يلعب الزمن دورا كبيرا في تحديد الحالة السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية التي يعيشها العمل الدرامي من زوايا متعددة. فالزمن كمسافة هو الحاضر المتغير المتسارع، والزمن ككل هو اللولب المفتوح من طرفيه. 

هو الاتساع الهائل للماضي والمستقبل، وبتوسيع الحاضر وتمديده إلى مالا نهاية فإنه سيغدو الكل نفسه، وبتقليص الكل إلى مالا نهاية فإنه سيتحول إلى المسافة، والزمن هو من يحدد نمو الشخصية الدرامية وتطورها نحو بناء عالمها الدرامي الخاص بها مترابطاً مع أجواء العمل الدرامي بشكل عام.

إن الزمن داخل دراما يبتعد قدر الإمكان عن المعاصر، فارتد إلى التاريخ المعاصر أحيانا أو إلى زمن افتراضي مشوش، وأطلق عليه سابقا مصطلح” الفانتازيا” على بعض الأعمال، والعديد من المخرجين يصرون على أنهم يعالجون مآزق الحاضر عبر النصوص التاريخية، وبذلك هم لا يستخدمون الماضي لذاته، وإنما عملية إعادة توظيف الماضي لأغراض معاصرة متعددة.

شكل الزمن الافتراضي في الدراما 

يأتي الزمن الافتراضي في الدراما من قدرة الكاتب والمخرج في إتقان “لعبة الافتراض” عبر التداعي داخل ذاكرة المشاهد حول مرحلة تاريخية معينة يخرج فيها العمل الدرامي من دائرة الافتراض، ويقدم زمن مشوش غائم، فيلغي الخيال المجسد بصريا ليصبح تشويها للحقب والتعاقب التاريخي وأحداثه، فالصعوبات الافتراضية تتجلى أولا في اللغة التي تعطينا ثقافة معينة واستخدمت في كافة أعمال هذا النموذج الفصحى كي لا يوحي باللهجات بزمن وجغرافيا محددين.

 والثاني هو الأدوات المستخدمة مثل البنادق أو الأحصنة أو أسلوب وضع المكياج والزينة، وآلية استخدام الأزياء والملابس، فهي تحيل إلى زمن ومكان محددين، فيلجأ المخرج بمساعدة مهندس الديكور لاستخدام سينوغرافيا غربية عن الوقائع والواقع لتبقى لعبة الافتراض مستمرة، وهذا ما يعطي النموذج مساحة تعبير بصرية يمكنها الخروج من كافة التقاليد الكلاسيكية في بناء مساحات وديكورات غريبة عن الواقع ولا تنتمي إلى زمن محدد، بالإضافة إلى البعد عن التقاليد الإخراجية، وكسر القواعد التي تحوي عناصر من الثقافة الشفوية لتنطلق باتجاه تكوين مرئي بصري متطور.

إن أحد أهم أسباب لعبة الافتراض في ما سمي “فانتازيا تاريخية” في عدم تحديد الزمن أو الجغرافيا هو الهروب من أنظمة الرقابة الموجودة لدى المحطات الفضائية العربية، فعدم تعيين الزمن أو الجغرافيا يفتح هوامش كثيرة داخل الرقابة، فعند معالجة أي ثيمة ضمن حدث افتراضي وفي حدود جغرافيا مبهمة غير واضحة، وفي زمن غير محدد وغائم وغير فعال يسمح بعرضها رقابيا، واهتمام المشاهد بهذه الأعمال الدرامية متباين، ما يجعل افتراض الزمن والحدث شأنا فعالا في جذب المشاهد إلى عوالم لا يشعر تجاهها بالانتماء إلا في استخدام اللغة والمشهدية.

إن الدراما تمتلك حرية الدخول إلى أي زمن تشاء لتعالج ما تريده، فالمشكلة ليست في اختيار الزمن بالنسبة لها، بل في طبيعة طرحها له عبر بعض الأعمال، وفي الأسباب التي أدت إلى تشويش الزمن في بعض المسلسلات التي سميت اصطلاحا “فانتازيا”، وعند محاولة فرزه تاريخياً نجد تصنيفات متعددة لها سويات زمنية مختلفة. 

صنّف العديد من النقاد عدد من الأعمال الدرامية من هذا النموذج منذ أواسط الثمانينات عبر عملين هما “غضب الصحراء” للمخرج القدير هيثم حقي، و “البركان” للمخرج محمد عزيزية، والأجواء العامة للعملين تعطي مرحلة ما قبل الإسلام، وذلك من الشكل الاجتماعي لتصميم الأزياء، والديكور، وتتحرك الأحداث دون تناقض مع الزمن العام رغم أنها “افتراضية” من خيال المؤلف، لكنها منسجمة مع الطبيعة العامة للمرحلة التاريخية التي تناولها كاتب النصين هاني السعدي.

تعمّق هذا الحضور لأعمال الفانتازيا التاريخية بالشركة التي صنعت سلسلة من الأعمال كتبها هاني السعدي وأخرجها نجدة إسماعيل أنزور، التي بدأت بـ “الجوارح، الكواسر، والبواسل”، وهي من إنتاج “مركز دبي للأعمال الفنية”.

 وتابع الثنائي الشراكة بالأعمال “الموت القادم من الشرق، آخر الفرسان، والمسلوب”. 

ولم تقف الأعمال الدرامية الفنتازية عند هذه الشراكة، وإنما جذب إليها العديد من الكتاب منهم غسان نزال الذي كتب العمل الدرامي “العوسج” مأخوذ عن رواية تركية، ومن إنتاج “هيا للإنتاج الفني”.

 وجميل عواد الذي كتب العمل الفانتازي “المحروس”، وإلى جانب هؤلاء الكتاب كتب المسرحي والسياسي السوري الراحل غسان جباعي، عملين للمخرج أنزور هما “رمح النار، وتل الرماد”، وكاتب تجربة “تل الرماد” الأكثر غنى في الكتابة الدرامية المباشرة، كما ذكر ذلك الكاتبين مازن بلال، ونجيب نصير في كتاب الدراما التلفزيونية السورية “قراءة في أدوات المشافهة”، بوجود الراحل جباعي إلى جانب المخرج في موقع التصوير، وحدد زمن “تل الرماد” بفترة الحكم العثماني حيث استعملت الأسلحة التي تؤكد تلك الفترة الزمنية.

جاء تركيب الأحداث على الزمن متأثرا ببعض الأشكال التاريخية مثل ثورة العامة في دمشق أو جبل العرب، لكن العمل الدرامي حمل مفاهيم مطلقة للزمن الذي تصوره، فالانتفاضات التي شهدتها المنطقة في المرحلة العثمانية كانت تنطلق دائماً من السلطة نفسها، وعلاقة الحاكم مع التركيب العائلي والأعيان والسلطات المعرفية كرجال الدين والقضاة، ويتحزب الناس وفق هذه العلاقة وتتعاطف التشكيلات الاجتماعية كأرباب الحرف والميليشيات المحلية مع الأطراف تبعا لمصالحها، لكن ما حصل في “تل الرماد” يشبه في تشكيله العام زمن الرواية الشعبية في تصويرها لصراع الخير والشر، فهناك طرفان واضحان الأول ظالم والثاني مظلوم وتم شبكهما عبر شخصية واحدة تتسلل من طرف لآخر، وهدفها الانتقام من الآغا الذي قتل أخوتها. 

الزمن في دراما 2023 

قدمت العديد من الأعمال الدرامية في موسم 2023، زمنا افتراضيا منها “العربجي” من تأليف عثمان جحا ومؤيد النابلسي، وإخراج سيف الدين سبيعي، حيث لا يوجد في متن النص البصري شيء يدل على الزمن، فكل ما قدم يؤكد على الزمن الافتراضي سوى أنشودة قصيدة الحلاج المنشورة في القرن الرابع الهجري، والذي مطلعها “خذني إليك فكل شيء موحش”، وهذه القصيدة يقدمها الدراويش في الحضرة الدينية، وعندما يعلق عبدو الوحش في ساحة العربجية على حبل المشنقة، ويؤجل الدراويش شنق عبدو عدة دقائق لحين وصول (حسن، فارس ياغي) بقرار العفو من الوالي، ويقدمه إلى رئيس الكركون. 

كذلك ينتمي النص البصري لعاصي الزند (ذئب العاصي) من تأليف عمر أبو سعدة وإخراج سامر برقاوي، إلى ذات المدرسة الافتراضية زمنيا، إلا أن هناك إشارتين زمنيتين الأولى في بداية العمل حيث تبدأ الحلقة الأولى في القرن التاسع عشر صدر الباب العالي في السلطنة العثمانية مجموعة من القوانين لتنظيم ملكية الأراضي بشكل رسمي والذي عرف باسم “الطابو”، ويظهر تاريخ تسجيل الأرض في مدينة حمص بالعام 1879.

 والثانية، زيارة الإمبراطور الألماني (غليوم الثاني) فيلهلم الثاني إلى بيروت ودمشق حيث وصل إليها يوم 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1898، زار فيها المسجد الأموي، وضريح النبي يحيى، والسلطان صلاح الدين وقصر العظم في البزورية. هذه الزيارة التي بني عليها مطلب اغتيال الإمبراطور من قبل عاصي مقابل فك اختطاف أبناء أخته.

 بينما نجد العمل الدرامي “زقاق الجن” من تأليف محمد العاص وإخراج تامر إسحاق، ينتمي إلى الزمن الافتراضي بكليته بدون أية إشارات، وإنما سرد حكائي، وأحداث درامية. هذا السرد يحمل العديد من المؤشرات على المرحلة العثمانية وأبرزها وجود “الكركون”، والتعذيب الذي يلاقيه رئيس الكركون (أبو عفيف، باسل حيدر)، بسبب اتهامه بالتآمر لاغتيال الوالي، وتهريبه فيما بعد.

لكن ما سبق لا يعد مؤشرا زمنيا محددا لأن (الأتراك، العثمانيون)، امضوا في سوريا والبلاد العربية ما يقارب أربعة قرون، لذلك هذا التحديد لا يفيد من الزاوية الزمنية بشيء سوى أنه في المرحلة التي كان الأتراك يحكمون فيها سوريا، وهو ما يجعل الزمن هنا افتراضيا، كما في الفانتازيا التاريخية، لدينا في دراما البيئة الشامية.

كذلك عُرض أيضا مسلسل فانتازيا تاريخية” فرسان الظلام، ذئاب الليل الجزء الأول”، من تأليف هاني السعدي، وإخراج سامي جنادي، حيث معظم الأحداث تقع في مدينة الريحان، والزمن افتراضي وغير محدد. 

 أما العمل الدرامي “ليلة السقوط” من تأليف مجدي صابر وإخراج ناجي طعمة، زمنه محدد حين احتل تنظيم “داعش” الرقة والموصل وغيرها من المدن العراقية، فالتحديد الزمني 2014، كما هو معروف حيث فرضت قوانينها وأدواتها وأساليبها في السيطرة والحكم حيث أطلق عليها دولة الخلافة الإسلامية، وهذا يمكن اعتباره زمن حديث ومعاصر.

 كذلك أيضا في العمل الدرامي “الكرزون” من تأليف مروان قاووق ورنيم عودة، وإخراج رشاد كوكش، نجد الزمن معاصرا وحديث وقريب جدا، فعملية تفجير مرفأ بيروت حدثت في الثلاثاء( 4/8/2020)، وعلى هذا الانفجار يتم البناء الدرامي في اختفاء (عدنان بيك، أسامة الروماني)، وينضم إليه (سامح، أندريه سكاف).

 وأيضا العمل “صبايا” من تأليف محمود إدريس، وإخراج فادي وفائي، فهو معاصر جدا وحديث، وكأن أحداثه في العام 2022 وحتى 2023، أما “مقابلة مع السيد آدم، الجزء الثاني” من تأليف وإخراج فادي سليم، فهو معاصر وحديث ولا يقدم معطى زمني مباشر. 

وفي العمل الدرامي “النار بالنار” من تأليف رامي كوسا وإخراج محمد عبد العزيز، نجده معاصرا وحديث وقع في سنوات المقتلة السورية حيث شخصية (مريم، كاريس بشار) خرجت من دمشق حديثا لكي تجري مقابلة مع سفارة أجنبية في بيروت.

أخيرا فإن الأعمال الدرامية الضخمة إنتاجيا في هذا الموسم ظهرت في زمن افتراضي، بينما الأعمال الدرامية المعاصرة والحديثة تكلفتها الإنتاجية عادية، فالزمن الافتراضي المبهم والغائم أعطاها فرصة كبيرة لتحقيق المشاهدة والمتابعة المطلوبة لكي تتصدر المشهد في الموسم الدرامي الرمضاني.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة