على عكس ما جرى مؤخرا في بعض الدول الأوروبية التي شهدت صعود اليمين المتطرف، ومنها إيطاليا والسويد، فاز اليسار في انتخابات الدنمارك المبكرة، التي جرت أول أمس الثلاثاء، فما هو شكل المرحلة المقبلة في كوبنهاغن.

نتائج الانتخابات، أفرزت عن فوز تكتل اليسار “الأحمر” بأغلبية بسيطة “النصف + واحد”، بحصوله على 90 مقعدا من أصل 179 مقعدا، وهو العدد الكلي لأعضاء البرلمان الدنماركي، فيما حصد تكتل اليمين “الأزرق” 73 مقعدا فقط.

الانتخابات المبكرة في المملكة الدنماركية، جرت على خلفية أزمة ذبح 17 مليونا من حيوانات “المنك”، بعد الأمر بالقضاء عليها بشكل عاجل، على خلفية المخاوف حيال متحوّرة لفيروس “كورونا”، في خطوة ثبُت لاحقا أنها مخالفة للقانون.

أحد الأحزاب الداعمة للحكومة الدنماركية اليسارية، هدّد بإسقاطها ما لم تتم الدعوة إلى انتخابات مبكرة تتيح إعادة كسب ثقة الناخبين، وهو ما حدث بالفعل عندما تم تحديد مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الجاري موعدا لإجرائها، وجرت بشكل رسمي أول أمس الثلاثاء.

ما وعد فريدركسن؟

رئيسة الوزراء الدنماركية ميتا فريدركسن، حافظت على موقعها في السلطة، بعد فوز التكتل اليساري الذي تنتمي إليه في الانتخابات، وعند وصولها إلى البرلمان أمس الأربعاء، قالت فريدركسن، “أنا سعيدة جدا، جدا”.

انتصار اللحظة الأخيرة لفريدركسن، أدى إلى القضاء على آمال اليمين المتطرف بالوصول إلى السلطة، لكنه قد لا يُقصى من المشاركة في الحكومة المقبلة، بحسب وكالة “فرانس برس”.

ما يعزز تلك الفرضية، إعلان فريدركسن أمس الأربعاء، استقالة حكومتها رغم فوز تكتلها بالانتخابات، وذلك كخطوة تمهيدية في محاولتها لتشكيل حكومة تضم طيفا سياسيا واسعا، بما في ذلك جزء من اليمين، وفق وعد لها تعهدت به قُبيل الانتخابات.

في رد فعل عما أفرزته الانتخابات، قال وزير المالية الدنماركي نيكولاي وامن في الحكومة المستقيلة، “هدفنا هو تشكيل حكومة تضم أحزاب اليسار واليمين؛ لأن البلاد أمامها تحديات شأنها شأن كل دول أوربا. في نظري حان الوقت لتشكيل تحالف حكومي واسع”.

فريدركسن تنتمي إلى “الحزب الاشتراكي الديمقراطي”، الذي حصل في الانتخابات التي شهدت تنافسا شديدا، على نسبة 28 بالمئة من أصوات المقترعين، بواقع 50 مقعدا في البرلمان المكوّن من 179 مقعدا، وهو الحزب الأول من حيث عدد المقاعد في الانتخابات.

استطلاعات الرأي قُبيل الانتخابات، أفادت بأن التكتل “الأحمر” اليساري بقيادة حزب فريدركسن، يحظى بما بين 47.1 و49.1 بالمئة من نوايا التصويت، مقارنة بـ 40.9 بالمئة إلى 43.6 بالمئة لتكتل الأحزاب اليمينية “الأزرق”.

فريدركسن كررت في الآونة الأخيرة، التحدث عن إمكانية قيادتها حكومة بتحالف بين اليمين واليسار، ويبدو أن حديثها أتى من خشيتها من عدم إمكانية فوز تكتلها بالأغلبية التي تمكّنها من تشكيل الحكومة، ولكن بعد تحقيق الأغلبية، لا أحد يستطيع التكهن بما إن كانت ستلتزم بتعهدها أم لا.

14 حزبا قدّم لوائح للتنافس على مقاعد مجلس النواب البالغة 179 مقعدا في الانتخابات المبكرة الأخيرة، بينها 4 مخصصة للأراضي الدنماركية ما وراء البحار، أي غرينلاند وجزر فارو.

لماذا ارتفع عدد الأحزاب؟

عادة ما كان يتنافس 10 أحزاب فقط على مقاعد البرلمان، إلا أن بعض المواجهات السياسية والأزمات أدت إلى تفكك داخل تكتل اليمين “الأزرق” وتفكك أقل عند تكتل اليسار “الأحمر”، مما رفع من عدد الأحزاب المتنافسة.

الانتخابات الدنماركية، عادة ما تسجّل نسبة مشاركة مرتفعة، ففي العام 2019، أدلى 84,6 بالمئة من الناخبين البالغ عددهم 4.2 ملايين بصوتهم، أما هذه المرة فقد بلغت نسبة المشاركة 84 بالمئة من أصل 4 ملايين و269 ألف ناخب.

الحملة الانتخابية، هيمنت عليها قضايا المناخ والتضخم ونظام الرعاية الصحية، في وقت يهدف البلد الاسكندنافي إلى تقليص انبعاثاته بنسبة 70 بالمئة بحلول العام 2030، بما يفوق نسبة الـ 55 بالمئة في “الاتحاد الأوروبي”، وبلوغ الحياد الكربوني في 2050 كمجمل دول القارة.

اليسار وعد في حملته الانتخابية، بسن قوانين بشأن التنوع البيولوجي، ويعتزم إدراج “ضريبة كربونية” على الزراعة، وهو إجراء يلقى تأييد غالبية التشكيلات السياسية الأخرى.

في الأوساط اليمينية، تم التركيز على تطوير حلول “خضراء” من قِبل يمين الوسط، أما اليمين المتطرف، فقد أبدى انفتاحه على بناء محطات للطاقة النووية، في حملته الانتخابية.

بعد الانتخابات، ثمة “صدمة عنيفة” أصيب بها معسكر اليمين ويمين الوسط، بحسب ما وصف محللو الانتخابات وعناوين خطابات ما بعد النتائج النهائية، حيث ظهر حزب “الشعب الدنماركي” الشعبوي المتطرف متلقيا هزيمة كبرى على يد ناخبه التقليدي، الذي اختار التصويت ليمين الوسط أكثر.

“الشعب الدنماركي” وصل بشعاره الانتخابي الأول “ترحيل المهاجرين” إلى عتبة الحسم 2 بالمئة، بعد أن كاد يخرج تماما من الحياة البرلمانية، لولا بضعة آلاف من الأصوات التي جعلته يحافظ على 5 مقاعد برلمانية، ويخسر في الواقع 11 مقعدا، حتى تحول إلى حزب غير مؤثر، حتى لو تشكلت حكومة يمين وسط.

المفاجأة الكبيرة في تفاصيل الانتخابات الدنماركية، أن رئيس حكومة يمين الوسط السابقة لارس لوكا راسموسن، استطاع من خلال حزبه الجديد “المعتدلون” إزاحة المحافظين وحزبه الليبرالي السابق “فينسترا”، عن تحقيق أغلبية برلمانية.

حكومة تحالف أم حكومة يسار؟

راسموسن حصل على 16 مقعدا، ما يُعد نجاحا كبيرا بعد أشهر قليلة على تأسيس حزبه، ليضعه في المرتبة الثالثة، مفضلا حكومة بعيدة عن التكتلات والأيديولوجيات، وذلك سحب أيضا البساط من تحت أقدام وزيرة الهجرة السابقة، المتشددة حيال المهاجرين، إنغا ستويبرغ، لتحقيق نتيجة كاسحة، فتراجعت بشكل كبير.

معسكر اليمين المتطرف ويمين الوسط في نهاية المطاف، لم يحقق سوى 73 مقعدا من أصل 179. ولعل أبرز نتيجة صادمة، إلى جانب خسارة الشعبويين، الذين أمّنوا سابقا أساسا برلمانيا لذلك المعسكر، أن مرشح رئاسة حكومة يمين وسط، وزعيم “حزب المحافظين” سورن بابي بولسن، أخذ حزبه نحو خسارة مقعدين، وتراجع خلال أسابيع في الاستطلاعات التي منحته 16 بالمئة، إلى تحقيق فقط 5.5 بالمئة.

الصفعة الأخرى تلقاها أكبر أحزاب يمين الوسط العريق “فينسترا” الليبرالي (تأسس قبل نحو 170 سنة)، والأكثر تشكيلا لحكومات البلد، إلى جانب يسار الوسط، إذ خسر الحزب نصف مقاعده بالضبط، وبلغة الأرقام خسر 20 مقعدا، وفي النسب المئوية تراجع من نحو 23 بالمئة إلى نحو 13 بالمئة.

عمليا، فإن مجموع ما حققه معسكر اليمين المتطرف ويمين الوسط، (73 مقعدا)، لا يؤهله لتحقيق أغلبية 90 مقعدا، حتى لو اختار رئيس الحكومة السابق راسموسن منحه 16 صوتا.

في المقابل، فإن رئيسة الحكومة المستقيلة من يسار الوسط، فريدركسن، خرجت بمفاجأة فوز حزبها، ليس فقط بالحفاظ على مقاعده، على عكس التوقعات والاستطلاعات، بل بزيادة رقمه من 48 مقعدا إلى 50، متفوقا على أقرب منافسيه في حزبي “المحافظين” و”فينسترا” الليبرالي، اللذين لم يحقّقا معا أكثر من 33 مقعدا.

اتساع الفجوة بدا واضحا، بتحقيق اليسار ويسار الوسط الأغلبية بحصده 90 مقعدا، إلا أنه لا يُتوقع أن تكون طريق تشكيل الحكومة الدنماركية المقبلة معبّدة بالنوايا الطيبة أو بفرح فوز يسار ويسار الوسط، وفق تقرير لصحيفة “العربي الجديد”.

زعيمة يسار الوسط فريدركسن، ذهبت إلى الانتخابات تحت شعار “حكومة عابرة للأحزاب والتكتلات”، وهي تتفق بذلك مع الخطاب نفسه لدى يمين الوسط، وهو ما يضعها في مأزق مع بقية أحزاب اليسار ويسار الوسط، الذين يضعون شروطا كبيرة تتعلق بالسياسات الاقتصادية ومواجهة الأزمة الحالية بسبب أزمة الطاقة والتضخم، وفي مجال التعهد برفض تشديد سياسات الهجرة، ومنع توقيع اتفاقية مع رواندا لنقل طالبي اللجوء إليها.

أخيرا، فإن حالة الانتظار في الشارع الدنماركي تبقى سيدة الموقف، وبالأخص حيال ما إذا كان من الممكن فعلا التوصل إلى تشكيلة عابرة للتكتلات الحزبية، برئاسة فريدركسن، أو ذهاب هذه السيدة للنكث بوعودها وتشكيل حكومة مع الأحزاب اليسارية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.