مع التحولات السريعة والأحداث الجيوسياسية المعقدة، يبقى الوضع في سوريا موضوعا مهما يجب متابعته عن كثب، إذ إن استعادة القوات النظامية السورية للسيطرة على معظم مناطق البلاد بعد سنوات من النزاعات العنيفة لا تشكل إلا نقطة بداية لفهم أعمق للوضع.

منذ بداية النزاع السوري في عام 2011، شهدت البلاد تغييرات جذرية في السيطرة العسكرية، فبينما استعادت دمشق العديد من المناطق التي خسرتها في وقت سابق، إلا أن هناك قوى متعددة تحتفظ بتأثيرها في مناطق محددة، سواء كان ذلك نتيجة للدعم الدولي أو التحالفات الإقليمية، وهذه الوقائع تطرح تساؤلات حاسمة حول مستقبل النزاع في سوريا ومدى استقراره.

في الأعوام الأخيرة، شهدنا تصاعدا للتوترات بين القوى العالمية والإقليمية في سوريا، مما يجعل التوقعات بشأن مستقبل الصراع أكثر تعقيدا، وهناك أيضا التحديات الاقتصادية والإنسانية الكبيرة التي يواجهها الشعب السوري نتيجة للدمار الهائل والتهجير الواسع، ولكن ما هي النظرة العامة للوضع الراهن في سوريا، والتحولات الحالية وتأثيرها على السياسة الإقليمية والدولية.

كيف تتوزّع القوى العسكرية؟

لم تُظهِر خريطة النفوذ العسكري في سوريا حتى نهاية عام 2022 أيَّ تغيُّر في حدود السيطرة وخطوط التماسّ بين القوى المحلية على الأرض، وبقيت نِسَب السيطرة ثابتة كلياً بين أطراف النزاع في البلاد، والتي تم تسجيلها نهاية شباط/فبراير 2020.

وبموجب اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا في 5  آذار/مارس 2020  شهدت الخريطة السورية أطول فترة تهدئة منذ اندلاع النزاع، أي أكثر من 45 شهرا، بقيت فيها مناطق السيطرة ثابتة بين الجيش السوري وفصائل المعارضة السورية المدعومة من أنقرة و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).            

في السنوات الأولى للنزاع، فقدت القوات الحكومية معظم مساحة البلاد لصالح الفصائل المعارضة والمقاتلين الأكراد، وفيما بعد تنظيم “داعش”، ولكن تدخل روسيا في أيلول/سبتمبر 2015 بدأ يلعب دورا تدريجيا في تغيير توازن القوى على الأرض لصالح الحكومة السورية.

بفضل الدعم الروسي والدعم العسكري من إيران ومن “حزب الله” اللبناني، أصبحت اليوم الحكومة السورية تسيطر على ما يقرب من سبعين بالمئة من مساحة البلاد، وتشمل هذه المناطق مدنًا رئيسية مثل دمشق وحماة وحلب وحمص، التي تعرضت لهجوم بواسطة طائرة مسيرة يوم الخميس الفائت، مما أسفر عن مقتل 123 شخصا.

حاليا، تسيطر القوات النظامية على محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة في الجنوب، وحمص وحماة في وسط البلاد، وطرطوس ومعظم محافظة اللاذقية في الغرب، بالإضافة إلى دمشق ومحيطها، وتمتلك أيضا السيطرة على معظم محافظة حلب في الشمال، وبعض مناطق في ريف الرقة الجنوبي في الشمال، ونصف محافظة دير الزور في الشرق.

ويحظى الجيش السوري بدعم مجموعات محلية مثل قوات “الدفاع الوطني” الموالية له، بالإضافة إلى ميليشيات أخرى تتألف من مقاتلين أفغان وباكستانيين وعراقيين، بالإضافة إلى توجيه ودعم من “حزب الله” اللبناني.

شرق سوريا.. الأكثر استقرارا

تتحكم القوات الحكومية بصفة رئيسية في حقول نفطية هامة في سوريا، بما في ذلك حقول الورد والتيم والشولة والنيشان في دير الزور، وحقل الثورة في الرقة، وحقل جزل في حمص في وسط البلاد، وبالإضافة إلى ذلك، تسيطر على حقل الشاعر، والذي يُعتبر أكبر حقل للغاز الطبيعي، بالإضافة إلى حقول صدد وآراك في حمص، وتتمركز نقاط عدة لجنود روس في مناطق تحت سيطرة الجيش السوري.

على مر السنوات السابقة، شارك أكثر من 63 ألف جندي روسي في العمليات العسكرية في سوريا، وفقا لما صرّحت به موسكو، ورغم أن عدد القوات الروسية الحالية في سوريا ليس معروفا بدقّة، إلا أننا نعلم بوجود اثنتين من أبرز القواعد العسكرية الروسية في البلاد، الأولى تقع في مطار “حميميم” بالقرب من مدينة اللاذقية الساحلية، والثانية في ميناء طرطوس، والذي يستثمره بشكل أساسي شركة روسية.

أما شمال شرق سوريا، في عام 2012، أُعلن عن إنشاء “إدارة ذاتية” في المناطق التي تقع تحت نفوذ المقاتلين الأكراد، وجاء هذا الإعلان بعد انسحاب القوات النظامية من معظم هذه المناطق، وتوسعت هذه المناطق تدريجيا بفضل مشاركة المقاتلين الأكراد في معارك عنيفة ضد تنظيم “داعش” بدعم من الولايات المتحدة.

في عام 2015، تأسست “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، والتي تتألف أساسا من “وحدات حماية الشعب” الكردية، بالإضافة إلى عناصر من الفصائل العربية والسريانية المسيحية، وتُعد هذه القوات اليوم القوة العسكرية الرئيسية التي تعمل بالتنسيق مع “الإدارة الذاتية”.

وتسيطر “قسد” التي شاركت بشكل رئيسي في محاربة تنظيم “داعش”، على نحو 30 بالمئة من مساحة سوريا، مما يجعلها ثاني أكبر قوة عسكرية مسيطرة على الأراضي بعد الجيش السوري.

اليوم، تتواجد هذه القوات في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، حيث توجد أيضا بعض القوات الحكومية في بضعة أحياء، وتسيطر أيضا على معظم محافظة الرقة، التي كانت تُعد معقلا لتنظيم “داعش” لسنوات طويلة، بالإضافة إلى ذلك، تسيطر على أجزاء من ريف محافظة حلب الشمالي الشرقي، ونصف محافظة دير الزور.

وتسيطر هذه القوات على أهم حقول النفط في سوريا، بما في ذلك حقول العمر والتنك وجفرا في دير الزور، فضلا عن حقول أصغر في محافظة الحسكة والرقة، وتسيطر أيضا على حقول الغاز مثل حقل كونيكو في دير الزور وحقل السويدية في الحسكة.

وتتواجد قوات أميركية ضمن “التحالف الدولي” ضد المتطرفين في عدة قواعد في المناطق التي تخضع لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، وإحدى هذه القواعد تقع في جنوب سوريا وتُعرف باسم قاعدة “التنف”، والتي أُنشئت في عام 2016 وتقع بالقرب من الحدود العراقية – الأردنية، وتحمل أهمية استراتيجية كبيرة نظرا لموقعها على طريق بغداد – دمشق.

تركيا والفصائل المنخرطة معها

ابتداءً من عام 2016، قامت تركيا بتنفيذ سلسلة من العمليات العسكرية في شمال سوريا بالتعاون مع فصائل سورية موالية لها، وهذه العمليات كانت موجهة بشكل رئيسي ضد المقاتلين الأكراد، بهدف تصفية المنطقة الحدودية من وجودهم، في مشهد وصِف بالتغيير الديموغرافي.

حيث قامت القوات التركية والفصائل الموالية لها بالسيطرة على شريط حدودي يمتد من جرابلس في شمال شرق محافظة حلب إلى عفرين في غربها، وذلك عَبر مدن رئيسية مثل الباب واعزاز، وبالإضافة إلى ذلك، تسيطر هذه القوات على منطقة حدودية تمتد لمسافة 120 كيلومترا بين مدينتي رأس العين وتل أبيض على الحدود الشمالية.

وتتألف الفصائل الموالية لتركيا والتي تجتمع تحت مسمى “الجيش الوطني السوري” من مقاتلين سابقين في مجموعات معارضة سورية، بما في ذلك مجموعات معروفة مثل “جيش الإسلام” الذي كان يُعتبر أحد أبرز الفصائل المعارضة قرب العاصمة دمشق.

ضمن هذه الفصائل، توجد مجموعة من المجموعات التي تنشط أساسا في مناطق الشمال، مثل فصيل “السلطان مراد”، وأخرى برزت خلال العمليات العسكرية التركية، منها فصائل مثل “الحمزات” و”سليمان شاه” والتي أُدرج قادتها تحت قائمة العقوبات الأميركية بسبب الانتهاكات التي مارسوها ضد السكان المحليين في عفرين.

التنظيمات الجهادية في سوريا

“هيئة تحرير الشام”، المعروفة سابقًا باسم “جبهة النصرة”، تكبدت خسائر تدريجية في الأراضي التي كانت تسيطر عليها، نتيجة للعمليات العسكرية التي شنّتها القوات النظامية بدعم من روسيا، وحاليا، تسيطر “الهيئة” على ما يقارب نصف محافظة إدلب في شمال غرب سوريا، بالإضافة إلى أجزاء صغيرة من محافظات حلب وحماة واللاذقية المجاورة.

خريطة السيطرة العسكرية في سوريا.. هل هناك تغييرات قادمة؟ (2)

في هذه المنطقة، توجد أيضا فصائل مقاتلة ذات نفوذ أقل، إلى جانب مجموعات أخرى تراجعت تأثيرها تدريجيا، مثل “الحزب الإسلامي التركستاني” الذي يجمع بين صفوفه مقاتلين أيغور.

كذلك، بعدما سيطر التنظيم المتطرف “داعش” على مساحات واسعة في سوريا والعراق في عام 2014، تعرض لهزائم متتالية في البلدين وانكمشت مناطق سيطرته تدريجيا حتى تم تجريده منها تماما في عام 2019، ومنذ ذلك الحين، تمّت مقتل أربعة من زعماء التنظيم، لكن عناصره المتوارين لا يزالون قادرين على تنفيذ هجمات محدودة ضد مختلف الأهداف.

غالبا ما يستهدف مقاتلو التنظيم هجماتهم الجيش السوري في منطقة البادية السورية الواسعة والقليلة الإسكان، حيث انتقلوا إليها، ولا يزال هؤلاء المقاتلون نشطين أيضا في محافظة دير الزور، حيث ينفذون هجمات ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

ولا يُتوقع أن تشهد خارطة السيطرة العسكرية في النصف الثاني من عام 2023 أي تغيّر في نسب السيطرة بين القوى المحلية؛ بسبب غياب المؤشرات الكافية لتنفيذ عملية عسكرية ضد “قسد”، أو قدرة الجيش السوري على شنّ هجوم جديد ضد مناطق المعارضة، ومع ذلك فإن أي انهيار عسكري محتمل قد يطرأ على الخارطة قد يكون في النصف الأول من عام 2024 ، وليس من المُستبعد أن يطال جبهات جنوب سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات