في ختام زيارة استمرت يومين لكبير مستشاري “البيت الأبيض” عاموس هوكشتاين إلى لبنان، يبدو أن واحدا من أكثر الملفات اللبنانية الحساسة والذي شكل نقطة خلاف طويلة الأمد مع إسرائيل، في طريقه إلى الحل، وهو ترسيم الحدود البرية المعروف بالخط “الأزرق” الذي حددته “الأمم المتحدة” عند انسحاب القوات الإسرائيلية عند مغادرتها مناطق جنوب لبنان عام 2000، لكن ذلك على ما يبدو بحاجة إلى ترتيبات سياسية، إلى جانب توافقات دولية إقليمية، وهي ما يعمل هوكشتاين على تسويتها.

انطباعات كبير المستشارين بـ “البيت الأبيض” عند اختتام جولته إلى لبنان وتصريحاته بعثت برسالة توحي باقتراب الحل، حيث أكد خلال مؤتمر صحفي عقده قبيل مغادرته مطار “رفيق الحريري”، إمكانية “العمل الآن” على ملف ترسيم الحدود البرية بعد التمكن من إنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل قبل نحو عشرة أشهر، وهو الاتفاق الذي كان قد ضمن للبنان وإسرائيل حق التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط، بعد أن كانت الخلافات سائدة حول ذلك بين الطرفين.

فرؤية الولايات المتحدة الأميركية التي عبّر عنها هوكشتاين، لا يخفى بأنها تراهن على أن اتفاق ترسيم الحدود البرية بين إسرائيل ولبنان قد يفضي إلى حالة من الاستقرار، انطلاقا من رؤيتها إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية، والذي أشار له مستشار “البيت الأبيض” بأنه الأمر الذي مهّد الطريق لبدء أنشطة التنقيب البحرية عن النفط والغاز لصالح لبنان الأسبوع الماضي، وهكذا قد يمثل التوصل لحل حول ملف الحدود البرية ذا جدوى للطرفين.

موقف هوكشتاين بالتشاور مع أطراف الأزمة بلبنان

حديث المستشار الأميركي جاء بعد زيارته إلى جنوب لبنان، واستماعه إلى الرؤى حول موضوع ترسيم الحدود البرية وما يمكن تحقيقه في هذا الإطار، حسبما أفاد به في مؤتمره الصحفي، لذا أنه في المرحلة القادمة سيعمل للاستماع لرؤية الطرف الإسرائيلي الآخر، ليتم تحديد إذا ما كان الوقت مناسبا لفتح نافذة فيه، وفي حال حصلت موافقة من قبل الطرفين، فإن الولايات المتحدة الأميركية التي تدعم سياسة الأمن والاستقرار ستكون مستعدة للعمل معهما.

مستشار “البيت الأبيض” عاموس هوكشتاين مع رئيس “البرلمان” اللبناني نبيه بري/ إنترنت + وكالات

خلال ذلك، ناقش هوكشتاين، الذي يعرف بـ”عراب اتفاق ترسيم الحدود البحرية” مع المسؤولين اللبنانيين الحاجة إلى تحريك العجلة الاقتصادية، وإتمام الاستحقاقات الدستورية التي تضمن الاستقرار، منها وجوب انتخاب رئيس جديد، وتشكيل حكومة جديدة، لتفعيل عمل المؤسسات، ضمنها “البرلمان” اللبناني، مشيرا إلى تداعيات الشغور في موقع الرئاسة الأولى السلبية على لبنان وشعبه “الذي يدفع ثمن ما يحصل”.

فلبنان يعيش منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، من دون رئيس للجمهورية، حيث تنقسم القوى السياسية فيما بينها حول أحقية المنصب وأهلية المرشح الذي سيشغله، فمن جانب يصر “حزب الله” وحلفائه على أن يكون الرئيس من دائرتهم السياسية، وهو ما يعني مقربا لإيران ومراعيا لسياستها ووكيلها “حزب الله” في البلاد، وذلك مقابل إصرار باقي القوى السياسية على أن يتمتع الرئيس القادم بما يمكنه من التعامل مع المجتمع الدولي و”صندوق النقد” الدولي، الذي يفرض تنفيذ إصلاحات شاملة مقابل تقديم الدعم.

الأمر الذي عطل انتخاب رئيسا للجمهورية حتى الآن، مع استمرار حكومة تصريف أعمال غير قادرة على اتخاذ قرار هامة، ما فاقم من الأزمة الاقتصادية في البلاد التي تعيش منذ 2019 انهيارا اقتصاديا صنّفه “البنك الدولي” من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، وبالتالي فإن قضية حساسة من مثل ملف ترسيم الحدود البرية، قد يتطلب إيجاد حلول لهذه المشكلات العالقة أولا، أو قد يدفع التوصل لاتفاق حوله إلى حلها.

تعليقا على ذلك، يقول خبير العلاقات الدولية، رائد المصري، إن اتفاق ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، يعد جزءا من ملفات عالقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، وإن إثارته في الوقت الحالي تؤشر مدى علاقة هذا الملف بالاتفاق الأخير بين واشنطن وطهران حول تبادل السجناء والإفراج عن الأموال الإيرانية المحجوزة، بمعنى أن الزخم الذي يلقاه موضوع ترسيم الحدود البرية ما هو إلا جزءا من اتفاق آخر.

المصري أوضح، أن قبيل الحديث عن اتفاق ترسيم الحدود البرية، كان هناك ملف ترسيم الحدود البحرية، والذي تم الاتفاق حوله أيضا برعاية هوكشتاين، وقبضت إيران ثمنه بتمرير حكومة عراقية مقربة منها، لذا أن ترسيم الحدود البرية يأتي ضمن مفاوضات إيرانية أميركية على عدد من الملفات التي تهتم بها الإدارة الأميركية، وقد لا تكون لها علاقة بأي تسوية سياسية تتعلق بالداخل اللبناني في الوقت الحالي.

الأزمة اللبنانية في ترتيب الأولويات الدولي

ذلك لأنه، بحسب المصري، أن المجتمع الدولي الفرنسي الأوروبي الأميركي لم يعد يعير أي عملية تسوية سياسية في الداخل اللبناني، مثل انتخاب رئيسيا للجمهورية أو أي اصطلاحات أخرى، أهمية. ففي الوقت الحالي هناك ملفات أكثر أهمية، وهي تأمين إسرائيل والذي يتعلق به ترسيم الحدود البرية وضرورتها لتحقيق تلك الغاية، ومن هذا الباب تأتي زيارة هوكشتاين إلى لبنان.

مستشار “البيت الأبيض” عاموس هوكشتاين مع رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي/ إنترنت + وكالات

أما الملف الثاني، الذي يشغل حيزا في دائرة الاهتمامات والذي يندرج ضمن أولويات جولة هوكشتاين، وفق خبير العلاقات الدولية اللبناني، هو عملية تركيب منصات النفط والغاز في البحر المتوسط ضمن “البلوك رقم 9” التابع إلى لبنان، وهذا من شأنه أن يؤجل أي تسوية داخلية في لبنان على مستوى العملية السياسية المعطلة في البلاد، مبينا أن المجتمع الدولي الأوروبي والأميركي لا يريد التدخل حاليا في مثل هذه الملفات، طالما هناك نجاح على مستوى ملفات الطاقة والأمن مع إسرائيل الذي يتعلق بترتيب مسألة الحدود البرية.

بيد أن هذا التأجيل للملفات الداخلية مثل قضية انتخاب رئيسا للجمهورية، قد يؤدي إلى تفاقم الوضع الداخلي في لبنان، بما يؤثر على المستوى الأمني للبلاد، خصوصا مع تداعي المؤسسة العسكرية والأمنية، بسبب عدم توفر المرتبات ولا حتى الوقود لتحرك القطاعات، لاسيما مع عدم احترام أي من الأطراف اللبنانية للمبادرات المطروحة على هذا المستوى، لذلك أن هذه الملفات الداخلية ستبقى متعلقة بتسويات إقليمية، مع أن هذه التسويات لن تمثل حل نهائي لمعاناة الشعب اللبناني، لارتباطها بمصالح ونفوذ، حسب المصري.

بناء على ذلك، بين خبير العلاقات الدولية اللبناني، أن زيارة هوكشتاين تقوم على أساسين؛ وهما ملفات الطاقة والتأمين عليها من حيث الاستخراج وجهة التصدير، وملف الأمن والاستقرار مع إسرائيل، أما الملفات الداخلية فهي أمام تفاقم كبير، ما لم يتم خلال شهر أيلول/سبتمبر الحالي التحرك جديا بشأن إيجاد حلول لها، بعقد جلسات متتالية لـ “البرلمان” لحسم انتخاب رئيس الجمهورية والبدء في إصلاحات جذرية مع تشكيل الحكومة.

المصري لفت، إلى أن لبنان أمام سيناريوهات غير محمودة ما لم يتم مراعاة الأزمة السياسية وإيجاد حل لها، فقد تكون هناك انعكاسات على مستوى الأمني، وربما حتى على مستوى العلاقة مع إسرائيل وغيرها، مشيرا إلى أن هذه الأوضاع وما يحصل خلالها محل مفاوضات بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران.

إلى ذلك، وفي تفاصيل جولة هوكشتاين، فإنه قد عقد -خلال زيارته التي لم تخل من جولة سياحية في بعض مناطقه، أبرزها في بعلبك التي تعد من معاقل “حزب الله”، حيث زار القلعة إلى جانب السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا- سلسلة اجتماعات مع مسؤولين لبنانيين، أبرزهم رئيس “البرلمان” نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وقائد الجيش العماد جوزيف عون، ووزير الطاقة وليد فياض.

دوافع حسم ترسيم الحدود البرية

 كما قام بجولة ميدانية جنوبا، وتفقد أعمال قوة حفظ السلام التابعة لـ “يونيفيل” والتي مددت، أمس الخميس، ولايتها لمدة عام آخر بعد موجة رفض قادها “حزب الله” وطالب خلالها بإعادة الاتفاق حول دور القوة وواجباتها ونطاق حركتها.

جهود أميركية لترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل/ إنترنت + وكالات

هذه المساعي الأميركية حول ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، جاءت بعد أن اندلع التوتر على امتداد الخط هذا الصيف، مع إطلاق صواريخ على إسرائيل خلال موجات العنف الإسرائيلي الفلسطيني، ومواجهات بين أعضاء جماعة “حزب الله” اللبنانية المدججة بالسلاح أو أنصار لها مع القوات الإسرائيلية.

فالتوترات الأخيرة التي شهدتها المنطقة الحدودية ما بين لبنان وإسرائيل، أدت إلى إعادة طرح ملف ترسيم الحدود البرية فيما بينهما، والتي كانت عملية مؤجلة في اعتبار الطرفين بعد توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بوساطة ورعاية من الولايات المتحدة الأميركية في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2022، عقب مفاوضات طويلة امتد على سنوات.

على إثر ذلك، سجل حراك أممي ودولي على هذا الملف، تمثل في لقاءات حصلت مع الجانب اللبناني من قبل كل من قائد قوات “اليونيفيل” الجنرال أرولدو لازارو الذي التقى رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي على هامش المباحثات الأممية حول تمديد مهمة القوات الدولية في لبنان.

إضافة إلى لقاء آخر سجل ما بين وزير الخارجية اللبناني عبدالله بو حبيب، والمنسقة الخاصة لـ “لأمم المتحدة” في لبنان يوانا فرونيتسكا، والسفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، جرى خلاله التباحث في التوترات الحدودية مع إسرائيل، وذلك قبل أن تأتي زيارة هوكشتاين التي سلطت الأضواء على هذا الملف الحساس بشكل أكثر، بخاصة وأن اسمه ارتبط بنجاح عملية ترسيم الحدود البحرية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات