احتجاجات عام 2011 وما تسمى بأحداث “الثورة التونسية” تعتبر الشرارة التي انطلق منها الحراك الشعبي المطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية وتحسين الوضع المعيشي والاقتصادي، إلا أن أكثر من ثلاثة عشر عاماً على مرور هذه الأحداث لم يتحقق للتونسيين ما نشدوا به من انفراج اقتصادي وازدهار في معيشة المواطن التونسي.

بل على العكس، تواجه تونس اليوم تحدي مزدوج يتمثل في التضخم والديون المتراكمة على البلاد، وأصبح المواطن التونسي والشركات في تونس يعانون من ارتفاع الأسعار وانخفاض الدخل.

تونس اليوم تشهد أزمة غير مسبوقة في ظل ارتفاع نسبة التضخم، حيث تشير تقديرات البنك المركزي التونسي إلى ارتفاعه من 8.3 بالمئة عام 2022 إلى 11 بالمئة خلال العام الحالي 2023، ولاسيما أن تونس تعتمد بشكل كبير على السلع المستوردة وخاصة الأساسية منها كالطاقة والغذاء، كما يعاني الاقتصاد التونسي من تذبذب في احتياطيات النقد الأجنبي.

أسباب التضخم والديون

كل ذلك يعود إلى عدة أسباب، أولها جائحة فيروس “كورونا” التي خيمت تبعاتها الاقتصادية على العالم بأكمله، وأيضاً اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي رفعت أسعار المشتقات النفطية والغذاء بشكل كبير، كما أن انعدام الاستقرار السياسي في تونس والاضطرابات الاجتماعية حالت دون دخول الاستثمارات الأجنبية إلى تونس.


أدى ارتفاع التضخم وتراكم الديون في تونس إلى تآكل القوة الشرائية للمواطن التونسي وزاد من حالة الإحباط التي يعاني منها لعجز الحكومة الحالية عن معالجة المشاكل الاقتصادية، فقد أصبح من الصعب على المواطنين تحمل تكاليف السلع والخدمات الأساسية، وإذا ما استمر عجز الحكومة التونسية في الحد من مستويات الديون المرتفعة فذلك سينعكس على قدرتها في الاستثمار في القطاعات الرئيسة المختلفة وتطوير البنية التحتية، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع معدلات الفقر التي تجاوزت 20 بالمئة، ولن يستطيع أولئك الذين هم في أمس الحاجة إلى الخدمات الأساسية بالوصول إليها.

الجدير بالذكر أنه خلال العام الماضي تقدمت تونس بطلب إلى “البنك الدولي” لمنحها حزمة إنقاذ تقدر بـ 2 مليار دولار، بشرط تقليص الحكومة التونسية لكتلة الأجور التي تقوم بصرفها ورفع الدعم عن المواد الأساسية والمشتقات النفطية، لكن الوضع المخيم على المشهد السياسي في تونس وعدم دفع الحكومة بإجراءات التقشف المطلوبة من الصندوق حال دون الوصول لاتفاق مع صندوق “البنك الدولي”، ليعلن الأخير إيقاف منحه تلك الحزمة.

بنظرة واقعية لحال الاقتصاد التونسي فإنه لو تم منح تونس تلك الحزمة بالفعل من قبل الصندوق، ستبقى الحزمة غير كافية، ولن تكون حلاً لإنعاش اقتصاد البلاد.

خاصة أن العجز التجاري وعجز الموازنة التونسية قد تخطوا حاجز 17 مليار دولار عام 2022، وإن انعدام الوصول إلى التمويل الدولي سيزيد من صعوبة تمويل الدين المحلي، وخاصة أن خدمة أصل الدين العام التونسي يصل إلى 5 مليار دولار عام 2023، مما يستوجب على الحكومة اللجوء إلى حلول تتعلق بتعبئة موارد تمويل بديلة لتغطية سداد الديون وفوائدها.

في هذا السياق يرى الخبير الاقتصادي الدكتور يحيى السيد عمر، خلال حديثه لـ”الحل نت”، أن حصول تونس على التمويل أمر بالغ الصعوبة في ظل الظروف الراهنة، فتصنيف تونس الائتماني تم تخفيضه إلى “سي أي أي 2″، وهو ما يعني مخاطر مالية مرتفعة، ما يدفع المستثمرين للابتعاد عن تونس.

 كما أن المؤسسات المالية الدولية كـ “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” لن تكون متشجعة لتقديم التمويل، وفي حال الحصول على تمويل أجنبي سيكون مرتفع التكلفة، ولن تتمكن الحكومة من خدمة الدين العام، خاصة مع ارتفاع الدين العام إلى أرقام قياسية، والذي يشكل أكثر من 80 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.

برأي العمر فإنه في حال الاتجاه نحو التمويل الداخلي فهو الآخر غير متاح بسهولة، خاصة أن البلاد تحتاج حالياً 4 مليار دولار لتمويل الموازنة، والتمويل الداخلي متعذر، فالأزمة المالية تركت آثارها على الشركات والأفراد، ففي النصف الأول من عام 2022 بلغت نسبة الشيكات المرتجعة بسبب الرصيد 17 بالمئة، وفرّ أكثر من 10آلاف شخص من تونس نتيجة قضايا الشيكات، وأدرج اسم 450 ألف شخص في التفتيش المالي، منهم مدراء شركات، هذه الأرقام تؤكد أن التمويل الداخلي غير متاح، وفي حال تم اللجوء إليه لن يكون قادر على تلبية الحاجة الحقيقية.

أهمية السياسات المالية والنقدية في مكافحة التضخم


طرق تعزيز النمو الاقتصادي التونسي تتمثل باتباع الحكومة لاستراتيجيات جديدة تتعلق بالسياسة المالية للبلاد، وتأتي إحدى أهم هذه الاستراتيجيات بالاستثمار في القطاعات الرئيسية التي لديها القدرة على رفع النمو الاقتصادي للبلاد وخلق فرص عمل جديدة، مثل الزراعة والسياحة ومشاريع الطاقة المتجددة، والتي حددتها الحكومة التونسية كمجالات ذات إمكانات عالية في خلق وظائف جديدة وتحفيز النشاط الاقتصادي.

أما الاستراتيجية الثانية فتتمثل بتنفيذ إصلاحات ضريبية تشجع على الاستثمار في تونس وتجعله أسهل وأكثر جاذبية من ذي قبل، وذلك من خلال تخفيض الضرائب المفروضة على الشركات الصغيرة والمتوسطة ومنحهم قروض ميسرة بفوائد مخفضة، وتقديم حوافز ضريبية للمستثمرين الأجانب، وتبسيط قانون الضرائب بالمجمل لتسهيل امتثال الشركات الكبيرة على دفع ضرائبهم.

بالإضافة إلى السياسات المالية، يمكن أيضًا استخدام السياسات النقدية لمكافحة التضخم وتعزيز النمو الاقتصادي، فالسياسات النقدية تعتبر خيار هام في استخدام الحكومة لأسعار الفائدة وعرض النقود للتأثير على الاقتصاد، فعندما يكون التضخم مرتفعاً يمكن أن يكون رفع أسعار الفائدة خياراً مجدياً لكبح جماح ارتفاع نسب التضخم، حيث يساعد ذلك في تقليل الطلب على السلع والخدمات والاتجاه نحو خفض الأسعار مرة أخرى، ولكن من ناحية ثانية فإن رفع أسعار الفائدة سيقلل من فرص الاستثمار في البلاد وستتجه الأموال نحو الإيداع في البنوك بدل استثمارها في مشاريع إنتاجية، لذلك يجب أن يكون استخدام سلاح رفع سعر الفائدة ناتج عن دراسات واقعية محاكية لواقع الاقتصاد التونسي وتأثيرها على الإنتاج المحلي.

اللافت هنا أنه خلال العام 2022 قام المصرف المركزي التونسي برفع سعر الفائدة إلى ما نسبته 8 بالمئة، وذلك في محاولة منه كبح جماح التضخم الحاصل في تونس.

وعن الاستراتيجية الأخرى فتتمثل في التحكم في المعروض النقدي ووضع قيود على مقدار الأموال التي يمكن للبنوك إقراضها، والحد من كمية الأموال المتداولة، ومع ذلك، يجب تنفيذ هذه السياسات بعناية، حيث يمكن أن يكون لها أيضًا عواقب غير مقصودة، مثل تقييد الوصول إلى الائتمان للشركات والأفراد.

آفاق النمو الاقتصادي في تونس وإدارة التضخم والديون


تونس تمتلك موقعاً استراتيجياً تجارياً هاماً يصل بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، كما تمتلك تونس ثروة باطنية لا يستهان بها وخاصة من الفوسفات، فقد كانت تونس من أكبر مصدري الفوسفات في العالم قبل تراجعها خلال السنوات الأخيرة بسبب التحديات التي واجهت قطاع التعدين المتعلقة بالصيانة والتطوير ونقص الاستثمار والعراقيل القانونية والإدارية، وتمتلك أيضاً قوة صناعية غير مستغلة كالصناعات الغذائية وصناعة النسيج وصناعة السيارات.

أما التضخم والديون فيحتاجان إلى إدارة دقيقة، ويتطلبان نهجًا يأخذ في الاعتبار الأهداف القصيرة وطويلة الأجل، فعلى المدى القصير يحتاج صانعوا السياسات إلى اتخاذ خطوات لمواجهة التحديات الفورية لخفض التضخم من خلال العمل على خفض تكاليف الطاقة وخفض اعتماد البلاد على الطاقة المستوردة من خلال الاستثمار في الطاقة المتجددة والاستثمار في قطاع التكنولوجيا والعمل على استقرار العملة وتشجيع ريادة الأعمال وتطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة والخروج من عنق التعقيدات الإدارية.

على المدى الطويل من المهم التركيز على النمو الاقتصادي المستدام المعتمد على زيادة الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية للمجتمعات المهمشة الذي يمكن أن يساعد في الحد من الفقر والحفاظ على الطبقة الوسطى في المجتمع التونسي ورفع مستواها المعيشي.

الطبقة الوسطى تعرف بأنها الطبقة الاجتماعية التي تستطيع تلبية كل حاجتها وأكثر قليلا، وتلعب دوراً رئيسياً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإذا ما انقرضت هذه الطبقة فإن الدول ستتعثر بشكل كبير.

من وجهة نظر السيد عمر، فإن السياسات الرسمية التونسية هي المسؤولة عن الوصول إلى هذا الحال، فقد ساهمت بها مختلف الحكومات المتعاقبة منذ سقوط نظام بن علي، وحكومة الرئيس سعيّد يبدو أن أداءها الاقتصادي في حدوده الدنيا، فالحكومة قاصرة عن إيجاد حلول حقيقية وفعالة للوضع الاقتصادي، وهو ما يهدد بتفاقم الأزمة الاقتصادية، وقد تتصاعد وتتحول لأزمة سياسية واجتماعية.

نظراً لتلك التحديات التي يواجها الاقتصاد التونسي يقع على عاتق الحكومة التونسية تنفيذ برنامج إصلاحي حقيقي للاقتصاد التونسي خالٍ من فساد المؤسسات وبعيداً عن المناكفة السياسية، والاعتماد على الإنتاج والتصدير بشكل أساسي، وتبني سياسيات النمو المستدام للخروج من مشكلة العجز في الميزان التجاري وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات