لبنان البلد الصغير الذي يعاني من أزمات متلاحقة على كافة المستويات، يواجه اليوم خلافا جديدا يتعلق بمستقبل نظامه السياسي والإداري. ففي ظل تعثّر تشكيل حكومة جديدة، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، طرح أحد أبرز الزعماء المسيحيين في البلاد، رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، مقايضة رئاسة الجمهورية بقانوني اللامركزية المالية والصندوق الائتماني المرتبط بعائدات النفط والغاز.

هذا الطرح، الذي لم يُعلن عنه رسميا بعد، أثار ردود فعل متباينة بين القوى السياسية في لبنان، خاصة بين حلفاء “الوطني الحر” من جهة، وأضداده من جهة أخرى.

هذا الخلاف حول مشروع “اللامركزية” ليس خلافا جديدا في تاريخ لبنان، بل هو خلاف قديم يعود إلى عقود من الزمن. فهذا المشروع كان مطروحا في مؤتمرات واتفاقات سابقة، مثل مؤتمر “جنيف” عام 1958، واتفاق “الصفير” عام 1976، واتفاق “الطائف” عام 1989. 

وفي كل مرة، كان هناك اختلاف بين المؤيدين والمعارضين لهذا المشروع، بحسب مصالحهم وأجنداتهم. ولكن في ظل الأزمة الراهنة التي يعيشها لبنان، هل يمكن أن يكون هذا المشروع حلاً أو مشكلة، وكيف سيؤثر هذا المشروع على مستقبل لبنان كدولة وشعب، وهل يمكن تحقيق توازن بين اللامركزية المالية واللامركزية الإدارية في السياق اللبناني.

استغلال سياسي أم حل فعلي؟

في ظل التوترات والتحديات التي تشهدها لبنان على مدى سنوات، يأتي موضوع اللامركزية كنقطة تلاقٍ بين مختلف القوى والتيارات السياسية. ويظهر هذا التصاعد في الجدل من خلال الآراء والمواقف حول قضية اللامركزية المالية والصندوق الائتماني المرتبط بعائدات النفط والغاز. حيث يجسد النائب جبران باسيل هذه التوجهات من خلال اقتراح مقايضة رئاسة الجمهورية بتبني قانوني اللامركزية المالية والصندوق الائتماني، الأمر الذي أثار اهتمام الشارع اللبناني وأصبح مادة للنقاش والتحليل.

أهمية هذا الموضوع يتجلى من خلال تأثيره المحتمل على الساحة السياسية والاقتصادية في لبنان. فقضية اللامركزية تتداخل مع المصالح القومية والطوائفية، مما يشكل تحدّيا حقيقيا للحكومة والقوى السياسية. إذ يمكن أن تؤدي هذه الخطوة إما إلى تعزيز التوافق وتعاون الأطراف المختلفة، أو إلى تصاعد التوترات والاحتكام إلى سُبل أكثر تصعيدا.

على وجه الخصوص، يلعب “حزب الله” دورا بارزا في هذا السياق. ففي حين أنه لم يعلن موقفه الرسمي بعد، إلا أن توجهاته قد تكون مؤثرة في تشكيل مسار المناقشات واتخاذ القرارات. وتتجلى الجِدّية والأهمية في هذا الموضوع من خلال الاهتمام الواسع النطاق من قبل القوى المسيحية والإسلامية، حيث يُرى في هذه المسألة انعكاسا مباشرا على مستقبل لبنان وتوجهه السياسي.

من جهة، ترى معظم القوى المسيحية في هذا الطرح فرصة لإصلاح نظام إدارة المالية العامة في لبنان، وتوزيعا عادلا للثروات بين المناطق والطوائف، ولتخفيف حدة التوترات والصراعات بين المكونات السكانية في البلاد. كما يرى هؤلاء أن هذا الطرح يتوافق مع رغبتهم في تغيير نظام التوافق على رئاسة الجمهورية، وفتح المجال لانتخاب رئيس من قبل شعبه دون تدخل خارجي أو داخلي. ومن هذه القوى التي تؤيد طرح باسيل؛ “القوات اللبنانية”، “الكتائب”، “المردة”، “الطاشناق”، و”الديمقراطي”.

أما من جهة أخرى، فإن معظم القوى الإسلامية في لبنان تعارض هذا الطرح، وتعتبره بوابة للفيدرالية أو التقسيم. فهؤلاء يرون أن هذا الطرح يخالف اتفاق “الطائف”، الذي نصّ على اعتماد “اللامركزية الإدارية الموسعة” على مستوى “الوحدات الإدارية الصغرى” القضاء وما دون، وليس على مستوى المحافظات أو الأقاليم. 

كما يرون أن هذا الطرح يهدف إلى تقويض دور الدولة المركزية، وإلى تمكين القوى المسيحية من السيطرة على مصادر الثروة والنفوذ في مناطقهم، وإلى تهميش القوى الإسلامية من المشاركة في صنع القرار والتخطيط الوطني. ومن هذه القوى التي ترفض طرح باسيل؛ “حزب الله”، “التقدمي الاشتراكي”، “الحركة الإسلامية”، “الجماعة الإسلامية”، و”الأحباش” القوة الناعمة لإيران.

“حزب الله” يخطط 

النائب قاسم هاشم، في حديثه لصحيفة “الشرق الأوسط”، ذكر أن “هناك لجنة فرعية بحثت بأكثر من 50 جلسة اللامركزية الإدارية، كما أن لجنة الداخلية والدفاع ناقشت تعديل قانون البلديات الذي يتطرق لتوسيع صلاحيات هذه البلديات وإعطائها صلاحيات أوسع. أما اللامركزية المالية فلا تحقق الإنماء المتوازن، لأن هناك خللاً بالمداخيل المالية بين المناطق، ما سيعني عدم عدالة في التعامل مع المناطق النائية”.

بين من يراها استخدام من جهة سياسية لكسب شعبية مسيحية من جهة، واستعمالها ورقة تفاوض مع الجهة السياسية  التي تستفيد من الدولة المركزية لتحصيل مكاسب منها، وإمكانية تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة من عدمه، يبدو أن “حزب الله” منفتحٌ على الفكرة وهو يناقش التفاصيل حاليا من خلال مشروع زياد بارود.

الصحفية في الشأن السياسي اللبناني، أية عويس، أوضحت في حديثها لـ”الحل نت”، أن الموقف الرسمي لـ “حزب الله” بخصوص مقايضة رئاسة الجمهورية باللامركزية المالية والصندوق الائتماني هو موقف متحفظ ومنتظر. فالحزب لم يعلن بعد موافقته أو رفضه على هذا الطرح، ولكنه يدرس خياراته ويتشاور مع حلفائه في الحكومة و”البرلمان”. ويبدو أن الحزب يرى في هذا الطرح فرصة لتعزيز دوره في الساحة السياسية والمالية، ولكنه يخشى أيضا من تأثيره على استقرار مصالحه وتأثير العقوبات على مصادره المالية.

وفقا للصحفية اللبنانية، فإن توجه لبنان تجاه فكرة اللامركزية المالية الموسعة بسبب عدة عوامل، أبرزها الأزمة المالية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد منذ عام 2019، والتي أدت إلى انهيار قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم والفقر والبطالة. وهذه الأزمة كشفت عن فشل الدولة المركزية في إدارة المال العام وإصلاح القطاعات المنهارة مثل الكهرباء والاتصالات والنفايات.

أيضا التظاهرات الشعبية التي اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر 2019، والتي طالبت بإسقاط الطبقة السياسية المسؤولة عن الفساد والهدر والمحاصصة. وهذه التظاهرات أظهرت عمق الانقسامات بين المناطق والطوائف في لبنان، وأثارت مطالب بإجراء إصلاحات جذرية في نظام الحكم.

علاوة على ذلك، فإن تأخّر تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة حكومة حسان دياب على خلفية انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020، والذي كان نتيجة سوء التخزين والإهمال. أثار مخاوف من شلل سياسي وانهيار مؤسسات الدولة، ودفع ببعض القوى إلى طرح حلول بديلة لإخراج لبنان من أزمته.

مشروع ناجح.. لكن أين المشكلة؟

اتفاق “الطائف” الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان عام 1989 يتعلق بمفهوم اللامركزية بطريقتين، أولا الاتفاق نصّ على اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى القضاء وما دون، وذلك لضمان المشاركة المحلية في صنع القرار والتخطيط والتنفيذ. ولكن هذا النّص لم يتحقق على أرض الواقع بسبب عدم إصدار قانون ينظم هذه اللامركزية ويحدد صلاحيات وموارد السلطات المحلية.

كذلك الاتفاق أدخل تعديلات على النظام السياسي في لبنان، بهدف توزيع السلطة بشكل أكثر توازنا بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب، وبين مختلف الطوائف الممثلة في المجلس. وهذه التعديلات تهدف إلى تقليل التمركز في صلاحيات رئاسة الجمهورية، وإلى تعزيز دور المجتمع المدني في مراقبة ومحاسبة السلطة.

بحسب عويس، فإنه لا توجد إجابة واحدة ومحددة على فرص نجاح المشروع، فاللامركزية المالية واللامركزية الإدارية هما مفهومان متعلقان بتنظيم الدولة وتوزيع السلطات والموارد بين الحكومة المركزية والوحدات المحلية. وقد تختلف آراء القوى السياسية والفئات الاجتماعية في لبنان حول مدى ضرورة وجودة هذين المفهومين، وكذلك حول شكلهما ومضمونهما وآثارهما على الوضع العام في البلاد.

لذلك، فإن تحقيق توازن بينهما يتطلب حوارا وطنيا شاملا وشفافا يستند إلى مصلحة لبنان وشعبه، ويأخذ بعين الاعتبار التجارب الدولية الموجودة في هذا المجال. فبشكل عام، يمكن أن تساهم اللامركزية المالية في تحسين كفاءة وفعالية الإنفاق العام، وتعزيز المشاركة المحلية في صنع القرارات، وتخفيف الضغط على الموازنة المركزية، وتحقيق التنمية المستدامة في جميع المناطق.

لكن هذا يتوقف على عدة عوامل، منها مدى توافر مصادر مالية كافية ومستقرة للوحدات المحلية، سواء من خلال التحويلات من المركز أو من خلال جباية ضرائب ورسوم محلية. ومدى قدرة الوحدات المحلية على إدارة مواردها بشكل مسؤول وشفّاف وديمقراطي، وتخطيط مشاريع تنموية تستجيب لحاجات سكانها.

علاوة على ذلك، مدى التنسيق والتعاون بين الحكومة المركزية والوحدات المحلية، وبين الوحدات المحلية نفسها، لضمان تجنب التضارب أو التكرار أو التهميش في تخصيص الموارد. واحترام التوازن بين حقوق وصلاحيات الأقليات والأغلبيات في كل منطقة، وضمان عدم حصول أي تمييز أو إقصاء على أساس طائفي أو سياسي أو اجتماعي، وهنا الأشارة توجه لـ”حزب الله” وأتباعه.

الخلافات بين الحلفاء والأضداد

وفقا للصحفية اللبنانية، فإنه لا يمكن التنبؤ بالآثار المحتملة لتبني مشروع اللامركزية المالية على الوضع السياسي والاقتصادي في لبنان بشكل قطعي، فهذا يعتمد على طبيعة هذا المشروع وشروط تطبيقه وردود فعل الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين عليه. 

مع ذلك، يمكن توقّع بعض السيناريوهات المحتملة بناء على التجارب السابقة والواقع الراهن، بداية سيناريو إيجابي يتم تبني مشروع اللامركزية المالية بإجماع وطني وبموافقة الشركاء الدوليين، ويتم تطبيقه بشكل تدريجي ومراقب ومتوازن، مع مراعاة مصالح جميع المكونات السياسية والطائفية والاجتماعية في لبنان. وتؤدي هذه الخطوة إلى تحسين الحوكمة والخدمات العامة والتنمية المحلية، وإلى تخفيف حدة التوترات والانقسامات بين القوى السياسية، وإلى استعادة الثقة بالدولة والمؤسسات، وإلى تحقيق الاستقرار والسلام في لبنان.

في حين السيناريو السلبي، عبر تبني مشروع اللامركزية المالية بشكل أحادي أو مفروض أو مشروط، ويتم تطبيقه بشكل عشوائي أو متحيز أو مخالف، دون مراعاة مصالح جميع المكونات السياسية والطائفية والاجتماعية في لبنان. وتؤدي هذه الخطوة إلى تفاقم الفساد والهدر والفوارق في الإنفاق العام والتنمية المحلية، وإلى زيادة التوترات والصراعات بين القوى السياسية، وإلى فقدان الثقة بالدولة والمؤسسات، وإلى تهديد الاستقرار والسلام في لبنان.

أما السيناريو المحايد، وهو المرجّح في الوقت الحالي بحسب عويس، ويتم تبني المشروع بتوافق نسبي أو مؤقت أو شكلي، ولا يتم تطبيقه بشكل كامل أو فعال أو مستدام، بسبب عدم توافر الموارد أو المؤهلات أو الإرادة لذلك. ولا تؤدي هذه الخطوة إلى تغير جذري في الحوكمة أو الخدمات العامة أو التنمية المحلية، ولا إلى حلّ نهائي للخلافات أو المشاكل بين القوى السياسية، ولا إلى استجابة كافية للتحديات أو التطلعات التي يعاني منها أو يطمح إليها شعب لبنان.

وهنا تشير عويس إلى أنه يمكن أن تؤدي مثل هذه الخلافات بين الحلفاء والأضداد إلى تفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان. فإذا لم يتم التوصل إلى حلول وسطية أو توافقية تراعي مصالح جميع الأطراف، فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل عمل المؤسسات الدستورية، وتأجيل تشكيل حكومة جديدة، وتضييع فرص الإصلاح والإنقاذ، وتصعيد التوترات والاحتجاجات في الشارع، وزيادة الضغط على الوضع المالي والنقدي والاجتماعي في البلاد.  

هذا المشروع قد يكون حلّا أو مشكلة، بحسب طريقة تقديمه وتنفيذه. فإذا كان هذا المشروع يستند إلى دراسات وأبحاث موضوعية وشاملة، ويستجيب لحاجات وتطلعات شعب لبنان، ويحظى بقبول ودعم من جميع القوى السياسية والطائفية والاجتماعية، فقد يكون حلّا لإصلاح نظام إدارة المالية العامة في لبنان، ولتحقيق التنمية المستدامة في جميع المناطق، ولتعزيز الديمقراطية والشراكة في صنع القرار.  

لكن إذا كان هذا المشروع يستند إلى مصالح أو أجندات ضيقة أو مخفية كما يفعل “حزب الله” عادة، ولا يستجيب لحاجات أو تطلعات شعب لبنان، ولا يحظى بقبول أو دعم من جميع القوى السياسية والطائفية والاجتماعية، فقد يكون المشروع مشكلة تزيد من تفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان، وتهدد استقراره ووحدته كدولة وشعب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات