على الرغم من تراجع حدّة النزاعات المسلحة في سوريا والاستقرار الأمني النسبي التي تعيشها المناطق السورية، لا سيما تلك التي تخضع لسيطرة الحكومة في دمشق، ما يزال الاقتصاد السوري يتلقى صدمات موجعة على مدار السنوات الاخيرة، في وقت فشلت فيه الحكومة في إيجاد أية آلية من شأنها إنقاذ الاقتصاد المتهالك، بفعل عوامل عديدة أبرزها غياب الرؤية الاقتصادية والفساد المنتشر.

الجهات المعنية في الحكومة حاولت تخدير السوريين على مدار هذه الفترة، عبر الوعود الدورية بتحسين الواقع الاقتصادي، لكن ما حصل هو العكس تماما، فاستمر السقوط الحر لليرة السورية، واقتربت القدرة الشرائية للسوريين من الانعدام، دون وجود أي مؤشرات على أمل تحسين الواقع المعيشي في البلاد.

بحسب “مرصد الاقتصاد السوري”، فإن مناطق سيطرة الحكومة السورية تستورد ما يقارب نصف الكميات المستهلكة من النفط وحوالي ثُلث الكميات المستهلكة من الحبوب، الأمر الذي كان له تداعيات سلبية على الوضع المالي ومعدلات التضخم.

وعود بدون مقومات

وفي ظل ارتفاع تكاليف السلع الأساسية، أصبحت السياسة المالية أكثر تقييدا، وتشهد الأُسر السورية، الهشة أصلا، تدهورا إضافيا في وضعها المعيشي. وقد ترافق تزايد هشاشة الأسر مع زيادةٍ في نسبة مشاركة القوى العاملة، وخاصة في ما يتعلق بالعمال على هامش سوق العمل مع فُرص محدودة نسبيا لكسب الدخل، والتي تشمل النساء والشباب والمسنّين.

مع استمرار انهيار الوضع المعيشي، تعود الحكومة إلى سياسة الوعود الوهمية، حيث أشار وزير المالية الدكتور كنان ياغي، إلى أن بلاده تستهدف تحقيق نمو اقتصادي بنسبة تصل إلى 3 بالمئة في العام المقبل، معتبرا أن السبب الرئيسي فيما وصل إليه اقتصاد البلاد هي العقوبات الاقتصادية المفروضة على الحكومة السورية منذ سنوات.

ياغي، أكد في تصريحات نقلها موقع “سي إن بي سي عربية” على هامش مشاركته في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أن سوريا تسعى لفتح قنوات اقتصادية مع كل المنظمات المالية العربية والدولية، وذلك في مسعىً لعودة سوريا إلى سابق عهدها من ناحية المؤشرات المالية والنقدية والاقتصادية، وإعادة إدراج سوريا في تقارير ومؤشرات ضمن تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

قد يهمك: معاناة جديدة للسوريين مع الصيدليات.. “المواطن طبيب نفسه“!

بالنظر إلى واقع الاقتصاد السوري اليوم، فإن تحقيق نمو اقتصادي يعني زيادة في الناتج المحلي الإجمالي، وما يحدث في البلاد هو عكس ذلك تماما، ولا داعي هنا أن نتحدث عن المؤشرات السنوية، فمع كل شهر يمرّ على سوريا، تشهد قطاعات الصناعة والإنتاج تراجعا حادا جراء الارتفاعات الكبيرة في تكاليف الإنتاج وغياب الدعم الحكومي للصناعيين والمنتجين.

هذا فضلا عن غياب الاحتياجات الأساسية للصناعيين، من بُنى تحتية وخدمات الطاقة، التي ساهم غيابها في إقفال شريحة واسعة من الصناعيين لمعاملهم، فضلا عن خروج نسبة كبيرة من المنتجين عن خطوط الإنتاج المحلية.

“سوريا لا تملك حاليا أي من مقومات النمو الاقتصادي”، قال الخبير الاقتصادي مسلم آغا، مؤكدا أن تصريحات الحكومة التي تتحدث عن نمو اقتصادي أو أي تحسّن في الواقع المعيشي، لا تستند إلى معطيات حقيقية، كذلك فإن الطريقة التي يُدار بها الاقتصاد، لا توحي بوجود نيّة حقيقية من قِبل السلطة للنهوض بالاقتصاد المنهار.

آغا، أضاف في حديث مع “الحل نت”، “النمو عبارة عن عملية يتم فيها زيادة الدخل الحقيقي زيادةً تراكميةً ومستمرة مع توفير الخدمات الإنتاجية والاجتماعية وحماية الموارد المتجددة من التلوث، والحفاظ على الموارد غير المتجددة من النضوب. جميع المؤشرات تؤدي إلى العكس، والاقتصاد السوري ينكمش عاما بعد آخر، الحكومة عاجزة حتى عن توفير البيئة المناسبة للصناعيين والمنتجين”.

تداعيات سلبية تؤدي إلى الانكماش

“البنك الدولي”، كان قد أصدر تقريرا في أعقاب الزلزال المدمّر الذي ضرب سوريا وتركيا قبل أشهر، مؤكدا أن هناك تداعيات سلبية عنيفة ستضرب الاقتصاد السوري، وأشار كذلك إلى أن المؤشرات توحي بانكماش إجمالي الناتج المحلّي بنسبة 5.5 بالمئة هذا العام.

من بين العناصر التي يمكن أن تفاقم التداعيات على الاقتصاد، لفت التقرير إلى “محدودية الموارد العامّة، وضعف الاستثمارات الخاصّة، وقلّة المساعدات الإنسانية التي تصل إلى المناطق المتضرّرة”، كذلك فقد توقّع البنك الدولي أن “يزداد معدّل التضخّم بنسبة عالية”، وما هو حصل فعلا وبلغت ذروته بفعل القرارات الحكومية الأخير التي كانت بمثابة ضربة موجعة للاقتصاد قبل أسابيع قليلة.

في آب/أغسطس الماضي، قررت الحكومة السورية زيادة رواتب الموظفين بنسبة مئة بالمئة، في المقابل قررت رفع الدعم عن العديد من المواد الأساسية وأبرزها المحروقات، ولأن هذه الزيادة لا يوجد ما يقابلها من زيادة في قيمة الإنتاج المحلي، انفجرت معدلات التضخم إلى أرقام قياسية، وانهارت معها القدرة الشرائية للسوريين.

تقرير لصحيفة “قاسيون” المحلية، أفاد أنه “مع انقضاء تسعة شهور من عام 2023، عانى السوريون من ارتفاعات غير مسبوقة في الأسعار ليرتفع وسطي تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد، وفقا لمؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة، ويقفز إلى أكثر من 9.5 مليون ليرة سورية”.

الحد الأدنى لمتوسط التكاليف

بحسب تقرير الصحيفة، فإن الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة السورية، وصل إلى نحو 6 ملايين ليرة سورية، والحد الأدنى لتكاليف الغذاء 3.5 مليون، ذلك في وقت بلغ الحد الأدنى للأجور في المؤسسات الحكومية بعد الزيادة الأخيرة إلى 185 ألف ليرة سورية فقط.

المؤشر الذي اختارته الصحيفة، يركز على طريقة محددة في حساب الحد الأدنى لتكاليف معيشة أسرة سورية من خمسة أشخاص. وتتمثل هذه الطريقة بحساب الحد الأدنى لتكاليف سلة الغذاء الضروري بناء على حاجة الفرد اليومية إلى حوالي 2400 حريرة من المصادر الغذائية المتنوعة، ولهذا الهدف اعتمدت قاسيون على حساب الوجبة الأساسية للفرد خلال اليوم الواحد، على اعتبار أن تكاليف الغذاء هذه تمثّل 60 بالمئة  من مجموع الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة، بينما تمثل الـ 40 بالمئة الباقية الحاجات الضرورية الأخرى للأسرة.

مع نهاية شهر أيلول/سبتمبر الفائت، شهد وسطي تكاليف معيشة الأسرة السورية ارتفاعا بحوالي ثلاثة ملايين ليرة، مقارنة مع مؤشرات شهر تموز/يوليو الماضي، ووفق الصحيفة تأتي هذه الارتفاعات في تكاليف المعيشة مع اشتداد هزالة الأجور في سورية رغم “الزيادات”، حيث لا يستطيع الحد الأدنى للأجور تغطية سوى 1.9 بالمئة من وسطي تكاليف معيشة الأسرة السورية.

وبينما حافظ الخبز الحكومي على سعره ثابتا (بافتراض أن المواطن استطاع فعلا أن يؤمنه دائما بالسعر الرسمي من المعتمد المحلي، وبافتراض أرخص كلفة نقل للموزعين وهي 50 ليرة) طالت ارتفاعات الأسعار مكونات سلّة الغذاء كلها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات