أيام قليلة تفصل العراق عن حكومة جديدة بقيادة محمد شياع السوداني، مرشح “الإطار التنسيقي” لرئاسة الوزراء، حيث تدخل البلاد في مرحلة سياسية جديدة، بعد عام من انسداد سياسي، مثّل سابقة في تاريخ العملية السياسية العراقية؛ خلال العهد الجديد بعد عام 2003.

الحكومة الجديدة المنتظرة، ستتشكل وفق نهج التوافق والمحاصصة المتبع منذ عراق ما بعد نظام صدام حسين. لا تغيير جديد في شكل الحكومة، فتقاسم المناصب وفق حصة كل طائفة ومكوّن هو الأمر المحتم.

ما يؤكد ذلك الطرح، هو ما يجري خلف الكواليس، لا سيما مع تسرب قائمة الكابينة الوزارية التي ينوي السوداني تقديمها إلى البرلمان قريبا. تُظهر القائمة تقاسم الوزارات بشكل طائفي، ولا تخلو من أسماء أُنيطت لها وزارات سابقة وفشلت بإدارتها.

وصول شياع السوداني، يأتي بعد انسداد سياسي استمر لمدة عام بين الطرف الفائز في الانتخابات المبكرة الأخيرة، وهو “التيار الصدري”، والطرف الخاسر “الإطار التنسيقي” الذي يُمثّل قوى إيران في العراق.

أُجريت الانتخابات المبكرة في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2021، وأسفرت عن فوز الصدريين بـ 73 مقعدا، وخسارة قوى إيران، لتجتمع كلها في “إطار تنسيقي”، لمواجهة مشروع زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر.

محمد شياع السوداني

مشروع الصدر تمثل بتشكيل حكومة أغلبية عابرة للمكونات، لا وجود لقوى “الإطار التنسيقي” فيها، لكن الأخير أفشل مشروعه، من خلال الثلث المعطل، الأمر الذي دفع الصدر لسحب كتلته من البرلمان ومن العملية السياسية، رافضا الاشتراك في أي حكومة مع “الإطار”.

الثلث المعطل، يعني عدم حضور ثلث أعضاء البرلمان العراقي لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية الممهدة لتشكيل حكومة جديدة. نجح “الإطار” بفرض الثلث المعطل بعد تعذر حضور 220 نائبا على الأقل من مجموع 329 نائبا لجلسة انتخاب الرئيس.

تحديات حكومة السوداني

اليوم يقف العراق على أعتاب مرحلة جديدة تكسر الجمود السياسي الذي ساد في البلاد لأكثر من عام. مرحلة يقودها “الإطار” بشخص شياع السوداني، فكيف ستمضي المرحلة الجديدة.

في أول خطاب له بعد تكليفه، قال رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني، إن “ملف مكافحة الفساد واستعادة هيبة الدولة”، سيمثل أولويات رئيسة لحكومته.

“استعادة هيبة الدولة ومؤسساتها”، مسار جديد يستخدمه “الإطار التنسيقي”، يختلف عن مساره التقليدي المتمثل بتبنيه لمسار “المقاومة”. المسار الجديد يأتي لكسب ود الشارع الذي لم ينتخب “الإطار” في الاقتراع الأخير للانتخابات البرلمانية.

لا يحظى المسار الجديد بتفاعل إيجابي في الشارع العراقي، خاصة مع الشعور العام بأن الدولة العراقية لم تحظ بأي هيبة وباتت مسرحا للنفوذ الأجنبي، لا سيما النفوذ الإيراني عبر “الإطار” نفسه منذ 2003 وإلى اليوم.

ما ينتظر الحكومة المقبلة تحديات جمة. أبرز التحديات تتمثل بكيفية تعامل حكومة السوداني مع احتقان الشارع ضد “الإطار”، لا سيما وأنه يتهم “الإطار” بقمع “انتفاضة تشرين” وقتل المتظاهرين.

في تشرين الأول/أكتوبر 2019، خرج الشارع العراقي بتظاهرات كبرى استمرت حتى 15 آذار/مارس 2020، وعرفت بـ “انتفاضة تشرين”. خرجت الانتفاضة ضد الفساد السياسي والبطالة ونقص الخدمات، وضد النفوذ الإيراني في العراق.

“الإطار” تعامل مع الانتفاضة بعنف مفرط، إذ قُتل 750 متظاهرا، وأصيب 25 ألفا بينهم 5 آلاف بإعاقة دائمة؛ تقف ميليشيات “الإطار” المسلّحة إضافة إلى “قوات الشغب” في حكومة عادل عبد المهدي السابقة وراء ذلك القمع.

رغم القمع، نجحت “تشرين” في إسقاط حكومة عادل عبد المهدي وأجبرتها على تقديم استقالتها، لتحل محلها حكومة مصطفى الكاظمي، لكن وبعد عامين من “تشرين” ها هو الحكم يعود مجددا لصالح قوى إيران.

هل من ترحيب شعبي؟

الحكم الجديد بقيادة السوداني و”الإطار”، لا ترحيب شعبي له. إذ جوبه بتظاهرتين في تشرين الأول/أكتوبر الجاري. التظاهرة الأخيرة في يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، رفعت صور السوداني ووضعت عليها علامة “إكس” (تعبيرا عن الرفض له).

التشرينيون ضد الحكومة الجديدة، يضاف لهم الرفض العلني لها من قبل “التيار الصدري”. هنا تقف الحكومة الجديدة أمام مطب صعب، يتمثل بكيفية مواجهة تفجر الشارع التشرو-صدري، وخروجه بتظاهرات جديدة في أي لحظة ضد الحكومة.

المسار الذي يطرحه “الإطار” عبر “استعادة هيبة الدولة”، لم يقم على أساس فكري أيديولوجي أو برنامج سياسي واضح، بل هو عبارة عن تجمع انتخابي كان المقصود به قطع الطريق على منافسيه الآخرين من تسلم السلطة، بحسب مؤسسة “غالوب” الدولية.

“الإطار” سيحاول من خلال حكومة شياع السوداني إثبات منجز له في المرحلة المقبلة. المنجز يسعى له عبر مسار انتقامي عن طريق نقل الصراع إلى استهداف خصومه السياسيين، وعلى رأس الخصوم “التيار الصدري” وقوى “تشرين”.

أمر آخر سيكون هدف الحكومة الجديدة؛ هو زرع وكلاء “الإطار” في كل المفاصل الأمنية، بعد أن قامت حكومة الكاظمي بتقليم أظافر “الإطار” في المؤسسات الأمنية. الهدف المنشود سيعزّز نفوذ الدولة العميقة في المراكز الأمنية، وسيمكن “الإطار” ضرب خصومه بأدوات الدولة، دون الحاجة لاستخدام الميليشيات المسلّحة.

الخلاف الشيعي وموقف الصدر

بالأمس القريب، استخدم “الإطار” ميليشياته المسلحة ضد جمهور “التيار الصدري” الذي اعتصم لمدة شهر كامل في “المنطقة الخضراء”، أمام مقر البرلمان العراقي، ضد حكومة “الإطار” الجديدة، وكادت أن تدخل البلاد في حرب أهلية شيعية-شيعية.

في ليلة 29 آب/أغسطس الماضي، اقتحم الصدريون القصر الحكومي، ما دفع بـ “الإطار” إلى إطلاق الرصاص عبر ميليشياته ضد الصدريين، ليدخل فصيل “سرايا السلام” التابع لمقتدى الصدر إلى المنطقة الخضراء، بهدف حماية المتظاهرين.

مقتدى الصدر

مواجهات مسلحة داخل الخضراء، معقل الحكومة والبرلمان والبعثات الدبلوماسية الدولية، حبست أنفاس الشارع ليلة بأكملها، أسفرت عن سقوط 50 قتيلا وأكثر من 700 جريح بين “السرايا” وميليشيات “الإطار”، ولم ينته الصراع لولا تدخل الصدر في ظهيرة يوم 30 آب/أغسطس المنصرم، وتوجيهه لأتباعه بالانسحاب من الخضراء.

الخلاف الشيعي-الشيعي بين “التيار” و”الإطار” في مرحلة هدنة الآن، نتيجة صمت الصدر واعتزاله السياسة منذ نحو شهرين، لكنه لن يستمر إلى الأبد. يتخذ الصدر الآن سياسة المراقبة لحكومة “الإطار” الجديدة.

موقف الصدر الصامت الآن، سيتضح بعد تشكيل الحكومة والنهج الذي ستسير عليه. ما هو متوقع أنه سينتفض ضد حكومة “الإطار” ويدفع بجمهوره إلى التظاهر ضد الحكومة، في حال سعى “الإطار” إلى قضم أظافر “التيار” في مؤسسات الدولة.

ليس هذا وحده من سيدفع الصدر للخروج عن صمته. تكميم الأفواه ومنع أي تظاهرة مدنية وقمع الناشطين، أمر آخر سيعجّل بعودة صراع الصدر مع “الإطار”؛ لأن زعيم “التيار” يريد كسب ثقة “تشرين”، كي يخرج التشرو-صدريين بتظاهرات قوية تزلزل حكومة قوى إيران.

الشعار الذي ترفعه الحكومة الجديدة، يمثّل “مقدمة لفصل جديد من الصراع ورسالة تحذير من قبل حكومة الإطار المقبلة للقوى المعارضة كلها، وعلى رأسها التيار الصدري”، بحسب “المركز العربي الأسترالي للدراسات”.

مرحلة الصراع بين الصدر و”الإطار” مؤجلة حاليا، لكن لحظة الصراع لا مناص من حدوثها، ونهاية الصراع لن تكون بغير سيناريو واحد. كسر عظم أحد الطرفين وإبعاده عن المشهد السياسي كليا؛ لأن وجودهما معا في العملية السياسية بات من المحال.

المالكي يقود المرحلة؟

حجم “الإطار التنسيقي” في الحكومة المقبلة أقوى من رئيس الحكومة شياع السوداني؛ لأن السوداني يتبع إلى “الإطار” أولا وأخيرا ولا يستطيع التحرك خارج السرب، غير أنه سيكون الواجهة لحكومة الظل.

“الإطار” ورغم تعدد قياداته، إلا أنه سيُختزل في الحكومة المقبلة برئيس الحكومة الأسبق، زعيم “ائتلاف دولة القانون” نوري المالكي. المالكي هو القائد الفعلي للحكومة المقبلة في الظل، والسوداني الواجهة لتلك الحكومة.

ما يؤشر على ذلك، هو أن المالكي فرض السوداني على كل قيادات “الإطار”، ناهيك عن أن السوداني كان ضمن “حزب الدعوة” الذي يتزعمه المالكي، وأعطاه الأخير قيادة أكثر من 5 وزارات على امتداد حكومتيه بين عامي 2006 و2014.

سياسة “استعادة هيبة الدولة” وهو المسار الذي يطرحه “الإطار” في الحكومة الجديدة، تتقارب مع شعار حزب المالكي، وهو “دولة القانون”. بالتالي فإن تأثير “الإطار” في المرحلة المقبلة سيكون مالكيا بالدرجة الأساس، وسيسعى لتقويض هيمنة الصدر على الشارع، عبر قوة القانون.

في 2008، انتهج المالكي ذات النهج عبر “صولة الفرسان” عندما شن حملة حكومية ضد “جيش المهدي” التابع لمقتدى الصدر؛ كونه ميليشيا مسلّحة خارجة عن القانون، ونجح بدعم أميركي من إنهاء “جيش المهدي”، حتى أن الصدر أعلن تجميد الميليشيا.

منذ ذلك الحين، ثمة خلاف شخصي بين الصدر والمالكي، وقطيعة لم تنتهُ إلى اليوم. وبعد تهديد الصدر لـ “الإطار” بإقصائه من حكومة الأغلبية التي لم ينجح بتشكيلها، سيسعى المالكي لتحجيم نفوذ الصدر في المرحلة المقبلة، ما ينذر بصراع محتدم بين الطرفين في أي لحظة.

تأثير النفوذ الإقليمي

يتضح النفوذ الإيراني بشكل كبير في العراق، يليه النفوذ التركي، وبنسبة قليلة ثمة نفوذ سعودي، لكن النفوذ الأخير سيضمحل في المرحلة المقبلة؛ لأن “الإطار” يعرف بعدائه التاريخي للرياض، منذ حكومتي المالكي.

النفوذ السعودي سعى لأجل هدف واحد، وهو التجديد لمصطفى الكاظمي بولاية ثانية على رأس الحكومة العراقية، لكن هذا المسعى لم ينجح، ومصيره بات الفشل الذريع، بعد وصول “الإطار” إلى السلطة.

نوري المالكي

فيما يخص تركيا، فإن نفوذها يقتصر على المكون السني في العراق، وأنقرة مكتفية بلعب هذا الدور، وهي من نجحت بحلحلة الخلاف السني-السني بين “تقدم” بزعامة محمد الحلبوسي، و”عزم” بزعامة خميس الخنجر.

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، جمع الحلبوسي والخنجر في أنقرة، وبعد ذلك اللقاء، انتهى الخلاف فجأة، وتحالف الحلبوسي والخنجر معا، وأطلقا على تحالفهما “السيادة”، ونجحت أنقرة بتنصيب الحلبوسي رئيسا للبرلمان العراقي، فيما أُسندت زعامة “تحالف السيادة” للخنجر.

النفوذ الإيراني هو الأكبر والأوسع في العراق. طهران وبعد خسارة أحزابها في الانتخابات العراقية الأخيرة، تمكنت من إفشال مشروع الصدر الذي هدف لإقصاء أحزابها من المشهد السياسي، ودفعت به إلى الاستقالة، ليستلم “الإطار” قيادة المشهد السياسي العراقي.

في المرحلة المقبلة، تسعى طهران لتكريس هيمنتها على القرار السياسي العراقي، وتزيد من حجم صادراتها الاقتصادية إلى السوق العراقية، وتكريس الدولة العميقة في كل مفاصل المؤسسات العراقية؛ كي تكون الحامية لوجودها في عمق بغداد، مهما حاول الشارع تحجيم نفوذها في الداخل العراقي.

“الإطار” يسعى في المرحلة المقبلة، بحسب مركز “كلواذا” للدراسات، إلى “البطش بالقوى المعارضة أو تكميم الأفواه (…) فهو ينظر إلى هذه المرحلة كفرصة مناسبة لاستهداف الصدريين أو التشرينيين، من خلال استخدام موارد الدول التي ستقع بين أيديه، ولا سيما طهران”.

دور رئيس الجمهورية وعلاقة بغداد بأربيل

رئيس الجمهورية، هو حامي الدستور ويفترض به منع أي خرق للدستور وللقانون، لكن هذا الدور أكبر من الرئيس الجديد عبد اللطيف رشيد، بدليل أنه لم ير منه الشارع أي شيء حتى الآن، باستثناء خطاب يتيم له أثناء مراسم تنصيبه كرئيس للبلاد في “قصر السلام” ببغداد.

قرار رشيد ليس بيده، بل هو بيد المالكي؛ لأن الأخير جاء به للرئاسة مستغلا الخلاف الكردي-الكردي بين “البارتي” و”اليكتي”، بعد صراعهما على المنصب، فخرج المالكي بتلك التسوية، فخسر الكرد بشكل عام، ولم يربح “البارتي” و”اليكتي” سوى نجاحهما بمنع وصول مرشح أي منهما إلى “قصر السلام”.

“البارتي” بزعامة مسعود بارزاني، رشّح وزير داخلية إقليم كردستان ريبر أحمد لرئاسة الجمهورية، فيما رشح “اليكتي” بقيادة بافل طالباني، الرئيس السابق برهم صالح للمنصب مجددا، وفي النتيجة فاز عبد اللطيف رشيد بالرئاسة بدعم من المالكي.

ملف آخر ستشهده المرحلة المقبلة في فترة حكومة شياع السوداني، وهو طبيعة العلاقة بين المركز والإقليم، أي بين بغداد وأربيل. هل ستكون العلاقة إيجابية أم سلبية، وعلى هذا الأساس تتبلور الرؤية أكثر.

يقول الكرد إن “الإطار” وعدهم بسخاء لا مثيل له، مثل إعادة نسبة حصة إقليم كردستان من الموازنة المالية السنوية إلى 17 بالمئة بدل 13 بالمئة، إضافة إلى إعادة سيطرة “قوات البيشمركة” على كركوك بدل القوات الاتحادية، فضلا عن منح منصب محافظ كركوك للكرد بدل العرب، وإعادة النظر بقانون النفط والغاز.

الوعود تلك دائما ما يطرح مثلها “الإطار” على الكرد مع كل تفاهمات تخص تشكيل حكومة جديدة، لكنه ما أن ينجح بنيل موافقة الكرد ويشكّل الحكومة، سرعان ما يتنصل عن وعوده، ولا ينفذ شيئا منها، والأمر نفسه من المتوقع أن يحصل في حكومة “الإطار” المقبلة، ما يعني تأزم العلاقة الهادئة حاليا بين بغداد وأربيل بعد أن تنال حكومة السوداني الثقة المطلوبة.

الخلاصة

المشهد السياسي العراقي خلال فترة حكومة السوداني المقبلة، يشي بتحديات كبيرة سيواجهها “الإطار”، أهمها الاحتقان الشعبي، والرفض التشرو-صدري لها، ما يعني تظاهرات في أي لحظة، لن تكون نهايتها سلمية. النهاية إما باستقالة حكومة السوداني أو قمع التظاهرات.

مع التظاهرات، فإن حجم النفوذ الإيراني الكبير في العراق، سيزيد من احتقان الشارع ضد حكومة “الإطار”، هذا عدا عن مشاعر الغضب المتزايدة من الصدريين تجاه المالكي الذي سيقود المرحلة المقبلة في الظل، إضافة إلى أزمة لا حل لها حتى الآن بين المركز والإقليم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة