تثار تساؤلات عديدة حول الاجتماع الثلاثي الروسي – التركي – السوري على مستوى وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات في الدول الثلاث حول الوضع في شمال سوريا، بعد أن كانت النتيجة الرئيسة لهذا الاجتماع عودة الجانب التركي عن نية التوغل ضمن الأراضي السورية بعمق 30 كيلومترا، بحجة إخراج القوات الكردية المنضوية ضمن “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من المناطق الواقعة تحت سيطرتها، والتي تعتبرها أنقرة “إرهابية” وتقوض الأمن في تركيا.

هذا الاجتماع الذي انعقد في موسكو، بحسب التصريحات التركية والتسريبات الروسية والسورية، على تنوعها واختلافها في تحديد الأولويات، فإن الاجتماع خلق ديناميكية جديدة ومتسارعة في العلاقة بين دمشق وأنقرة برعاية كاملة من القيادة الروسية. فوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، قال إن الاجتماع المرتقب بنظيره السوري فيصل المقداد، قد يجري من الشهر الحالي، فيما قالت مصادر دبلوماسية روسية إن اجتماع موسكو أقر تسلسلا للقاءات بهدف استعادة العلاقات السورية  التركية حرارتها، إضافة إلى اجتماعات اللجان المشتركة من أجل متابعة الإجراءات التي اتُفق عليها على الصعد العسكرية وعودة النازحين، وتقضي باجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث، كما أعلن أوغلو، سيعقب ذلك اجتماع على مستوى الرؤساء برعاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحضور الرئيسين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد، خلال الأشهر الأولى من السنة الجديدة، والذي أكده أردوغان، يوم أمس الخميس بتصريح آخر، حيث قال إنه قد يجتمع مع نظيره السوري، الأسد في إطار عملية سلام جديدة.

بعيدا عن استعدادات أردوغان العاجلة لعقد لقاء قمة في أقرب وقت مع نظيره السوري بعد أكثر من عشر سنوات من العداء والقطيعة وأن الاهتمام التركي بهذا التقارب العاجل سببه المباشر الانتخابات التركية في عام 2023، فإن موسكو تسعى إلى ضم العشائر العربية في مناطق الشمال السوري، وتلك المحاذية لمناطق الوجود العسكري الأميركي إلى جهود إنجاح عملية انتشار الجيش السوري على الحدود. ولذلك دعت روسيا أحد قادة العشائر، الرئيس السابق لـ”ائتلاف المعارضة السورية” أحمد الجربا، لزيارتها، آملةً أن تلعب العشائر دورا في مواكبة تنفيذ “اتفاق موسكو” وخطوات تموضع الجيش السوري على الحدود، بحسب أحد التحليلات.

بالتالي تبرز عدة تساؤلات حول تحرك موسكو الحثيث ضمن هذا التقارب، وتحديدا في هذا التوقيت، حيث يشتد صراعها مع الغرب إثر غزوها لأوكرانيا، فما تداعيات هذه التطورات على المنطقة الشمالية الشرقية السورية وعلى الوجود الأميركي فيها.

إضافة إلى ذلك، تشير المعطيات الراهنة إلى أن موسكو في هذا الموقف ووساطتها تشكل امتدادا لصراعها مع واشنطن في أوكرانيا إلى الداخل السوري، وما يغذي هذه الفرضية هو انتقاد واشنطن الانفتاح على دمشق، ودعت أنقرة لمراجعة تاريخها وعدم التطبيع مع “النظام الديكتاتوري الوحشي”، وبالتالي ما مدى صحة هذه الفرضية وكيف سيؤثر ذلك على المنطقة ككل، فيما إذا اتجهت موسكو إلى تأجيج الأوضاع في الشمال الشرقي السوري من خلال هذه الاتفاقية، وتبعات مساعي موسكو في نقل صراعها مع واشنطن إلى الشمال السوري.

سرعة الخطوات لـ”التقارب”

أردوغان، أكد احتمالات لقائه الأسد في إطار جهود من أجل السلام، وذلك بعد لقاء مرتقب لوزراء خارجية كل من تركيا وروسيا وسوريا، مضيفا في كلمة خلال اجتماع لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم في أنقرة، يوم أمس الخميس، إن من المقرر عقد اجتماع ثلاثي يضم وزراء خارجية كل من تركيا وروسيا وسوريا، للمرة الأولى، من أجل المزيد من تعزيز التواصل بعد اجتماع وزراء دفاع الدول الثلاث في موسكو، الأسبوع الماضي، بحضور رؤساء أجهزة المخابرات، في أرفع اتصال بين أنقرة ودمشق منذ العام 2011.

أردوغان قال أيضا “وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا سيلتقون بعد فترة قصيرة، وإذا كانت نتائج محادثاتهم إيجابية، سنعقد محادثات على مستوى الرؤساء بالفترة المقبلة.. قد نجتمع كقادة تركيا وروسيا وسوريا أيضا لمناقشة السلام والاستقرار في سوريا، اعتمادا على التطورات.. هدفنا هو إحلال السلام والاستقرار في المنطقة”.

زاد بالقول ” اليوم الخميس، أجريت محادثات هاتفية مهمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بحثنا تطورات الملف السوري، ومسار علاقاتنا مع سوريا”.

الانعكاسات

يبدو أن عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق جاءت بوساطة وإصرار روسي، بعد أن عارض الأسد هذا التقارب مع الجانب التركي، لكن بوتين أقنعه بعد ذلك، وغير مستبعد أيضا أن تكون إيران طرفا مشاركا في الاتصالات الاستخباراتية والأمنية بين هذه الأطراف، وهو ما أشار إليه النائب عن حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا، أورهان مير أوغلو، أيضا، أن الاتصالات بين تركيا ودمشق ستستمر في العام 2023، مشيرا إلى أن إيران “ستُمنح مقعدا على الطاولة”.

قد يهمك: التطبيع التركي السوري.. الضمانات والتحديات

الإصرار الروسي في هذا التقارب، وتجميع هذه الأطراف في شمال سوريا، اعتبره البعض بأنه يشكل امتدادا لصراعها مع واشنطن في أوكرانيا إلى الداخل السوري، في حين يراه الكاتب والمحلل السياسي، داريوس درويش، أن “النظام السوري ومن خلفه روسيا لم يتوقفوا عن محاولة استمالة العشائر العربية في مناطق شمال شرقي سوريا، ودعمه في ذلك شيوخ بعض العشائر المنشقين عن المعارضة مثل نواف البشير، إلا أنهم فشلوا حتى الآن في تحقيق ذلك”.

هذه الاستمالة، وفق تقدير درويش لموقع “الحل نت”، لا تسعى إلى تحقيق هدف تكتيكي من أجل تسهيل إعادة انتشار الجيش السوري على الحدود مع تركيا، إذ، أولا، لا حاجة لهذا التسهيل طالما أنه سيتم بموافقة روسية وتركية؛ ثانيا، الوجود الديمغرافي العربي على الحدود خارج المناطق التي تحتلها تركيا ضئيل جدا وتأثيره بالتالي على إعادة الانتشار سيكون ضئيلا جدا؛ وثالثا، القوة العسكرية العشائرية بطبيعتها ليست قوة موحدة ولم يحدث أن لعبت في الحرب السورية أي دور فعّال في الأعمال القتالية.

بالتالي، “ما يسعى إليه النظام السوري من استمالة العشائر العربية ليس من أجل تسهيل إعادة انتشار الجيش السوري على الحدود مع تركيا، بل يحقق لها هدفا استراتيجيا أكثر أهمية، وهو تأليب هذه العشائر على قوات سوريا الديمقراطية وخلق حالة من الصراع العربي – الكردي التي ستضعف المنطقة وتتسبب، أقله، بفتور أشد المؤيدين لتجربة الإدارة الذاتية المميزة بالتعايش الحقيقي بين مختلف مكوناتها”، على حد تعبير درويش.

يمكن أن يُفهم اللقاء بين الجربا ووزير الخارجية الروسي ضمن هذا السياق الأخير، وإن لم تكن موافقة الجربا على لعب هذا الدور العشائري أمرا مؤكدا. إلا أن الأقرب إلى الظن هو أنه في ضوء التغيرات في موقف الإمارات العربية من دمشق وسعيها للتطبيع معها، ارتأت روسيا منح الجربا دورا في خطتهم إرضاءً للإمارات ومن خلفها السعودية، وفق تقدير درويش.

صراع مفتوح ونتائج “كارثية”؟

بحسب التصريحات الرسمية والدبلوماسية من الأطراف الثلاثة، وفي وقت شدد فيه الإعلام السوري على أن تركيا “وافقت على انسحابها الكامل من شمال سوريا”، ربط جاويش أوغلو “عزم تركيا نقل السيطرة في مناطق وجودها حاليا”، إلى سوريا بـ”تحقيق الاستقرار السياسي وعودة الأمور إلى طبيعتها في البلاد”، منوّها عن “إمكانية للعمل المشترك مستقبلا”.

بمعنى أن تركيا ستوافق على “الاتفاق على تهيئة الأجواء الأمنية على الحدود، وأن يتسلم حرس الحدود السوري مهامه في المعابر، وأن تتم تهيئة كل الأجواء الآمنة لبدء عمليات التبادل التجاري.

هذه العمليات التي ستبدأ مباشرةً بعد لقاء الرؤساء، والتي ستسهّل وصول المساعدات إلى سوريا، والمقصود في الدرجة الأولى العمليات الاقتصادية لوقف التدهور الاقتصادي الذي تعانيه سوريا اليوم”، وفق مصادر دبلوماسية روسية أوضحت لـ”اندبندنت عربية“. وفسّر مراقبون ذلك بأن فتح باب الاستثمارات في الجانب السوري من الجانب التركي هو إغراء لدمشق بالحصول على مساهمة تركية بالانفتاح الاقتصادي على الرغم من الحصار الغربي على دمشق، مقابل سيطرته على مناطق وجود القوات الكردية وتساهله مع عودة بعض الفصائل السورية المعارضة الموالية لأنقرة. بالتالي، يرجح أن يشكل هذا الأمر تأجيج للوضع في الشمال الشرقي السوري، حيث تواجد القوات الأميركية.

بينما، درويش يعتقد في هذا الإطار إن الصراع الروسي الأميركي هو أصلا على أشده بين الدولتين منذ حرب ليبيا التي يعتبر الروس أنهم تعرضوا لخديعة غربية فيها، ولم تحدث الحرب الأوكرانية حتى الآن أي تغييرات جذرية في طبيعة هذا الصراع طالما أن المواجهة المباشرة بين الدولتين لم تحدث بعد، ومن المستبعد جدا أن تحدث في وقت قريب، لا بسبب أوكرانيا ولا بسبب سوريا، لذا، فالانتقاد الأميركي للتطبيع مع دمشق هو انتقاد علني لحلفائها تركيا والإمارات، وليس لروسيا التي هي في حالة صراع معها.

رغم أن المعيقات المصلحية أمام تشكل هكذا “حلف شيطاني” بين أنقرة ودمشق كثيرة، وفق تقدير درويش، إلا أنه يجب توخي أقصى درجات الحذر منه. إذ لو نجحت تركيا في إقناع الروس بالتخلي عن المناطق الخاضعة لسيطرتهم في الشمال الشرقي، لا سيما كوباني ومنبج، والتي ستكون مقابل تخلي تركيا عن مناطق سيطرتها في إدلب وحلب، فإن تأثيرات ذلك على السوريين ستكون كارثية. عمليات التغيير الديمغرافي والإبادة الجماعية بحق الكُرد في الشمال الشرقي والعرب السنة في غربي البلاد ستكون ثيمة العام. ستعم كذلك عمليات الانتقام والتعذيب والقتل لكل من عارض تركيا أو دمشق، وبغض النظر عن انتمائه.

هذا التقارب التركي السوري، الذي تفاجأ فيه معظم السوريين، جعل جميع الخيارات مفتوحة لهذه الأزمة الدامية لما يقرب من أحد عشر عاما.

صحيح أنه ليس من السهل على تركيا أن تتخلى عن شمال غرب سوريا بعد ثماني أو تسع سنوات عن وجودها فيها، لكن غير مستبعد أن يكون التركيز والمساومة فقط على شمال شرقي سوريا حيث تتواجد “قسد” والقوات الأميركية، لكن مراقبي الشأن السوري يؤكدون أن التحدي الذي يواجه الضامن الروسي كبير لإجبار أنقرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه هذا الاتفاق إن حصل بالفعل، وكذلك حول عدم جدّية دمشق في مفاوضاتها بشكل عام، لكن رغم ذلك فإن كل هذه التحركات والتغيرات في المواقف تجاه الملف السوري، يتجه بالوضع نحو التعقيد والتأزم أكثر مما هو عليه، بالنظر إلى سياسة الدول التي تتماشى مواقفها مع مصالحها فقط؛ مثل روسيا وتركيا وإيران.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.