الغاز والزعامة الإقليمية، عاملان أساسيان في رفع وتيرة التنافس بين تركيا وإيران، منافسة يزكيها إرث ثقيل من الصراع الدامي بين الجانبين، يعاد استحضارها ضمن جهود الطرفين للتفرد بموقع الدولة الإقليمية المهيمنة والعقدة الطرقية لخطوط إمدادات الطاقة.

الاشتباكات المتقطعة بين أذربيجان وأرمينيا مؤخرا، أعادت مع تأكيد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، أنّ طهران تنتظر من الحكومة العراقية عدم السماح بتحويل إقليم كردستان إلى نقطة لانطلاق التهديدات ضد إيران، الحديث عن حدة التنافس التركي الإيراني.

قد يهمك: صراع المئة عام.. هل تنتهي التوترات الأرمينية الأذربيجانية؟

 عبد اللهيان، خلال استقباله أمين المجلس الأعلى للأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي، السبت 14 من تشرين أول/أكتوبر الجاري، قال، يجب أن تتحمل كلا من بغداد وأربيل المسؤولية الكاملة عن التصدي للجماعات “الإرهابية” في منطقة كردستان العراق، وبالتزامن مع ذلك، أكد رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، اللواء محمد باقري، إنّ إيران لن تتحمل تواجد 3 آلاف “إرهابي” مسلّح خلف حدود البلاد، مشددا على أن بلاده “ستتصدى لهم”.

رغم التعاون بين الدولتين في العديد من القضايا، إلا أن حدة التنافس بينهما تزداد سخونة، من خلاف حول السدود إلى تعارض مصالح وتناقضها أحيانا في سورية والعراق وأذربيجان، وما بينهما من تحولات إقليمية ودولية تضع العاصمتان على خط الصراع البارد.

في شباط/ فبراير 2020، كانت الدولتان على وشك المواجهة المباشرة في إدلب شمال سوريا، بعد انتشار الميليشيات المدعومة من إيران للمرة الأولى في المحافظة، استعدادا لقتال فصائل المعارضة المسلحة المناهضة لحكومة دمشق والمدعومة من أنقرة.

في شباط/ فبراير 2021، وفي انتقاده للعملية التركية في شمال العراق، قال السفير الإيراني السابق في بغداد إيرج مسجدي، إن إيران لا تقبل إطلاقا بأن تتدخل تركيا أو أي دولة أخرى في العراق عسكريا، أو أن تتقدم وتحظى بوجود عسكري فيه، ورد عليه السفير التركي في العراق أيضا، فاتح يلدز، عبر تغريدة على “تويتر”، بالقول إن إيران آخر شخص يحق له إعطاء تركيا دروسا بشأن احترام حدود العراق.

استخدام القوة المسلحة في شمال العراق، فسرها الباحث في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية “رصانة”، الدكتور عبد الرؤوف مصطفى الغنيمي، في دارسة للمعهد، بأنها رسالة تركية مفادها، أن الغاز الكردستاني مصلحة حيوية لأنقرة، بالإضافة إلى مصالح فرعية منها.

أنقرة تحلل من الضغط الإيراني عليها، في حال استخدمت طهران غازها المصدَّر إلى تركيا كورقة ضغط ضد أنقرة، بهدف التأثير على مواقفها في القضايا التي ترتبط ارتباطا وثيقا بإيران. الخصم من معدل القوة الإيرانية من خـلال حصـول أنقرة على الغاز الكردستاني بدلا عن الغاز الإيراني، ما يؤدي لتراجع معدل القوة الإيرانية الشاملة.

إرث دموي بين الجانبين

صراع دموي طويل، امتد قرابة 500 عام من تاريخ السلطنتين، الصفوية-الإيرانية والعثمانية-التركية. مثل الشاه عباس الصفوي ذروة المشروع الأول والسلطان مراد الثالث قمة المشروع الثاني، ولتعميق التناقض بين المشروعين وتثبيت هوية معادية، عمد السلطان إسماعيل الصفوي إلى روافد الصراع بالرافد المذهبي، من خلال إعلان تشيع إيران. كما اختار الشاه الصفوي الشمس رمزا للعلم الفارسي لتطعيم التصادم الإقليمي والمذهبي بالبعد الرمزي أيضا، فالشمس الفارسية نقيضا رمزيا وبصريا للقمر الذي زيّن علم السلطنة العثمانية.

حروب متعاقبة جرت بين الدولتين، تبعتها معاهدات لتثبيت الحدود بينهما، مع اعتراف كل منهما بالآخر حاميا لأحد المذاهب الإسلامية (إيران للشيعة والدولة العثمانية للسنة)، الذي تم تثبيته في معاهدة “زهاب” الموقعة عام 1639.

انشغلت الدولتان الوليدتان، تركيا وإيران، مع تشكل دول المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى، بترتيب أوضاعهما الداخلية مع تقارب لم يفضِ إلى تحالف بينهما، بالرغم من انضوائهما في المحور الأميركي المعادي للمحور السوفياتي، وبسقوط الأخير وتولّد دول جديدة ناجمة عن انفراط عقد الاتحاد، برز التنافس مجددا بين تركيا وإيران، ضمن مساعيهما لمد نفوذهما إلى هذه الدول المرتبطة بالذاكرة التاريخية أو العرقية لهما، بحسب موقع “المعرفة”.

أخيرا، ألقت الحرب الأوكرانية، والانسحاب الأميركي من أفغانستان، بظلالهما على علاقة الدولتين، في إطار تنافسهما لملء الفراغ الأفغاني، وجهود الإفادة من أزمة الطاقة العالمية التي خلّفتها الحرب الأوكرانية من قبل طهران، تقابلها جهود أنقرة لتحويل تركيا إلى مجمع مركزي للطاقة الإقليمية وخطوط توريدها إلى الغرب.

قضايا إقليمية وجيوسياسية تجمع كلا من تركيا وإيران، كمعارضتهما الطموحات الانفصالية الكردية التي تهدد وحدة أراضيهما، بحسب حديث الدكتورة ناديا حلمي، الخبيرة في الشؤون السياسية الصينية والآسيوية، وأستاذة العلوم السياسية في جامعة بني سويف، لـ “الحل نت”، منوهة للتعاون التركي الإيراني، سياسيا وميدانيا للحيلولة دون انفصال إقليم كردستان العراق.

مع ملاحظة انخراط البلدين في منافسة كلا من السعودية وإسرائيل على النفوذ في المنطقة، وبدا ذلك واضحا أثناء المقاطعة التي قادتها السعودية وحلفاؤها ضد قطر، حيث دعمت كلا من أنقرة وطهران الدوحة لتجاوز آثار الحصار.

على الجانب الآخر، هناك قضايا جوهرية خلافية بين أنقرة وطهران، حيث تظل تركيا حليفا إستراتيجيا مهما للولايات المتحدة الأميركية، وفق حلمي، باعتبارها العدو الأساسي لإيران، بالإضافة لعضويتها الفاعلة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبسبب العقوبات التي أعاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فرضها على إيران، قلصت تركيا شراء النفط الإيراني وواردات إيران من المنتجات التركية؛ مما أثار غضب الجانب الإيراني.

في هذه السياق، ربط المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية في طهران التطورات في منطقة القوقاز بمؤامرة أجنبية، موضحا أن حرب قره باغ الثانية لم تكن لتحرير هذا الإقليم، بل غطاء لإنشاء “الممر التركي للناتو” أو ممر زنغزور، بحسب موقع “الجزيرة نت”. يستهدف الممر المذكور الثالوث الشرقي (إيران وروسيا والصين) باعتباره العدو اللدود لحلف “الناتو”، بغية تنفيذ تغييرات جيوسياسية في المنطقة.

الطاقة أساس الصراع

في كانون الأول/ديسمبر 2021، وقعت “شركة كار” اتفاقية لتوسيع خط أنابيب الغاز الطبيعي إلى دهوك على مقربة من الحدود التركية، بعدها أعلن رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، مسرور بارزاني، أن غاز الإقليم سيتم تصديره إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. بحسب تقرير لمجلة “ناشيونال أنترست”، ترجمه موقع “شفق نيوز”. أن خط أنابيب الغاز هذا، سيشكل تهديدا لمصالح إيران في مجال الطاقة. وعليه، فإن رد إيران لم يكن مفاجئا، حين شن “الحرس الثوري” الإيراني هجوما صاروخيا، قال إنه استهدف مقرا للموساد في أربيل في 16 مارس/آذار الماضي، وفي الخلاصة، اعتبر التقرير أن تركيا وإيران تتجهان نحو لعبة محصلتها صفر في العراق، وأن إيران حددت خطها الأحمر مبكرا، كما أن إيران ستسعى إلى إخراج المشروع عن مساره بالقوة وعن طريق إثارة اضطرابات سياسية.

في الآونة الأخيرة، شهدت الساحتين العراقية والسورية ارتفاع وتيرة التنافس التركي الإيراني، من خلال استخدام القوة العسكرية، وفق حديث الباحث المشارك في المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية “أفايب”، مصطفى النعيمي لـ “الحل نت”. إذ استخدمت إيران، ولأول مرة، الصواريخ البالستية من أراضيها تجاه إقليم كردستان العراق، بدعوى استهداف أوكار إسرائيلية، والحقيقة أن مصدر القلق هو التوافق التركي مع حكومة الإقليم بخصوص تزويد أنقرة بالغاز، والعمل معا على تزويد أوروبا بالغاز عبر الأراضي التركية.

في سوريا الواقعة ضمن الممرات الحيوية للمشاريع الاستراتيجية لكلا من طهران وأنقرة، قصفت الميليشيات الإيرانية في سوريا قاعدة عسكرية تركية شمالي غرب سوريا، مع استقدامها لتعزيزات عسكرية نشرتها في مناطق عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” بحسب النعيمي، واستهدفت أيضا طريق عفرين إعزاز الواقع ضمن مناطق النفوذ التركي، وعلى إثره ردت قوات تابعة لتركيا في منتصف أيار/مايو 2022 على موقع “حزب الله اللبناني” فوج قاسم سليماني في بلدة نبل، مما أسفر عن مقتل 12 عنصرا على الأقل.

الزعامة الإقليمية

مرحلة جديدة من الصراع بين الدولتين، ضمن مساعيهما لاستغلال الفراغ خلفته الانسحابات الأميركية، وتراجِع أولوية ِ الشرق الأوسط في الإستراتيجية الأميركية، بالإضافة لانشغال القوى الكبرى بتعظيم موقعها في تراتبية القوة في النظام الدولي، وبالحرب الأوكرانية، وبروز الغاز الطبيعي كمسألة حيوية للدولتين، ومحرك جديد للتنافس والصراع بين أنقرة وطهران للحصول على جزء من الحاجة الأوروبية للغاز البديل عن الغاز الروسي. وتكمن خطورة هـذه المرحلة مـن التنافـس التركي-الإيراني، بحسب “رصانة”، أنها ترتبط بالمسألة الحيوية، وهي مرحلة تسبق المسألة المصيرة، والتي تعتبر آخر مرحلة من مراحل تعارض المسائل.

أحد مشاكل طهران، تتمثل بزيادة الوجود التركي في المنطقة (القوقاز)، بحسب موقع “الحرة”، وأن تعاظم الدور التركي في المنطقة “يعتبر غير مقبول بالنسبة لإيران لأنها تقلل من قوتها، وإذ ما نجحت أرمينيا في إعادة فتح الحدود التركية، فستخلق هيمنة أقوى لتركيا وستكون خسارة لإيران.

يبقى المحدد أو العامل الجوهري في العلاقات التركية وإيرانية، هو ما يتعلق بسياسات تركيا تجاه منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، بحسب الدكتورة ناديا حلمي، حيث تستند أنقرة إلى فرضية القومية التركية التي تحظى بقدر كبير من الجاذبية للسكان الأتراك في تلك المناطق. وهو أمر يثير قلق إيران وروسيا أيضا، جراء الاندفاعة التركية نحو القوقاز وآسيا الوسطى، بحجة وجود القومية التركية وادعاء امتداداهم لها أثنيا وعرقيا.

طهران تنظر بقلق بالغ إلى زيادة شعبية تركيا في البلدان ذات العرقية التركية، نتيجة دعمها لباكو بعد انتصار أذربيجان على أرمينيا عام 2020، والذي منح أذربيجان تواصلا مباشرا مع حليفتها تركيا، مما يفتح المجال لتشكيل قناة بديلة بين الشرق والغرب لتجارة الطاقة والسلع الأخرى مع أوروبا تتجاوز الممر التقليدي التي تسيطر عليه روسيا وإيران، ويقلل هذا بشكل كبير أهمية طهران لدول آسيا الوسطى، ويضيف إلى حد كبير أهمية لأنقرة، بحسب تقرير لموقع “الجزيرة نت”، وعليه، اتهم السفير الإيراني الأسبق في أذربيجان محمد باقر بهرامي، في تصريح للتلفزيون الإيراني كلا من إسرائيل وبريطانيا وتركيا وأذربيجان، بالعمل على خلق “عالم تركي” عبر إنشاء ممر ليمتد حتى تركمانستان وإحدى المقاطعات الصينية ذات الأغلبية الآيغورية.

أما بالنسبة لدول الشرق، فإن العراق يعد حجر زاوية في إستراتيجية إيران التوسعية، لكونه الجدار الفاصل بين الصراع “الفارسي الشيعي” و”العربي السني”، إضافة لكونه أهم حلقات التمدد الإيراني في إطار العقيدة الجيوبوليتيكية الإيرانية، الهادفة لربط إيران بالبحر المتوسط، وفق حلمي. العراق معبر هام لنقل السلاح من إيران للميليشيات الموالية لإيران في سوريا ولبنان، ضمن مساعيها لمد نطاق نفوذها الإقليمي. فضلا عن أن النفوذ الإيراني في العراق يضمن لإيران كسر الطوق الأميركي المفروض عليها شرقا وغربا. فيما التحرك التركي في العراق، يأتي في سياق تخوف أنقرة من المشروع الكردي في العراق، ومن إقامة مشروع مماثل في سوريا، حيث تعتبر كردستان العراق، بمثابة مركز للحركات الكردية التركية القائمة على الأراضي التركية والإيرانية والسورية.

العلاقات التركية الإيرانية متعددة، تجمع بين عناصر التعاون والتنافس، فالبلدان في موقفين متضاربين من الحرب الدائرة في سوريا، ويخوضان صراعا حادا من أجل الهيمنة على العراق. كما أدت محاولات أنقرة الأخيرة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل إلى زيادة عداء إيران لتركيا، وقد يكون هذا أحد أسباب الموجة الأخيرة من الهجمات الإلكترونية والسيبرانية التي نفذها قراصنة مرتبطون بالاستخبارات الإيرانية.

اقرأ أيضا: خلافات إيرانية تركية متجددة في الملف السوري؟

من أذربيجان إلى العراق وسوريا، تتصاعد حدة التنافس التركي الإيراني. ومع دخول الغاز وممر الوصل الجغرافي البري بين أذربيجان وإقليم ناخشيفان وبالتالي إلى تركيا، يزداد القلق الإيراني من إمكانية خنقها وإفشال مشاريعها الاستراتيجية، مما يدخل العلاقة بين الدولتين مرحلة الصراع، في ظل إصرار الجانبين على توسيع نفوذهما في المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.