في الوقت الذي حذّرت فيه لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا من تصاعد القتال وتسارع الانهيار الاقتصادي، معتبرة أن سوريا غير آمنة لعودة اللاجئين السوريين، حدّد القضاء الفرنسي شهر أيار/مايو 2024 موعدا لمحاكمة ثلاثة مسؤولين سوريين بينهم علي مملوك، لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية.

مطلع نيسان/أبريل الماضي، أمر قاضيا تحقيق فرنسيان، بمحاكمة ثلاثة مسؤولين كبار في الحكومة السورية أمام محكمة الجنايات بتهمة التواطؤ في قتل مواطنَين سوريَين فرنسيَين، هما مازن دباغ ونجله باتريك، اللذان تم اعتقالهما عام 2013، بحسب وكالة “فرانس برس”.

محاكمة مسؤولينَ سوريينَ

نحو ذلك، أفاد مصدر قضائي يوم الإثنين الفائت، بأنه في أيار/مايو 2024 ستبدأ في فرنسا إجراءات محاكمة ثلاثة مسؤولينَ سوريينَ في قضية مقتل سوريَّين يحملان الجنسية الفرنسية. وسيحاكم المسؤولون في قضية مقتل مازن دباغ ونجله باتريك، أمام محكمة الجنايات في باريس.

علي مملوك- “أ.ف.ب”

ستكون هذه المحاكمة التي كشفت صحيفة “ذا ناشونال” الإماراتية بداية مواعيد انعقادها، أول محاكمة في فرنسا تختص بجرائم ضد الإنسانية ارتُكبت في سوريا. وتفيد المعلومات بأنه سيُحاكم غيابيا كلّا من الرئيس السابق لجهاز المخابرات العامة، علي مملوك، الذي أصبح لاحقا رئيس مكتب الأمن الوطني، والرئيس السابق لجهاز المخابرات الجوية جميل حسن، ومدير فرع باب توما في العاصمة دمشق بالمخابرات الجوية عبد السلام محمود. وثلاثتهم مستهدفون بمذكّرات توقيفٍ دولية، طبقا لـ”فرانس برس“.

تحديد موعد محاكمة المسؤولين في حكومة دمشق يأتي وسط جمودٍ للتقارب العربي تجاه دمشق، وبالتالي فهذا يعني أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لن تتردد في ملاحقة ومحاسبة مرتكبي ومجرمي الحرب في سوريا، بالإضافة إلى رفضهم لأي عملية تعويم لدمشق إذا لم يتم تنفيذ القرار الدولي 2254، الذي يدعو إلى التوصل إلى تسوية سياسية شاملة للوضع السوري.

الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان والمركز السوري للإعلام ورابطة حقوق الإنسان، اعتُبروا أطراف الحق المدني في هذا الملف، في بيان بأن هذا القرار يفتح الطريق، للمرة الأولى في فرنسا، لمحاكمة كبار المسؤولين في آلة القمع السورية.

كما اعتبر خبراء في القانون الدولي وسياسيون، أن أمر قاضيا التحقيق في فرنسا هو خطوة لتعزيز تضييق الخناق على المتّهمينَ بارتكاب جرائم حرب في سوريا، كما أنه رسالة سياسية واضحة لقطع الطريق على كافة محاولات “التطبيع”، لا سيما من قبل الدول العربية مع الحكومة السورية.

هذا القرار الفرنسي يأتي أيضا كرسالة سياسة شديدة اللهجة ردا على محاولات إعادة تعويم الحكومة السورية، خاصة وأن علي مملوك، ورد اسمه مؤخرا كمسؤول عن ملف “التطبيع” بين دمشق وبعض الدول العربية، وقد التقى العديد من مدراء المخابرات للدول الراغبة في إعادة العلاقات مع دمشق، وأبرزها تركيا.

في حال إصدار مذكرة اعتقال من قبل المحاكم الفرنسية ضد المتهمينَ الثلاثة، فهذا يعني أن ذهاب أيّا منهم إلى دولة موقعة على معاهدة ثنائية مع فرنسا على أية معاهدة تتعلق بتسليم المجرمين للعدالة، سيعني بالضرورة إمكانية المطالبة باعتقالهم عبر الإنتربول الدولي، الأمر الذي سيعيق ما يتم التخطيط له بأن يكون أحد هؤلاء مسؤول عن ملف “التطبيع” والتواصل مع الدول العربية.

هذا وكان باتريك دباغ المولود في 1993، طالبا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في دمشق، ووالده من مواليد 1956 كان مستشارا تربويا رئيسيا في المدرسة الفرنسية في دمشق، وقد اعتُقلا في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 من قِبل ضباطٍ قالوا إنهم ينتمون إلى جهاز المخابرات الجوية السورية.

بحسب صهر مازن دباغ، والذي اعتقل في الوقت نفسه معه لكن تم الإفراج عنه بعد يومين، نُقل الرجلان إلى سجن المزة، حيث تشير تقارير إلى عمليات تعذيب تحصل داخله. بعدها لم تظهر أي علامة على أنهما لا يزالان على قيد الحياة، إلى حين إعلان دمشق وفاتهما في آب/أغسطس 2018.

في أمر توجيه الاتهام الذي أصدره قاضيا التحقيق في نهاية آذار/مارس الماضي، ورد أنه من الواضح أن باتريك ومازن دباغ تعرّضا، مثل آلاف المعتقلين الآخرين لدى المخابرات الجوية، للتعذيب الشديد الذي أدى إلى وفاتهما.

محاكمات غربية ضد دمشق

في وقت سابق من نيسان/أبريل الماضي، كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أن مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي “إف بي آي” فتح تحقيقا يرمي إلى محاسبة مسؤولين سوريين يقفون وراء منظومة الاعتقال والتعذيب الوحشي التي سادت في عهد الرئيس السوري بشار الأسد.

مازن الدباغ ونجله باتريك- “إنترنت”

الصحيفة أشارت إلى أن “وزارة العدل الأميركية” تجري تحقيقا غير معلن منذ 5 سنوات بشأن تعذيب وإعدام عاملة إغاثة أميركية تدعى ليلى شويكاني، في أحد السجون السورية، مضيفة أن التحقيق يهدف لمحاسبة كل من جميل الحسن وعلي مملوك.

الصحيفة نوّهت إلى أن لائحة الاتهام الفيدرالية التي تتهم المسؤولين السوريين بارتكاب جرائم حرب تمثل سابقة، فهذه المرة الأولى التي توجّه فيها الولايات المتحدة اتهامات جنائية بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لمسؤولين كبار في حكومة دمشق، التي طالما نفت ارتكاب تلك الانتهاكات لإسكات معارضيها.

الحكومة السورية مستهدفة بعدّة ملاحقات قضائية في أوروبا وخصوصا في ألمانيا، فقد أعلنت محكمة العدل الدولي قبل نحو 3 أشهر، أن كلّا من هولندا وكندا رفعتا قضية على الدولة السورية بخصوص التعذيب والمعاملة اللاإنسانية في السجون، بناء على نطاق “اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، حيث أن سوريا تعتبر جزءا من هذه الاتفاقية التي تم توقيعها عام 1984.

 سوريا ليست آمنة

في سياق متّصل، حذرت لجنة التحقيق الأممية المستقلة بشأن سوريا من أن تصاعد القتال والانهيار الاقتصادي المتسارع يتطلبان استجابة عاجلة. وفي بيان مقتضب لها، يوم أمس الثلاثاء، خلال اجتماعات مجلس حقوق الإنسان، قالت اللجنة إنه رغم الجهود الدبلوماسية لضمان استقرار الأوضاع في سوريا، بما في ذلك من خلال إعادة قبولها بـ”جامعة الدول العربية”، يعاني السوريون من تفاقم القتال والاضرابات على العديد من الجبهات، بالإضافة إلى التدهور الاقتصادي الشديد، واستمرار الانتهاكات والاعتداءات المتصلة بحقوق الإنسان.

‏تعقيبا على موجة الاحتجاجات في جنوب سوريا، قال رئيس اللجنة، باولو بينيرو، إنه “قبل أن تواجه سوريا بشكل أعمق آثار تفاقم العنف والتدهور الاقتصادي، ندعو أبرز الجهات الفاعلة إلى وقف الهجمات على المدنيين والاستجابة للحاجات الملحّة، ونحثّ النظام في دمشق على إيلاء العناية والتفاعل بشكل إيجابي مع الطموحات والحقوق المشروعة للسوريين كحل لوضع حد للنزاع”.

اللجنة الدولية في تقريرها، الذي يغطي الفترة من 1 كانون الثاني/يناير وحتى 30 حزيران/يونيو 2023، أكدت الحاجة لقيام الدول بمراجعة التدابير القسرية أحادية الجانب، وتأثيرها على المدنيين السوريين، وعلى الجهات الفاعلة في المجال الإنساني، لا سيما بسبب طابعها المتّسم بالمبالغة، داعية إلى إجراء استعراض عاجل لعملية إيصال المساعدة الإنسانية وفعاليتها.

بعد الزلازل المدمرة في شباط/فبراير 2023، وثق التقرير قيام الحكومة السورية وأطراف أخرى، بشكل غير مبرر، بعرقلة وصول المساعدة المُنقِذَة للحياة، بالإضافة إلى مواصلة قصف أهداف في المنطقة المتضررة من الزلزال، طبقا لـ” لجنة التحقيق الأممية”.

استمرار الأعمال العدائية

في المقابل، ذكر البيان أن الأسابيع الماضية شهدت زيادة الصراع في مناطق إدلب، مما أدى إلى نزوح الآلاف، وكذا إلى قتل العشرات في دير الزور، بالإضافة إلى مظاهرات واسعة النطاق للمطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والسياسية في المناطق الخاضعة لسيطرة دمشق، ولا سيما في السويداء.

Members of the Hayat Tahrir al-Sham (HTS) jihadist group advance towards the village of Jindayris in the Afrin region of Syria’s rebel-held northern Aleppo province on October 12, 2022, amid ongoing reported clashes between rival factions competing for power in northwest Syria. – Thirteen people, mostly fighters, have been killed in two days,a war monitor said today. The death toll includes three civilians, the source said, with AFP correspondents reporting that schools and markets had closed in Al-Bab, and dozens had fled the Afrin countryside further west. (Photo by Rami al SAYED / AFP)

البيان أشار إلى أن انعدام الأمن يظل متفشيا في المناطق البعيدة عن جبهات القتال، مما يجعل العودة الآمنة للاجئين السوريين أمرا مستبعدا، حيث وثقت لجنة التحقيق الأممية المستقلة حالات خاصة للاجئين سوريين عائدين من دول الجوار، تعرضوا لسوء المعاملة من طرف قوات أمن تابعة لدمشق، وتعرض البعض منهم للابتزاز مقابل إطلاق سراحهم، بينما تعرض البعض الآخر للاعتقال من طرف الأجهزة الأمنية، ويظل العديد منهم، بما في ذلك بعض الأطفال، في عداد المفقودين منذ ذلك الحين.

هذا وكشف مكتب “الأمم المتحدة” لتنسيق الشؤون الإنسانية، يوم الإثنين الماضي، أن استمرار الأعمال العدائية، أدى إلى نزوح آلاف الأُسر السورية من مناطق سيطرة القوات التركية والفصائل السورية التابعة لها في شمال غربي سوريا.

مكتب الأمم المتحدة “أوتشا” قال إن استمرار الأعمال العدائية، بما في ذلك القصف، أدى إلى نزوح نحو 5300 عائلة، أي أكثر من 26500 شخص، في الفترة الممتدة ما بين 1 و9 أيلول/سبتمبر الجاري، بمناطق شمال غربي سوريا.

بينما جددت لجنة التحقيق الأممية دعوتها من أجل إطلاق سراح كل المعتقلين بشكل تعسفي في سوريا، وقيام مراقبين مستقلين بالوصول إلى كل أماكن الاحتجاز، مشيدة الدول التي قامت بإعادة ما يفوق 2000 امرأة وطفل من مخيمَي “الهول وروج”، داعية إلى استمرار هذه العمليات وإخضاع الجناة المزعومين منهم إلى الملاحقة القضائية بشأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة التي ارتكبها تنظيم “داعش” الإرهابي، من خلال إجراءات قضائية متوائمة مع معايير المحاكمة العادلة.

ضمن تطور إيجابي، أحاطت اللجنة علما بإعلان محكمة العدل الدولية عن عقد جلسات استماع علنية يومي 10 و11 تشرين الأول/أكتوبر القادم بشأن الإجراءات الموجهة ضد الحكومة السورية ارتباطا بالتزاماتها بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب. وبينما أدين مسؤولون سوريون بالجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في التعذيب، تُعد هذه المرة الأولى التي تدعى فيها الدولة السورية إلى الدفاع عن سجلها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات