بعد نحو خمسين عاما على استحداثه، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد مرسوما يقضي بإنهاء عمل المحاكم الميدانية العسكرية وإحالة القضايا الراهنة إلى القضاء العسكري، حيث واجهت هذه المحاكم انتقادات واسعة، خاصة مع بداية عامي 2011-2012، في خطوة قابلها الناشطون بحذر، في انتظار توضيح حجمها.

منظمات حقوقية ترى أن هذه المحاكم الميدانية تعمل خارج نطاق قواعد ومبادئ النظام القانوني السوري، بالإضافة إلى اعتبارها مخالفة للقانون الدولي لأنها تعارض استقلال القضاء والفصل بين السلطات، كما تنتهك هذه المحاكم حرمة حق الدفاع، إذ لا تقبل أحكامها أي طريق من طرق الطعن، ولا يستطيع المتّهم توكيل محامٍ.

إنهاء المحاكم الميدانية

نحو ذلك، أعلنت الرئاسة السورية في بيان مقتضب يوم الأحد الفائت، أن الرئيس السوري بشار الأسد أصدر مرسوما ينهي العمل بمرسوم صادر عام 1968 يتضمن إحداث محاكم الميدان العسكرية، موضحة أن القضايا المرفوعة أمام محاكم الميدان ستُحال بحالتها الحاضرة إلى القضاء العسكري لإجراء الملاحقة فيها وفق أحكام قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية، وفق ما نشرته وكالة “سانا” المحلية، قبل يومين.

المرسوم “قد يساعد معتقلين كثرا لا يزالون يقبعون في سجون دمشق تحت وطأة هذه المحاكم الميدانية ينتظرون أحكام إعدامهم” صورة من سجن في حلب شهد اعتدادءات وتعذيب

هذه المحاكم قوبلت بجملة من الانتقادات اللاذعة، خصوصا في بداية الصراع بسوريا عام 2011. وتشتهر هذه المحاكم بسمعتها السيئة في الأوساط السورية، نظرا لأنها أصدرت قرارات بإعدام آلاف السوريين خلال السنوات الماضية. وقالت “منظمة العفو الدولية” إن هذه المحاكم تعمل خارج نطاق قواعد وأصول النظام القانوني السوري.

في تقرير أصدرته “العفو الدولية” عام 2017، نقلت عن قاضٍ سابق فيها قوله “يسأل القاضي عن اسم المحتجز، وعما إذا كان قد ارتكب الجريمة أم لا. وسوف تتم إدانة المحتجز بصرف النظر عن إجابته”.

المنظمة الدولية أردفت في تقريرها “يخضع المحتجزون قبل إعدامهم لإجراءات قضائية صورية لا تستغرق أكثر من دقيقة واحدة أو اثنتين.. وتتصف هذه الإجراءات بأنها من الإيجاز والتعسف بحيث يستحيل معهما أن يتم اعتبارها كإجراءات قضائية معتادة”. ووصفت الإجراءات بـ”مهزلة.. تنتهي بإعدام المحتجزين شنقا”.

كما ودعت “العفو الدولية” الأمم المتحدة إلى إجراء تحقيق مستقل بشأن ما يحدث في سجن صيدنايا بريف دمشق من إعدامات للمعتقلين، وذلك بعد إصدارها تقريرا يكشف عن قيام الحكومة السورية بإعدام نحو 13 ألف شخص شنقا بالسجن بين عامي 2011 و2015.

حيث نشرت “العفو الدولية” تقريرا آنذاك يفيد بأنه كل أسبوع يتم اقتياد من 20 إلى 50 شخصا من زنزاناتهم من أجل شنقهم في منتصف الليل.

آراء الحقوقيين

القرار الذي أصدره الأسد قبل يومين، يراه مراقبون أن هذا القرار محاولة جديدة لتلميع صورة الحكومة السورية دوليا، وخطوة ربما جاءت لامتصاص غضب الشارع السوري، مع تصاعد الاحتجاجات في جنوب سوريا المطالبة بتغييرات سياسية. ما تزال تشهد مدينة السويداء موجات احتجاجات واسعة، تطالب بإنهاء السلطات الحاكمة في دمشق.

من جانبه، قال المحامي السوري غزوان قرنفل بأن محاكم الميدان التي أنشئت بعد حرب حزيران/يونيو 1967، توسّع اختصاصها ليشمل المدنيين في الثمانينات بعد أحداث مدينة حماة “وسط” التي قمعها حكومة دمشق بالقوة.

بحسب “العفو الدولية”، بين عامي 2011-2015، كان يتم كل أسبوع اقتياد من 20 إلى 50 شخصا من زنزاناتهم من أجل شنقهم في منتصف الليل.

قرنفل أضاف لـ”وكالة فرانس برس” إنها لا تتقيد بقواعد الأصول وأحكامها لا تقبل الطعن، ولا دور للمحامي في إجراءاتها. وأشار الى أن الكثير من المعتقلين خلال سنوات الثورة والصراع المسلح صدرت بحقهم أحكام بالإعدام عن تلك المحاكم ونفذت فور المصادقة عليها.

بينما أعرب الناشط والمحامي أنور البني لـ”مونت كارلو الدولية“، عن اقتناعه بأن الدافع على اتخاذ هذا القرار هو إخفاء الأدلة على تورط الأسد في جرائم ضد الإنسانية، قائلا “محاكم الميدان العسكرية هي المحاكم التي استخدمها الحكومة السورية من إنشائها عام 1968، لقمع المعارضين وتطبيق المرسوم الخاص بمناهضة أهداف الثورة ومناهضة السلطة الاشتراكية”.

كما وأصدرت هذه المحاكم أحكاما ضد ألاف الناس منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، مثل أمامها ناشطون سياسيون، وكان يحال عليها كل المتهمين بالمرسوم 41 الخاص بالانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين، وهي محكمة استثنائية تستغرق المحاكمة أمامها دقيقة أو دقيقتين، ذلك إن الحكم جاهز، ويقتصر الأمر على الإتيان بالموقوف لتلاوة الحكم عليه، طبقا للمحامي السوري.

بحسب اعتقاد البني، فإن إلغاء هذه المحاكم الميدانية اليوم يأتي بسبب أمرين، أولا بعد ما تأكد أن توقيع بشار الأسد على قرارات الإعدام الصادرة عن هذه المحاكم هو أهم دليل يورطه، شخصيا، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والأمر الثاني يتعلق بصدور قرار عن الجمعية العامة لـ”الأمم المتحدة” بإنشاء آلية للبحث عن مصير المفقودين.

بالتالي، يأتي قرار بشار الأسد بإلغاء المحاكم المدنية العسكرية، استباقا للمسألتين، بحيث يتمكن من إتلاف وإخفاء السجلات الخاصة بها، وهي السجلات التي تكشف عن آلاف السوريين المدنيين الذين تم إعدامهم والاخفاء القسري لعشرات الآلاف حتى الآن في مختلف السجون.

مصير الآلاف مجهولا

في المقابل، تفاعل ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مع هذا القرار الذي قد يغير مصير مئات المفقودين. واعتبر المحامي السوري المقيم في دمشق، عارف الشعال، في منشور له على منصة “فيسبوك” أن إلغاء هذه المحاكم إزاحة لأهم الكوابيس الجاثمة على صدر العدالة.  وقال إنه بجانب أنها كانت محكمة سرية لا يدخلها محامي ولا يوجد فيها ضمانة حق الدفاع، كانت أيضا مرتعا خصبا للفاسدين من المحتالين والنصابين والسماسرة الذين يزعمون أن لهم يد طولى فيها ويتقاضون من المساكين مبالغ خيالية بسبب ذلك وهم كاذبون.

لا يزال مصير عشرات الآلاف من المفقودين والمخطوفين والمعتقلين لدى مختلف الأطراف وخصوصا حكومة دمشق، مجهولا. وقدّر المحامي غزوان قرنفل بأن يكون “الآلاف أعدموا بأحكام صادرة عن تلك المحاكم”. في حين قال ناشط طالبا عدم كشف اسمه إن صدور المرسوم “تأخر كثيرا بعدما قضى جراء تلك المحاكم آلاف السوريين وربما عشرات الآلاف”.

كما ونوّه إلى أن الإجراء “مطلب قديم للناشطين لكن توقيته  ليس واضحا”، داعيا إلى “التعامل مع القرار بحذر وانتظار ما قد ينتج عنه قبل الترحيب به خاصة أن النظام لم يعترف يوما بمخالفة هذه المحاكم لحقوق الإنسان والمعتقلين”، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن المرسوم “قد يساعد معتقلين كثرا لا يزالون يقبعون في السجون تحت وطأة هذه المحاكم الميدانية ينتظرون أحكام إعدامهم”، متحدثا عن أن بعض العائلات “كانت تدفع آلاف الدولارات لوسطاء ومحامين فقط لإنقاذ المعتقل بإخراجه من محكمة الميدان إلى محاكم عسكرية عادية”.

دياب سرية من “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” بيّن من جانبه أنه إذا تمّت إحالة المعتقل إلى المحاكم العسكرية، سيسمح له بمحامٍ على الأقل، لافتا إلى أن “حوالي 70 بالمئة من المعتقلين في سجن صيدنايا بعد العام 2011، عرضوا على محكمة الميدان العسكري التي حكمت على أغلبهم بالإعدام، أملا في أنه “إذا سُمِح بالاطلاع على أرشيف تلك المحاكم أن يعلم الأهالي مصير أحبائهم المفقودين والمختفين قسرا منذ سنوات”.

من هذه المحاكم الميدانية، “محكمة أمن الدولة العليا” المنشأة بموجب المرسوم التشريعي رقم 47 لعام 1968 المعدل وأحكام هذه المحكمة يصادق عليها رئيس الجمهورية الذي له حق تعديلها أو إلغائها أي أن أحكام هذه المحكمة خاضعة لرقابة السلطة التنفيذية وتصديقها ولا رقابة عليها لأية جهة قضائية.

هذا وتشهد سوريا نزاعا داميا منذ 2011 تسبّب بمقتل حوالى نصف مليون شخص، وألحق دمارا هائلا بالبنى التحتية وأدى إلى تهجير الملايين. وبدأ النزاع باحتجاجات شعبية قمعتها حكومة دمشق، وتشعّب مع انخراط أطراف خارجيين ومسلحين وتنظيمات جهادية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات