مناطق سيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، تواجه نُذُر أزمة اقتصادية وتمويلية جديدة تُهدد التحسن الاقتصادي الذي تحقق في الأشهر القليلة الماضية، في حال استمر وقف تصدير النفط الخام وبيعه، بالتوازي مع تعثُر مسار الإصلاحات الاقتصادية الحكومية، وفشل خطط البنك المركزي في عدن للحد من تأثيرات هذه المتغيرات على الميزانية العامة للدولة.

من المرجح أن تتسبب هذه الأزمة الاقتصادية في تقييد قدرة الحكومة على الوفاء بواجباتها تجاه المواطنين، والاستمرار في دفع مرتبات موظفي القطاع العام، وتمويل التشكيلات العسكرية والأمنية التابعة لها، إلى جانب دفع سعر صرف العملة المحلية داخل مناطق سيطرة الحكومة نحو مزيدٍ من التراجع، والذي قد يبلغ مستويات قياسية في حال لجأت الحكومة مُجددا إلى مصادر تمويل تضخمية.

كما سيؤدي تفاقم الوضع الاقتصادي والمعيشي في مناطق سيطرة الحكومة إلى زيادة معاناة المواطنين هناك، وقد يثير موجة من التوترات والاضطرابات الاجتماعية تُضعِف من قدرة الحكومة على تأمين مناطق سيطرتها، وتؤثر سلباً في قدرتها على إدارة الصراع مع خصومها الحوثيين.

تعثر في الأوضاع بعد تحسنها

تحسُن اقتصادي ملحوظ، تحقق في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا في الأشهر الماضية بفضل ارتفاع عائداتها من تصدير النفط الخام، وتطبيق عدد من الإصلاحات الاقتصادية، إضافة إلى الدعم المقدم من السعودية والإمارات، ومن مؤسسات التمويل الدولية المهتمة بالوضع الاقتصادي والإنساني في اليمن، لكن الحكومة تواجه حاليا مقدمات أزمة اقتصادية قد تعصف بكل التحسن الذي تحقق على هذا المسار.

بعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في آذار/مارس 2022، أخذت مناطق سيطرة الحكومة اليمنية تشهد تحسنا اقتصاديا ملحوظا تجلى في ثبات سعر صرف العملة المحلية “الريال” هناك عند مستوى يتراوح بين 1100-1200 ريال يمني مقابل الدولار الأمريكي، بعد أن كان سعر صرف الريال قد سجل أرقاما قياسية بوصوله إلى مستوى 1700 ريال مقابل الدولار نهاية العام الماضي، إلى جانب انتظام عملية دفع مرتبات موظفي القطاع العام.

سوق في اليمن “وكالات”

هذا التحسن يعود إلى ارتفاع عائدات الحكومة من صادرات النفط الخام، بالتزامن مع تطبيق مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، مثل رفع سعر صرف الدولار الجمركي، وقد أثمرت تلك الإصلاحات زيادة في الإيرادات العامة، وتعزز الوضع أكثر مع الإعلان عن تقديم الدعم السعودي والإماراتي وديعة في البنك المركزي، ومخصصات أخرى.

أيضا كان من المرتقب أن تواكب هذه المعطيات تطورات إيجابية إضافية خلال الأسابيع القليلة المقبلة، تتمثل في تدشين العمل بمنحة المشتقات النفطية السعودية الجديدة بقيمة 200 مليون دولار والمخصصة لتموين محطات توليد الكهرباء في مناطق سيطرة الحكومة، وكذلك في إمكانية موافقة صندوق النقد الدولي على تحويل نصف مخصصات السحب الخاصة لصالح الحكومة تحت إطار برنامج النافذة الغذائية الطارئة.

إلا أن الحكومة اليمنية تواجه حاليا استحقاقات التعاطي مع مقدمات أزمة اقتصادية جديدة تلوح في الأفق وتهدد بخسارتها كل المكتسبات التي عملت عليها مؤخرا، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى تعليق تصدير النفط اليمني الخام إثر هجمات جماعة الحوثي على موانئ محافظتي شبوة وحضرموت، وتعثر بعض من أهم الإصلاحات التي كان يفترض أن تنفذها الحكومة، وتزايد الشكوك حول جدوى الخطط المقترحة من قيادة البنك المركزي في عدن ومدى قدرتها على المساهمة في احتواء تداعيات المتغيرات الجديدة على صعيد صادرات النفط الخام والإصلاحات الاقتصادية.

قد يهمك:تفجر الأوضاع في اليمن بعد هدنة نصف سنوية.. ما التبعات؟

صادرات النفط معلقة

بعد الهجوم الحوثي على مينائي الضبة والمشيمة في محافظتي شبوة وحضرموت، وهما المنفذين الوحيدين المتاحين لتصدير النفط اليمني الخام، وتهديد ناقلات النفط الراسية، بواسطة طائرات مُسيرة، يومي 18 و19 من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، اضطرت الحكومة اليمنية إلى تعليق عملية تصدير النفط الخام وبيعه. وتناقلت وسائل الإعلام المحلية تسريبات تفيد بأن الشركات النفطية قررت تعليق العمل بشكل مؤقت إلى حين حلحلة هذه المشكلة، بسبب وصول الخزانات التابعة لها إلى الحد الأقصى من سعتها في ظل توقف التصدير، بل وعمدت أيضا إلى تسريح الموظفين بطريقة تدل على تضاؤل آمالها بانتهاء المشكلة في وقت قريب.

الحكومة اليمنية كانت قد حققت زيادة كبيرة في إيراداتها من تصدير النفط الخام هذا العام على خلفية ارتفاع الأسعار عالميا، إذ سجلت الإيرادات النفطية ككل زيادة في النصف الأول من هذا العام بمقدار 187.6 مليون دولار لتبلغ 739.3 مليون دولار مقارنة بـ 551.7 مليون دولار فقط في النصف الأول من العام الماضي.

مع أن الإيرادات النفطية تشمل عائدات تصدير النفط الخام ومبيعات المشتقات النفطية في السوق المحلية، إلا أن النسبة الأكبر منها تأتي من عائدات تصدير النفط الخام وليس من مبيعات المشتقات في السوق المحلية بسبب تسعيرتها المنخفضة جدا. وبالتالي، فمن المتوقع أن يتسبب تعليق عملية تصدير وبيع النفط الخام لمدة أطول حتى نهاية العام الحالي، في زيادة العجز بالميزانية العامة إلى نسبة كبيرة تتجاوز الـ 30بالمئة  بالنظر إلى حقيقة أن الإيرادات النفطية تمثل 68.4 بالمئة من الإيرادات العامة، وهو ما يدفع تفاؤل الحكومة بنجاحها في تقليص العجز في الميزانية لهذا العام مقارنة بالسنوات الماضية، إلى حافة الانهيار.

إصلاحات اقتصادية متعثرة

تعليق عملية تصدير وبيع النفط الخام، تأتي بعد أسابيع قليلة من تعثر مسار الإصلاحات الاقتصادية الذي تعمل عليه الحكومة اليمنية؛ فقد تعثرت خطتها لتحرير سعر المشتقات النفطية المنتجة محليا في محافظة مأرب بسبب معارضة قيادة السلطة المحلية وبعض الوجاهات القبلية النافذة هناك، ومطالبتهم الحكومة بالتراجع عنها بدعوى عدم قدرة المواطنين على تحمل أي أعباء إضافية في الوقت الراهن. ويتوقع أن يعيق ذلك إمكانية تطبيق أي إصلاحات أخرى من قبيل تحرير سعر صرف الدولار الجمركي ورفع تسعيرة الخدمات. فقد كان يتعين على الحكومة أن تصدر قرارا يقضي بتحرير أسعار المشتقات النفطية المنتجة محلياً في محافظة مأرب والمخصصة لتموين السوق المحلية هناك، أو على الأقل رفع أسعارها إلى مستوى أقرب إلى سعر التكلفة في الأسواق العالمية، وذلك من أجل زيادة إيرادات الحكومة من مبيعات المشتقات النفطية.

المعروف أن قيادة السلطة المحلية في محافظة مارب فرضت تسعيرة ثابتة للمشتقات النفطية المنتجة محليا منذ العام 2015 وحتى الآن وتحديدا لوقود البنزين، الذي يباع اللتر الواحد منه بـ 175 ريال يمني، بينما يتراوح سعر لتر البنزين المستورد في بقية مناطق سيطرة الحكومة بين 950 و1100 ريال يمني حاليا. ومن الصعب تحديد قيمة دقيقة لحجم خسائر الحكومة بسبب انخفاض تسعيرة البنزين المنتج محليا في مأرب، فضلا عن تذبذب سعر التكلفة في الأسواق العالمية على مدار السنة، لكن بالاعتماد على السعر الحالي في الأسواق العالمية، وعلى بعض التقديرات التي تفيد بأن إنتاج مصفاة صافر في محافظة مارب من البنزين يقدر بـ 700 ألف لتر يوميا، يمكن القول إن الحكومة تخسر حوالي 198 مليار ريال يمني سنويا، وهو رقم ضخم يمثل بحد ذاته قرابة 16بالمئة من إجمالي إيرادات الحكومة خلال النصف الأول من هذا العام.

شكوك حول جدوى استراتيجية البنك المركزي في عدن

مؤخرا أثيرمزيد من الشكوك حول جدوى الخطط المقترحة من قيادة البنك المركزي في عدن مثل السندات المضمونة ضد تقلبات أسعار الصرف والصكوك الإسلامية، وحول قدرتها على المساهمة في احتواء تداعيات المتغيرات الجديدة على صعيد صادرات النفط الخام، والإصلاحات الاقتصادية على وجه التحديد.

إذا كان من الممكن قبول توجه قيادة البنك المركزي نحو تمويل العجز في الميزانية العامة من خلال إصدارات السندات والصكوك بمختلف أنواعها، وذلك بسبب الظروف الاستثنائية للبلاد، وبصرف النظر عن أن استخدام القروض في تمويل العجز من النفقات الجارية، والتي تمثل 99.5 بالمئة من النفقات في ميزانية الحكومة اليمنية لهذا العام، تعد في الواقع استراتيجية غير مناسبة على المدى البعيد. لكن السندات المضمونة ضد تقلبات أسعار الصرف على وجه الخصوص تعد خطوة غير تقليدية، وتنطوي على مراهنة لا تخلو من المخاطر، إذ تستند إلى افتراضات معينة من قبيل أن تراجُع سعر صرف العملة المحلية يعود إلى مخاوف غير منطقية بين المتعاملين، أو قد تستند إلى الثقة في القدرة على تثبيت سعر صرف العملة المحلية.

تداعيات الوضع الاقتصادي

من المُرجح أن تواجه الحكومة خلال الفترة المقبلة عجزا كبيرا في الميزانية العامة، بما يقيد قدرتها على الوفاء بأغلب واجباتها تجاه المواطنين في مناطق سيطرتها، من قبيل تمويل الخدمات العامة، ودفع مرتبات موظفي القطاع العام بشكل منتظم، وهي متغيرات ستزيد من تدهور ظروف المواطنين المعيشية المتردية أساسا.

أيضا في ظل هذا العجز في الميزانية العامة، من المتوقع أيضا أن تتأثر قدرة الحكومة على توفير المخصصات الكافية لتمويل النفقات التشغيلية لمختلف التشكيلات العسكرية والأمنية التابعة لها، وبالتالي يحتمل بأن تواجه الحكومة تحديات متزايدة على صعيد تأمين مناطق سيطرتها والحفاظ على مستوى جاهزية قواتها على امتداد ساحات المواجهة مع خصومها الحوثيين.

من المتوقع أن يشهد سعر صرف العملة المحلية في مناطق سيطرة الحكومة تراجعا تدريجيا في الأسابيع القليلة المقبلة نتيجة عجز البنك المركزي في عدن عن الاستمرار في إقامة مزاداته الأسبوعية لبيع العملة الصعبة إلى المستوردين في ظل توقف المصدر الوحيد لتمويل تلك المزادات، وهو عائدات الحكومة من صادرات النفط الخام.

كما سيؤثر التراجع التدريجي المتوقع في سعر صرف العملة المحلية، سلبا وعلى نحو ملموس، في الظروف المعيشية للمواطنين بمناطق سيطرة الحكومة، ليس بفعل تقلص القدرة الشرائية فقط، وإنما كذلك بسبب تراجع النشاط الاقتصادي الكُلي، وبالتالي تضاؤل فرص العمل والوظائف المتوفرة، في ظل تقلبات سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية.

من غير المستبعد أن تشتد وتيرة تراجع سعر صرف العملة المحلية وتسجِل مستويات قياسية جديدة في حال عودة الحكومة إلى اللجوء لمصادر التمويل التضخمية، ضخ طبعات جديدة من العملة المحلية، من أجل تغطية نفقاتها على غرار ما جرى في السنوات القليلة الماضية 2017 إلى 2021، الأمر الذي قد يتسبب في المزيد من الآثار والتداعيات السلبية على وضع المواطنين المعيشي وقدرتهم على الصمود في مناطق سيطرة الحكومة.

اقتصاد مُنهار وأزمة تتفاقم

الاقتصاد اليمني ينهار وأزمته الإنسانية تتفاقم فيما الصراع في أفقر دولة بالعالم العربي يزداد عنفا، حسبما قال نائب منسق الشؤون الإنسانية لدى الأمم المتحدة، راميش راجاسنغهام، منتصف الشهر الماضي، مضيفا أن أكثر من 20 مليون يمني يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، لكن وكالات الإغاثة، كما قال “نفدت أموالها مرة أخرى”.

ميناء الضبة اليمني “وكالات”

راجاسنغهام لفت إلى أن وكالات الإغاثة تساعد الآن ما يقرب من 13 مليون شخص في جميع أنحاء اليمن، بزيادة حوالي 3 ملايين عما كانت عليه قبل بضعة أشهر فقط، وأضاف، “أفضل تقييم لدينا هو أن هذا التوسع قد أدى إلى حد بعيد إلى تراجع المخاطر المباشرة للمجاعة واسعة النطاق”. لكنه حذر من أن وكالات الإغاثة ليس لديها ما يكفي من المال للاستمرار على هذا المستوى.

أيضا تابع راجاسنغهام، “في الأسابيع والأشهر القادمة، يمكن أن يشهد ما يصل إلى 4 ملايين شخص انخفاض مساعداتهم الغذائية” و”بحلول نهاية العام، هذا العدد يمكن أن يرتفع إلى 5 ملايين”، وأضاف”ندعو الجميع إلى بذل كل ما في وسعنا للحفاظ على الزخم الذي بنيناه خلال الأشهر العديدة الماضية وإبعاد المجاعة”.

المسؤول الأممي، أشار أيضا إلى اشتباكات بين جماعات مسلحة متناحرة في وقت سابق من الشهر الماضي في مدينة عدن الجنوبية، حيث أقامت حكومة هادي مقرا لها بعد أن طردها الحوثيون من صنعاء والشمال، واستمرار القتال والقصف والضربات الجوية في صعدة ومحافظتي حجة والحديدة الواقعتين في الغرب وعلى طول ما يقرب من 50 خطا أماميا آخر.

إقرأ:عدم تمديد الهدنة في اليمن.. حرب جديدة للخليج؟

في منتصف تموز/يوليو الماضي، كان برنامج الغذاء العالمي قد أعلن أنه يعتزم تقليص مساعداته للمستفيدين في اليمن بنسبة تتراوح بين 25 و50 بالمئة من الاحتياجات اليومية للمستفيدين والفئات الأكثر احتياجا، وأشار إلى أنه سيقوم بإيقاف أنشطة تعزيز القدرة على الصمود وسبل كسب العيش والبرامج التغذوية، وذلك بسبب النقص الحاد في التمويل وتداعيات الحرب في أوكرانيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.