في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الحالي، أُعيد انتخاب الرئيس البرازيلي السابق، لولا دا سيلفا، ليشغل منصب الرئاسة في البرازيل، إذ فاز بنسبة 50,9 بالمئة مقابل 49,1 بالمئة لجايير بولسونارو المنتهية ولايته، وهي النتائج التي توقعها العديد من استطلاعات الرأي فى البرازيل خلال الفترة الماضية، وتُمثل عودة لولا دا سليفا مرة أخرى ليشغل فترة رئاسية ثالثة بعد انقضاء فترة رئاسته الثانية في 2010، وتوجيه اتهامات له بالفساد، حلقة من حلقات صعود اليسار فى أمريكا اللاتينية.

عودة دا سيلفا إلى سدة الحكم لم تكن بالأمر السهل خاصة أن الفارق الانتخابي بينه وبين منافسه لم يتجاوز الواحد فى المائة، وهذا يعنى أنه سوف يواجه مجموعة من التحديات والصعوبات لكسب تأييد أغلبية من صوتوا لصالح بولسونارو، بالإضافة إلى التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن التحديات الناتجة عن التغير فى بنية النظام التي تتسابق فيه القوى الدولية لاستقطاب أكبر عدد ممكن من دول أمريكا اللاتينية.

بصرف النظر عن فوزه في الانتخابات، سيتعين على سيلفا التعامل مع تحدٍ هائل يتمثل في كيفية حكمه للبلاد في المرحلة المقبلة، إذ سيكون لزاماً عليه الموازنة بين الوفاء بوعوده للناخبين الذين صوّتوا له وبين تمثيل 215 مليون برازيلي. تستكشف هذه الورقة التحديات الماثلة أمام حكومة سيلفا في الداخل، وسياستها الخارجية.

أهم الملفات الداخلية

توزع الأصوات الانتخابية، حالة الاستقطاب السياسي في البرازيل، بدت جلية بشكل كبير في توزيع الأصوات التي حصل عليها كل مرشح في الولايات الست والعشرين للبلاد. فقد حصد سيلفا غالبية الأصوات في 13 ولاية تقع شمال وشمال شرق البلاد، وتعاني من صعوبات اقتصادية ومعيشية، وهي، ألاغواس، أمازوناس، باهيا، سييرشا، مارانهاو، ميناس جيرايس، بارالي، بارابا، بيرنامبوكو، بياويش، ريو غراندي دو نورتي، سيرغيبي، توكانتينز. وعلى النقيض من ذلك، فاز الرئيس المنتهية ولايته بولسونارو بغالبية أصوات الناخبين المحافظين في 14 ولاية تُعد الأغنى والأكثر ثراء في وسط وجنوب وجنوب شرق البلاد، وهي، ريو دي جانيرو، ساو باولو، ديستريتو فيدرال، أكري، آمابا، إسبيرتو سانتو، غوياس، ماتو غروسو، ماتو غروسو دو سول، بارانا، ريو غراندي دو سول، روندونيا، سانتا كاتارينا.

الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو “وكالات”

التنافس كان على أشده في تسع ولايات في منطقة الأمازون على خلفية السياسات المتعارضة التي يتبناها كلا المرشحين. فداعمو بولسونارو هم في الأصل مُنتفِعون من السياسات التي تبناها الرئيس السابق ويشملون أولئك المستفيدين من إزالة الغابات، بمن فيهم أصحاب المناجم والمزارعين ومربو الثروة الحيوانية في مناطق روريما وأكري وآمابا وماتو غروسو وروندونيا. في حين صوتت الشعوب الأصلية ومنظمات المجتمع المدني في منطقة الأمازون وبارا وتوكانتينز وماراناهو لصالح سيلفا.

توقع بصدام بين دا سيلفا والبرلمان، سيلفا فاز بمنصب الرئاسة، لكنه لا يبدو أنه فاز بدعم البرلمان لسياساته التقدمية. هناك قضيتان مهمتان بشكل خاص في هذا السياق، تتمثل الأولى في حقيقة أن ائتلافات حزبية هي مَن تهيمن حاليا على “مجلس النواب” 513 مقعدا و”مجلس الشيوخ الاتحادي” 81 مقعدا. فبعد الانتخابات الأخيرة، حصلت الأحزاب اليمينية على 249 مقعدا في “مجلس النواب”، بينما حصل “حزب العمال” وحلفاؤه على 141 مقعدا فقط. وارتفع عدد ممثلي “الحزب الليبرالي” الذي يتزعمه بولسونارو من 76 إلى 99 نائبا في مجلس النواب، بينما قفز عدد ممثليه في “مجلس الشيوخ” من سبعة إلى 14. وبالمثل، لكن بدرجة أقل، نجح “حزب العمال” في زيادة عدد ممثليه في مجلس النواب من 56 إلى 68، ومن 7 إلى 8 في “مجلس الشيوخ”.

لذلك، سيكون على الرئيس الجديد التحالف مع أحزاب الوسط أو ما يسمى في الأوساط السياسية البرازيلية بـــ “الوسط الكبير” الذي دعم بولسونارو في السنوات الأخيرة. ولكن مهمة سيلفا في حكم البلاد لن تكون يسيرة في حال لم يُقدم تنازلات لأحزاب الوسط. وتكمُن القضية الثانية في نوعية المعارضة التي سيواجهها سيلفا. فمنذ أن انضم بولسونارو لـ”الحزب الليبرالي”، أصبح الحزب أكثر أدلجة وتصلّبا مقارنة بباقي أحزاب اليمين. ورغم إزاحة بولسونارو عن سدة الحكم، إلا أنه ما زال فعليا يسيطر على ربع “مجلس النواب” الذي تهيمن عليه أحزاب اليمين.

من هنا، سيحتاج سيلفا إلى موافقة البرلمان على خططه لتمويل الوكالات البيئية الحكومية مثل المعهد البرازيلي للبيئة والموارد الطبيعية المتجددة، والمؤسسة الوطنية للشعوب الأصلية، بالإضافة إلى برامجه للتنمية الاجتماعية. وستظل قدرة الرئيس الجديد على الوفاء بوعوده بحماية غابات الأمازون من الإزالة ومجابهة برلمان تسيطر عليه أحزاب داعمة للرئيس السابق مدفوعة بمصالح تجارية وزراعية رهنا بما سنشهده من تطورات في المستقبل. فهذه الأحزاب تتبنى سياسات اقتصادية وثقافية وسياسية تقوم في الأساس على إنكار أن تغير المناخ حقيقة واقعة، خصوصا فيما يتعلق بمنطقة الأمازون. ومن شأن مثل هذه النظرة أن تشكل تهديدا للجهود العالمية المبذولة للتصدي لتغير المناخ وتجنب أسوأ السيناريوهات.

العمل على إرضاء كل الأطراف، بالنسبة لسيلفا، قد تكون حقبة ما بعد بولسونارو فرصة لتجربة جريئة تتمثل في عدم تبني برنامج عمل يساري خالص هدفه استمالة أحزاب الوسط فقط. إذ ينبغي على الرئيس الجديد أن يكون نقطة التقاء لمشهد حزبي سياسي غير متجانس في البلاد، يشمل أحزاب اليسار والوسط واليمين. في حقيقة الأمر، ضمّ ائتلاف سيلفا الفائز في الانتخابات أحزاب عديدة شملت ممثلين عن الوسط ويمين الوسط، بما في ذلك الحزب الديمقراطي الاجتماعي البرازيلي، الذي كان في صف المعارضة خلال الفترتين الرئاسيتين السابقتين لسيلفا.

كما يظل تورط “حزب العمال” في شبهات فساد في الماضي مسؤولية يتعين على الرئيس المنتخب التعامل معها. ومن المحتمل أن يسعى الرئيس الجديد إلى زيادة حلفائه في البرلمان من خلال التحالف مع أحزاب يمينية أخرى، مثل “أونياو برازيل”، والتفاوض على منحها حقائب وزارية رئيسية، مثل وزارة الاقتصاد. كما سيكون لزاما على سيلفا تدشين حوار سياسي وطني واسع لتحقيق المصالحة وضمان وحدة البلاد إذا ما أراد النجاح في مهمته. علاوة على ذلك، سيتعين عليه التفاوض على بعض الإصلاحات مع المعارضة في البرلمان ومع حكام الولايات.

أهم ملفات السياسة الخارجية

عام 2022، شهد تزعم رؤساء يساريين وتقدميين للدول الخمس الأكبر في أمريكا اللاتينية وهذا شيء غير مسبوق. فبالإضافة إلى سيلفا في البرازيل، هناك غابرييل بوريتش فونتي في تشيلي، وغوستافو فرانسيسكو بيترو في كولومبيا، وأندريه مانويل لوبيس أوبرادور في المكسيك، وألبرتو فرنانديز في الأرجنتين. وهذا الزخم اليساري من شأنه أن يقوي حضور سيلفا في المنطقة ككل. على المستوى الخارجي، يحظى الرئيس الجديد بقبول وسمعة أفضل من سابقه بولسونارو الذي رسم لنفسه صورة خارجية سلبية عبر سعيه لعزل البرازيل عن باقي العالم.

من المرجح أن يتبنى الرئيس الجديد سياسة خارجية مستقلة. وقد يسعى سيلفا إلى تعزيز العلاقة مع مجموعة دول “البريكس” التي تضم، بالإضافة إلى البرازيل، بلدان روسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، خصوصا أن دولا أخرى، بما في ذلك تركيا والمملكة العربية السعودية، قد ترغب في الانضمام إلى المجموعة. وبالإضافة إلى التزامه القوي بالتعاون بين بلدان الجنوب، قد يسعى الرئيس البرازيلي الجديد إلى تعزيز التعاون مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المؤيد للتعددية. ومن المرجح كذلك أن يعزز سيلفا موقع الزعامة الذي تحظى به البرازيل في أمريكا اللاتينية عبر العمل على تقوية التحالفات الإقليمية، مثل السوق المشتركة الجنوبية مع الأرجنتين وأوروغواي وباراغواي.

كما يتوقع أن تكون الدعوة إلى عمل مناخي متعدد الأطراف مكونا رئيسا في السياسة الخارجية لحكومة سيلفا. كما إن حقيقة أن قادة يساريين آخرين في المنطقة، مثل رئيسي تشيلي وكولومبيا، يتبنون الالتزام نفسه تجاه المناخ ويسعون إلى إيجاد نموذج عمل اقتصادي يعطي الأولوية للطاقة النظيفة يمكن أن تسهم في تبني سياسات إقليمية واسعة تتجاوز الحدود الوطنية. وعليه، يمكن أن تساعد دبلوماسية المناخ الرئيس البرازيلي الجديد في جذب استثمارات ضرورية في مجال الطاقة النظيفة ومنع إزالة الغابات والتصدي لها.

تحديات في الاقتصاد

المشكلات الاقتصادية فى البرازيل، تُعد أحد أبرز التحديات أمام سيلفا فى ظل ارتفاع معدلات التضخم التي تجاوزت 12,5 بالمئة، خلال شهر إبريل 2022، وإن كانت قد تراجعت خلال شهر سبتمبر إلى 7,17 بالمئة، ويعود ذلك إلى تدابير الإنفاق العام التي روّج لها بولسونارو من خلال خطة “مساعدة البرازيل”، إلا أن المواطنين لا يزالون يعانون من ارتفاع الأسعار، وهو الأمر الذى سيجعل ميزانيات 2023 “قضية حاسمة” للهيئة التشريعية المقبلة، خاصة أن المتخصصين فى الشأن اللاتيني يتفقون على أن التحدي الاقتصادي سيكون حاسما فى هذا المجلس التشريعي، فى ظل وجود “كونغرس” مجزأ للغاية لن يجعل من السهل الموافقة على تدابير وإصلاحات حكومة لا تتمتع بأغلبية.

على الرغم من نمو الناتج المحلي الإجمالي البرازيلي بنسبة 1,2 بالمئة فى الربع الثاني من عام 2022، فإن الفقر والجوع لا يزالان يصيبان جزءا كبيرا من السكان، ووفقا للشبكة البرازيلية للأبحاث حول السيادة والأمن الغذائي، ارتفع تعداد الأفراد التي تعرضت للجوع من 19 مليونا فى عام 2020 إلى أكثر من 33 مليونا فى عام 2022.

البرلمان البرازيلي “وكالات”

في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، فإن سيلفا سيجد نفسه في موقف لا يحسد عليه، حيث سيواجه صعوبات أكبر كثيرا من تلك التي واجهها عندما تولى رئاسة البرازيل في المرة السابقة قبل عقدين. ونظرا لنشأته الفقيرة، نجح في التصدي لأسعار السلع المرتفعة، من أجل تحسين معيشة البرازيليين الأشد فقرا وتقليل نسبة الفقر الشديد، والحد من التفاوت الطبقي، من خلال برنامج للدعم النقدي للفقراء. ووعد سيلفا بتكرار إنجازه السابق في ولايته الجديدة التي ستبدأ مطلع العام المقبل، مع إعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح وعلاج الأضرار التي لحقت بالبيئة.

لكن الظروف الآن تختلف عن الظروف في مطلع القرن الحالي عندما وصل سيلفا إلى السلطة. فليس هناك ازدهار لأسعار السلع، واستراتيجية “صفر إصابات بفيروس كورونا” في الصين تقلص الطلب على الصلب والحديد الخام اللذين تنتجهما البرازيل. كما أن العالم يتجه الآن نحو التراجع، وهو ما يعني تراجع إيرادات الحكومة البرازيلية خلال العام المقبل.

أيضا على رأس التحديات التي تواجه سيلفا تأتي ضرورة طمأنة المستثمرين الخائفين، الذين ربما يشعرون بالارتياح لعدم تفجر الفوضى بعد إعلان نتيجة الانتخابات، لكنهم يشعرون بالقلق مما سيأتي بعد ذلك. والسجل الاقتصادي السابق لسيلفا براغماتي، وحتى الآن لم يقدم سوى تفاصيل قليلة، باستثناء خطاب الفوز الذي وعد فيه بالجمع بين وعوده الاجتماعية والمسؤولية المالية، مؤكدا ما كتبه للبرازيليين في عام 2002.

كما يحتاج سيلفا إلى توضيح كيفية تحقيق التوازن بين الاحتياجات الضخمة للشعب والديون الباهظة المستحقة على الدولة، والبدء بتعيين وزير مالية يثق به المستثمرون، كما أن سيلفا في وضع جيد لاستعادة صدقية البرازيل الدولية، بدءا من الالتزامات بشأن التعامل مع قضية المناخ، في ضوء التدمير واسع النطاق لغابات الأمازون في عهد بولسونارو، كما يحتاج إلى إعادة بناء المؤسسات المعنية بمراقبة وحماية البيئة والسكان الأصليين.

أيضا من أبرز التحديات التي تواجه سيلفا، ارتفاع معدلات البطالة الذي وصل إلى أكثر من 11 مليون عاطل عن العمل بالبرازيل، كما أن الوظائف التي أوجدت خلال هذا العام أقل بنسبة 14,4 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021.

خبراء ومختصون يرون أن الطريق الأمثل أمام الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، هو بناء سياسة خارجية أكثر توازنا مع المجتمع الدولي، خاصة فى ظل التحديات التي نتجت عن الأزمة الأوكرانية، فضلا عن ضرورة استئناف العلاقات الودية مع الدول التي توترت معها العلاقات نتيجة سياسات بولسونارو، بما فى ذلك الصين الشريك التجاري الأكبر للبرازيل اليوم، بالإضافة إلى فرنسا وألمانيا والنرويج والولايات المتحدة، إضافة إلى التحسن فى العلاقات مع دول أميركا اللاتينية، التي شهدت توترات فيما بينها فى ظل إدارة بولسونارو.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.