الأمور المالية تمثل نافذة إلى حالة الاقتصاد وقوته، وهي تسلط الضوء على صحة النظام المالي وتوجيهات الحكومة، إلا أن يصدر تقرير غير متوازن ومتناقض فجأة يقلب الطاولة ويثير اندهاش الجميع، وهو بالضبط ما حدث مؤخرا مع تقرير يزعم أن سجل سوريا المالي خالٍ تماما من الديون.

في وقت تعاني فيه سوريا من أزمة اقتصادية حادة، حيث تعاني البلاد من ارتفاع معدل التضخم، وانخفاض قيمة الليرة السورية، ونقصٍ في السلع الأساسية، نشر عدد من المواقع الإلكترونية خلال الأيام الماضية ما أسمته ورقة عمل قدمها بنك “سوريا المركزي” تقول إن سوريا من الدول التي يخلو سجلها المالي بصورة شبه كاملة من الديون الداخلية أو الخارجية بعد أن شطبت روسيا ما تبقى لها من ديون متبقية من عهد “الاتحاد السوفيتي”، ولا تزال تحافظ على دين خارجي يُعتبر مضبوطا ومحدودا رغم ما تعرّضت له من تخريب وتدمير خلال فترة الحرب.

ملخص تم إعداده بتصرف

لطالما عانت العديد من الاقتصادات من تداعيات الأزمات المالية العالمية، ولاسيما الأزمة الاقتصادية التي انطلقت في عام 2008، والتي ترتبط بارتفاع نسب الديون العامة في العديد من الدول. إضافة إلى ذلك، جاء وباء “كورونا” ليضرب الاقتصادات بقوة في عام 2020، لكن هل يمكن أن تكون أرقام هذا التقرير حقيقية، وهل فعلا يمكن أن يكون سجل سوريا المالي خاليا من الديون، وهل تمكنت سوريا من تفادي الأزمات المالية التي أثّرت على الدول الأخرى.

في تفنيد لهذا التقرير، أشار الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة “دمشق”، عابد فضلية، إلى أن النص الذي ورد وتناقلته وسائل الإعلام هو عبارة عن ملخص “تم إعداده بتصرف” لورقة عمل سبق، وأن قام “المركزي” السوري بإعدادها، لذلك لا يمكن إجراء تقييم دقيق لما ورد حرفيا فيها.

في حديثه لموقع “غلوبال نيوز” المحلي، أمس الأحد، لفت فضيلة إلى أن مؤشر تطور نسبة الديون عالميا إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي هو مؤشر ضعيف ومضلل؛ لأنه عبارة عن متوسط ديون كافة دول العالم، وهذا المتوسط يعني أن هناك دولا نسبة ديونها صفر أو 2 أو 10 بالمئة من ناتجها المحلي، ودول نسبة ديونها 60 بالمئة، ودول نسبة ديونها 150 بالمئة، ودول أخرى 300 بالمئة، وبالتالي فالنسبة المتوسطة للديون العالمية غير معبرة عن نسبة ديون الدول منفردة.

أيضا بيّن الاقتصادي السوري، أن الحديث عن خلوّ سجل سوريا المالي بصورة شبه كاملة، هو أيضا قول غامض لأنه يذكر السجل المالي، متسائلاً ما هو المقصود بالضبط بهذا المصطلح، فهل هذا يعني أن هناك سجلات أخرى علنية، أو سرية، أو مدنية، وحتى عسكرية.

ما هي ديون سوريا الداخلية؟

الحديث عن عدم وجود داخلية للدولة حديث يتنافى مع التصريحات الرسمية التي صدرت عن إقرار الموازنة العامة لعام 2023، فعجز الموازنة العامة، كان عام 2011 نحو 195 مليار ليرة سورية عندما كان الدولار يساوي 50 ليرة، ثم قفز عام 2012 إلى 577 مليار ليرة، وهكذا بزيادة مستمرة حتى وصل العجز بموازنة عام 2022 إلى أربعة آلاف و118 مليار ليرة سورية، لكنه لم يسد بسبب عدم وجود أموال بـ “البنك المركزي”.

نفي وجود دين سوري داخلي غير صحيح على الإطلاق، وأن يتم ذكر هذا النفي في وثائق رسمية وعلى صفحات إعلامية حكومية و رسمية، في وقت تعاني فيه سوريا من عجز في الموازنات العامة للدولة خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة، كما الأمر في الكثير من دول العالم يعد أمرا غير غير مهني.

معظم الموازنات السابقة تمت تغطية عجزها بالدين الداخلي وبيع سندات الخزينة العامة الذي تم مرتين خلال العامين الماضيين، وبيع مثل هذه السندات هو عبارة عن استدانة حكومية أي دين داخلي بمئات المليارات، عدا عن شهادات الإيداع التي أصدرها وباعها “المركزي” السوري على دفعتين في العامين الماضيين بمئات المليارات.

“المركزي” السوري أيضا بدوره قام بمنحها لوزارة المالية كدين داخلي لتغطية عجز الموازنة، بدليل ما ورد في النص حرفيا، وفي الوقت الذي تعاني فيه الخزينة العامة للدولة من انخفاض شديد في وارداتها.

هل سوريا فعلا خالية من الديون الخارجية؟

حول الفقرة المتعلقة بالقول إن سوريا لا تزال تحافظ على دين خارجي يعتبر مضبوطا ومحدودا، كشف فضلية عن أن هذا يناقض ما ورد في الأسطر السابقة بأن السجل المالي لسوريا يخلو من الديون الخارجية والداخلية، فالصحيح أن النص نفسه يقول إن هناك دينا خارجيا.

طبقا لما أعلنت عنه مجموعة “البنك الدولي” في تقرير سنوي نهاية عام 2022، عن الديون الخارجية المترتبة على سوريا وبلدان أخرى كمصر وإيران وتركيا. بلغ الدين الخارجي لسوريا 5 مليارات دولار في نهاية 2021 ارتفاعا من 4.8 مليار دولار في 2020.

في أيار/مايو الفائت، كشفت وثيقة مسربة من وزارة الخارجية الإيرانية أن حجم الديون التي تستحقها طهران من دمشق قد بلغ 50 مليار دولار، وأن ما تم إنفاقه خلال 8 سنوات من 2011 قد بلغ 11 مليار دولار ما بين دعم عسكري وفواتير النفط.

الحكومة السورية تعترف بفتح خطّين ائتمانيين مع إيران عام 2013 بقيمة 4 مليارات دولار، ثم عام 2015 بقرض قيمته مليار دولار “خطا ائتمانيا لتوريد السلع الغذائية والمشتقات النفطية”.

فيما يؤكد مراقبون أن ديون روسيا تفوق الديون الإيرانية، وجاءت عبر تصدير سلاح وذخائر وتحديث طائرات حربية وشحنات نفط وقمح، ورجّحوا قيمة الديون الخارجية على سورية بنحو 17 مليار دولار.

يبدو أن بنك “سوريا” المركزي أغفل في ورقته أن معدل التضخم ارتفع بنسبة 3825 بالمئة، وأن سوريا عاشت خلال العقد الماضي تحديات اقتصادية وسياسية كبيرة، التي أثّرت بشكل كبير على الاقتصاد الوطني والهيكل المالي للدولة، حيث اقترضت سوريا بشكل أو بآخر من حلفائها، وهذا ما يطرح السؤال حول نيّة أرفع مؤسسة مالية في سوريا من هذا التقرير.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات