تكشفت خلال السنوات الأخيرة الكثير من التقارير التي تتحدث عن حجم الثروات الهائلة التي تمتلكها الدول العربية والتي لم يتم الإعلان عنها بهذا الحجم إلا نتيجة الأزمات الاقتصادية التي عصفت بتلك الدول ودول العالم، ومن تلك الدول التي ظهرت أهمية ما تمتلكه من موارد طبيعية هي دولة الجزائر.

تعتبر الجزائر أكبر دولة في إفريقيا، بعدد سكان يبلغ 44 مليون نسمة، وتتمتع الجزائر بموقع استراتيجي على مفترق طرق بين أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، وتحتوي على احتياطيات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي حيث برزت الجزائر في السنوات الأخيرة كمورد رئيسي للطاقة إلى أوروبا، مما توفره للقارة كبوابة حيوية لموارد الطاقة في شمال إفريقيا، وذلك بفضل شبكات خطوط الأنابيب الرئيسية والعلاقات الاقتصادية القوية التي تربطها مع دول أوروبا، فخلال السنوات الأخيرة أصبحت الجزائر شريكا مهما ومتميزا للدول الأوروبية التي تسعى إلى تنويع مصادر الطاقة وتقليل اعتمادها على الموردين التقليديين.


الاقتصاد الجزائري وموارد الطاقة

يعتمد الاقتصاد الجزائري بشكل كبير على احتياطيات النفط والغاز، والتي تمثل أكثر من 90 بالمئة من عائدات التصدير و60 بالمئة من إيرادات ميزانيتها، حيث تحتل الجزائر المركز السابع عالميا في تصدير الغاز لعام 2022، حيث حققت الجزائر معدل إنتاج قياسي تجاوز 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وبلغ احتياطي البترول في الجزائر 12 مليار برميل أي 10 بالمئة من احتياطي القارة السمراء من البترول بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية لعام 2022، وبفضل ذلك فإن الاقتصاد الجزائري يشهد وبشكل مطرد نموا منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث توقع “البنك الدولي” أن يحقق الاقتصاد الجزائري نموا بنسبة 2.3 بالمئة في 2023.

واللافت في الأمر أن ارتفاع أسعار الغاز عالميا ساهم في زيادة الواردات للجزائر، حيث بلغت واردات الغاز والنفط 50 مليار دولار في 2022، يأتي ذلك بعدما فرضت الجزائر قوتها بكونها بديل أساسي عن الغاز والنفط الروسي لتراجع بذلك عقودها مع زبائنها الرئيسيين مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، ويوفر لها مدخول إضافي يقدر ب 5 مليار دولار.

أوروبا تعتمد على الجزائر بالطاقة؟

بدأت الجزائر في تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا في أوائل الستينيات حيث اقتصرت صادراتها في البداية على فرنسا، وفي السبعينيات بدأت الجزائر في تنويع قاعدة عملائها وتوسيع صادراتها إلى دول أوروبية أخرى، أما في التسعينيات فقد أبرمت الجزائر عقودا طويلة الأجل لتزويد إيطاليا وإسبانيا بالغاز الطبيعي.

شهدت أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تغيرا ملحوظا في صادرات الجزائر من الغاز إلى أوروبا، وكان هذا بسبب زيادة الطلب على الغاز في أوروبا، فضلا عن انخفاض الإنتاج من بحر الشمال، واضطراب مصادر الإمداد نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، لتبلغ صادرات الجزائر من الغاز إلى أوروبا ذروتها في العام الماضي 2022، حيث تم تصدير أكثر من 60 مليار متر مكعب من الغاز الجزائري لأوروبا، لتصبح الجزائر اليوم أكبر مورد للغاز الطبيعي للقارة العجوز.

الجدير بالذكر أن الجزائر تصدر غازها إلى أوروبا من خلال خطي أنابيب رئيسيين هما خط الأنابيب (TGP) والذي يعبر البحر الأبيض المتوسط ويمتد من الجزائر إلى إيطاليا عبر تونس والبحر الأبيض المتوسط، أما الخط الثاني فهو خط أنابيب الغاز المغاربي الأوروبي (MEG) والذي يمتد من الجزائر إلى إسبانيا عبر المغرب.

بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عمل الاتحاد الأوروبي على تقليل اعتماده على الغاز الروسي، حيث كان يمثل حوالي 40 بالمئة من وارداته من الغاز، مما أعاد إحياء مشروع أنبوب “غالسي” الرابط مباشرة بين الجزائر وجزيرة صقلية الذي تم دفنه عام 2011م لأسباب عدة أهمها دخول شركة “غاز بروم” الروسية المنافسة على السوق الإيطالية آنذاك عبر أنابيب بديلة، وعليه فإن الجزائر تلعب دورا حاسما في تنويع إمدادات الغاز في أوروبا وتقليل اعتمادها على روسيا، ويعمل الاتحاد الأوروبي مع الجزائر لتعزيز أمن الطاقة و زيادة التعاون في مجال الطاقة بين المنطقتين.

تحديات الاقتصاد الجزائري

الحالة الراهنة للعلاقة بين الجزائر وأوروبا هي حالة مصلحة متبادلة، فأوروبا تعتمد على الجزائر في إمدادات الغاز، بينما تعتمد الجزائر على أوروبا في عائدات التصدير، ورغم تزايد حجم التعاون بين أوروبا والجزائر وعلى الرغم من الموارد الطبيعية الهائلة للجزائر إلا أن اقتصادها يواجه العديد من التحديات، أحد التحديات الرئيسية هو الاعتماد المفرط على صادرات المشتقات النفطية وهوما يسمى بالاقتصاد الريعي، أما التحدي الآخر يتمثل في ارتفاع معدل البطالة، حيث يبلغ معدل البطالة في الجزائر حوالي 12 بالمئة، وقد أدى ذلك إلى اضطرابات اجتماعية وعدم استقرار سياسي في البلاد خلال السنوات الأخيرة.

ومن ناحية أخرى فإن الجزائر تواجه احتمال انخفاض الطلب على الغاز في أوروبا نتيجة اهتمام الأخيرة المتزايد في تطوير مصادر الطاقة المتجددة والاعتماد عليها لتلبية حاجاتها من الطاقة، ورفع تدابير كفاءة الطاقة المتعلقة بانخفاض استهلاك الغاز في أوروبا، مما سينتج عنه وجود فائض من الغاز في السوق العالمي وبالتالي انخفاض أسعار الغاز، كما أن المنافسة في سوق الغاز من موردي الغاز الآخرين يلعب دورا في خسارة الجزائر لدورها الهام، حيث برزت الولايات المتحدة كمصدر رئيسي للغاز في السنوات الأخيرة، بفضل نمو صناعة الغاز الصخري، كما كانت تتطلع روسيا ،التي كانت تعتبر أكبر مورد للغاز في أوروبا، إلى زيادة حصتها في السوق الأوروبية إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية حالت دون ذلك.

من وجهة نظر الخبير الاقتصادي الدكتور يحيى السيد عمر، بحسب حديثه لـ”الحل نت” فيما يتعلق بقدرة الجزائر على حفظ مكاسبها في حال انتهاء أزمة الطاقة، قال إن هذا الأمر ممكن، وتفرضه الظروف الدولية، فأزمة الطاقة الحالية عززت من النزعة الإقليمية في الاقتصاد وفي سلاسل التوريد على حساب النزعة العالمية، وهذا التوجه يصب في مصلحة الجزائر، خاصة كونها قريبة جغرافيا من سوق طاقة عالمي رئيسي وهو أوروبا.

وأضاف السيد عمر بأن الجزائر تعد بديلا مهما، وعلى الرغم من عدم تمكن الجزائر من تغطية الحاجة الأوروبية، لكنها تعد خطوة على طريق الاستغناء الأوروبي عن الغاز الروسي، ويظهر هذا الأمر من خلال العلاقات الاقتصادية المتنامية بين الجزائر وإيطاليا.

تنويع الاقتصاد الجزائري وفرص الاستثمار

يشتهر جنوب الجزائر بالعديد من الواحات الصالحة للزراعة، والتي إذا تم توجيه استثمارات الدولة إلى هذه المناطق، يمكن تحويلها إلى ثروة زراعية وحيوانية مماثلة للثروة النفطية، لكن منذ استقلال الجزائر لم تنجح الحكومات في تشكيل قوة زراعية تكتفي بها الجزائر ذاتيا وتجعلها مستقلة عن الواردات الأجنبية.

الجدير بالذكر أنه في الآونة الأخيرة أدركت الجزائر الحاجة إلى تنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على صادرات النفط والغاز، ففي السنوات الأخيرة أطلقت الحكومة عدة مبادرات لتعزيز التنويع الاقتصادي، لتشمل هذه المبادرات تطوير القطاع غير النفطي وتشجيع الاستثمار الأجنبي وتحسين البنية التحتية، كما أعلنت الحكومة عن خطط لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

وعلى اختلاف النهج الذي تتبعه دول المغرب العربي من ناحية الاستثمار، تقدم الجزائر العديد من الفرص للمستثمرين الأجانب لجذب الاستثمار الأجنبي وفي مقدمتها الحوافز الضريبية وضمانات الاستثمار، فالجزائر لديها سوق محلي كبير مع طبقة وسطى متنامية.

وبخصوص تحول الاقتصاد الجزائري من اقتصاد ريعي إلى إنتاجي أشار السيد عمر أن ذلك يعتمد على القيمة المضافة، وأنّ هذا الأمر مرهون بعدة عوامل، منها تكامل الدورة الاقتصادية، وتكامل السياسيات والاستراتيجيات الحكومية، لكن هذا الأمر يحتاج لعدة سنوات كي يتحقق، فالتحول من الاقتصاد الريعي إلى الإنتاجي يعد من الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد.

الآفاق المستقبلية لصادرات الطاقة

تعتمد الآفاق المستقبلية للاقتصاد الجزائري على صادرات الطاقة والطلب العالمي وخاصة الأوروبي على النفط والغاز؛ فإذا انخفضت أسعار النفط والغاز، أو زادت المنافسة من موردي الغاز سيواجه الاقتصاد الجزائري تحديات كبيرة، وعليه فإن نجاح جهود التنويع الاقتصادي وتقليل اعتماد البلاد على صادرات النفط والغاز، وتطوير مصادر الطاقة المتجددة، والعمل على مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية، يجب أن تكون في أولويات الحكومة في الجزائر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات