت سعيد الآن؟! الكاميرا على وجه حليم يسمعها، وهو يبكي، وتخرج هي، ويستمر بالبكاء.

 في حياة حليم ومضتان، الأولى هي كتابته لروايته “مع وقف التنفيذ”، والثانية مشهده مع طليقته سناء/نادين خوري، وهي مشغولة في الموبايل، بينما يجلب حليم زجاجة نبيذ أحمر، أرسلها أصدقاء له من السويد.

هنائي السنانيري/ قاسم ملحو:

أن شخصيته هنائي السنانيري في العمل الدرامي” بروكار” في جزئية الأول والثاني من تأليف سمير الهزيم وإخراج محمد زهير رجب ظهرت في النصف الأول من الجزء الأول هادئة ولطيفة إلى جانب عمه الزعيم أبو النور/ عبد الهادي الصباغ، لكنها تبدأ بالتحول إلى شخصية مشاكسة، بالتعاون مع ضباط المستعمر الفرنسي بالحي ضد وجهائه المشهود لهم بالمواقف الوطنية والخدمية لأهالي الحي، ويصل به الحال إلى الوشاية بهم لكي يدخلهم السجن قبيل الانتخابات النيابية حيث يسجن، زهير رمضان/عزمي بيك، وشيخ الحي، بينما يدخل أبو النور المشفى نتيجة ضربه من قبل هنائي، وعدم رغبة العم تزويج ابنته زينة بارفي/ بثينة له وهذا ما يزيد في عدوانيته حيث يضرب من خلال رجاله أبو دلال/ عبد السلام غيبور فلقة بالحارة أمام القهوة، متحديا كل رجال الحارة لأن أبو دلال رفض انتخابه أمام الجميع.

تزيد عدوانيته في الجزء الثاني حيث يسرق أراضي وممتلكات عمه أبو النور/ جمال قبش عبر تبصيم العم على بيع ممتلكاته، ويتزوج من راقصة في الملهى، جيجي التي تعمل على سلبه جميع ممتلكاته بمساعدة طاووس/ علاء قاسم، الذي يلعب دورا كبيرا في تعزيز استغلال الراقصة لهنائي، واستغلال طاووس له أيضا، وتتحول شخصية هنائي من الذات القوية ذات الحضور المسيطر إلى شخصيته مهزومة أمام الراقصة زوجته التي سرقت الملهى والمكتب، ليبقى الملهى لها والمكتب لطاووس ويحوله إلى مكتب سفريات وتشغيل عمال.

 يطالب هنائي، جيجي وطاووس بإعادة أملاكه إليه بعد استيلائهم عليها، ويتضرع لها في الملهى أمام عمالها أن ترجعه له، ويردد عندما تطرده من الملهى” جيجي.. جيجي.. مثل ما رحتي جيتي”.

 يقابل طاووس في مكتبه، ويطلب منه إعادة المكتب له وإعطائه الفلوس ثمن المكتب ويطرده، فيرد “طاووس أكل المشمش”. هنا يحدث التحول الكبير في شخصية هنائي إلى شخصية بهلول فاقد للذاكرة، وكل ما عاشه في حياته حيث يتحول إلى شحاذ في شوارع حي “البروكار”، ويطلب من الناس في الشارع إعطائه فرنك لأنه جوعان، وعندما يشاهد طاووس في الشارع، يطلب منه فرنك ويخاطبه “طاووس حرامي.. أعطاني فرنك، بدي أكل جوعان”.

أن الضغط النفسي المتشكل على شخصية هنائي في الجزء الأخير من حلقات “بروكار” بعد فقدانه أغلب قدراته العقلية، وجعل منه شخصيته شبه مجنون في الشوارع وهنا يشابه شخصية “لير” عند شكسبير نتيجة كل ما أحاق به من غدر من أقرب رجاله وزوجته جيجي، وهذا خير مثال على ما تفعله الهزيمة بالشخصيات غير المتوازنة ذات الأفق المحدودة.

“الزير سالم”/سلوم حداد في مسلسل “الزير سالم”:

 من شاهد العمل الدرامي الملحمي “الزير سالم”، يعرف أن شخصية الزير قاتلت أربعين عاما ثأرا لأخيه الملك كليب/ رفيق علي أحمد، وقتل العديد من الفرسان في معاركه، ولم يقتل جساس/ عابد فهد لأنه كان يريد مبررا لاستمرار حربه على البكريين وقتلهم في كل معركة، لكن بعد أن قتل ابن أخيه الجرو/ تيم حسن خاله وأب زوجته جساس، قتل “الزير سالم” جبير/سعد مينا ابن الحارث بن عباد/خالد تاجا، ما دفع  الحارث لدخول المعركة إلى جانب البكريين، وكانت المعركة ليلا، واستطاع الحارث خلع الزير عن فرسه المشهر وريمه أرضا وكسر ظهره، وقبل أن يقتله طلب الأمان منه وأعطاه ذلك.

عندما يعود الزير إلى القصر على عكاز من غصن شجرة، ويعترف بهزيمته، وأن الحرب يوم لك ويوم عليك، ويخبر أخته الزهراء/ سمر سامي وابنته هند وجميع نساء القصر أنه هزم، ولم يعد يستطيع القتال، وأنهن يحتجن إلى فرسان من نوع آخر، لكي يقمن بحماية النساء، ويعود فرسه المشهر إلى القصر، ويبدأ الزير بالندب لماذا قتل كل من يحبهن من همام ابن مرة، وابنيه شيبان وشيبون، وأمرؤ القيس، ويتحمل وزر قتل أخيه كليب.

أن حالة الانكسار والهزيمة الداخلية التي يعاني منها الزير حولت شخصية الزير إلى النقيض تماما، فهو في حياته الطبيعية عندما يعلن موقفا لا يتراجع عنه، ولكنه أجبر على التراجع والاستسلام في حادثة تزويج ابنته، وفي حادثة أخرى عندما يكون أسير عند عمر بن مالك يضربه على رأسه، ويسحبه خلفه مربوطا بالحبل يجره بالفرس ولا يبدي أيه مقاومة. وإذا كان البكاء جزءا من الهزيمة، فعدم المقاومة لأي فعل تجاه الزير معبر عن عقاب الذات من خلال الآخرين، وإذلالها على ما فعلت في سابقات الأيام.

كذلك نجد شخصية البطل المهزوم في العمل الدرامي” الدوامة” المأخوذ عن رواية “الضغينة والهوى” للروائي فواز حداد، والذي كتبه الراحل ممدوح عدوان من إخراج المثنى صبح، حيث تلقى شخصية، عدنان مغربل/باسل خياط، مصير السجن بعد حضور وظيفي وسياسي عال في حكومة ما قبل الانقلاب في سورية، وأيضا شخصية العقيد حكمت/ نجاح سفكوني التي تلقى مصير عدنان مغربل ذاته، وأيضا شخصية العقيد وهيب العسكري/ سلوم حداد في السجن، وربما الإعدام.

أخيرا أن الشخصيات المهزومة في الحياة وبالدراما لا تولد مهزومة، وإنما تهزم في مسار الحياة الإنسانية الطبيعية، والكثير من الشخصيات تغرق في هزيمتها مثل هنائي السنانيري، والزير، ولا تستطيع النهوض لأنها أصبحت خارج دائرة الفعل الحياتي المؤثر، بينما نجد العديد من الشخصيات التي هزمت ونهضت، لكن بقي للهزيمة من أثار، وهذا ما نجده في شخصية “حليم”، فهل الشخصيات المهزومة صناعة أو حالة إنسانية؟!

قد يهمك: إعادة إنتاج الأعمال الدرامية القديمة.. لم لا؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.