وسط ما تعانيه سوريا من أزمات جمّة، يصدر القضاء الفرنسي مذكرات اعتقال دولية جديدة بحق ضباط ومسؤولين كبار في حكومة دمشق، بتهمة التواطؤ بـ”جرائم حرب”، في خطوة يمكن اعتبارها تعزيز لتضييق الخناق على المتّهمين بارتكاب جرائم حرب في سوريا.

وطبقا لما نقله “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، الخميس 19 من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، فإن من بين الضباط الذين أصدر القضاء الفرنسي مذكرات اعتقال بحقهم يوم الأربعاء الفائت، وزيرا الدفاع السابقان علي عبد الله أيوب، وفهد جاسم الفريج، بالإضافة إلى قائد القوات الجوية أحمد بلول، وقائد “اللواء 64 مروحيات” علي الصفتلي.

“جريمة حرب” في درعا

نحو ذلك، أصدر قضاة التحقيق في وحدة جرائم الحرب الفرنسية في 18 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، مذكرات توقيف دولية بحق أربعة من كبار الضباط في حكومة دمشق، بتهمة التواطؤ في “جرائم حرب” تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين، والقتل العمد للأشخاص المحميين بموجب القانون الدولي الإنساني.

المتهم العماد علي عبدالله ايوب مع بشار الأسد- “إنترنت”

تأتي مذكرات التوقيف هذه وفق “المركز السوري” الحقوقي، كختام للتحقيق القضائي الذي بدأ في عام 2017 إثر شكوى قدمها السيد عمر أبو نبوت، بعد مقتل والده في هجوم بالبراميل المتفجرة نفذته قوات الحكومة السورية في حزيران/ يونيو 2017، في إطار العملية العسكرية التي يقودها قوات الجيش السوري على مدينة درعا بدعم من روسيا.

إلى جانب ذلك، انضم “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” إلى الشكوى كطرف مدني في القضية. ويقول عمر أبو نبوت، ابن الضحية الذي يعيش الآن في مدينة باريس “بعد ست سنوات من التصميم، أفتخر اليوم لأن هذه الدعوى ضد مجرمي الحرب وقتلة والدي أصبحت حقيقة واقعة. أتذكر جيدا عندما تقدمت بطلب إلى المدعي العام الفرنسي بفتح تحقيق في وفاة والدي، وكان هدفي هو منع مجرمي الحرب من الإفلات من العقاب”.

من جانبه، يقول المؤسس والمدير العام لـ”المركز السوري”، المحامي مازن درويش، إن أوامر الاعتقال هذه هي خطوة نحو المساءلة عن هذه الجرائم وتحقيق العدالة لضحاياها. فيما قال قال المحامي طارق حوكان، مدير “مشروع التقاضي الاستراتيجي” في المركز: “إن هذه القضية رسالة أخرى مفادها، أن الضحايا أنفسهم والمؤسسات المحلية هي الضمانة الأساسية لتحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب للوصول الى سلام مستدام في سوريا”.

ويرى العديد من الحقوقيين والناشطين والسياسيين أن مثل هذه القضايا تفتح المجال، في فرنسا والدول الغربية عموما، لملاحقة كبار المسؤولين في الآلة القمعية السورية. كما تعد هذه الأوامر القضائية خطوة لتضييق الخناق على المتّهمين بارتكاب جرائم حرب في سوريا، فضلا عن أنها تعتبر بمثابة رسالة سياسية واضحة لكل من يريد “التطبيع” مع حكومة مثل حكومة دمشق، سجلها القضائي مشوه ومليء بالعقوبات والدعاوى القضائية اليوم.

ما التفاصيل؟

وفق المركز الحقوقي النشط في المشهد السوري، فإن هذه القضية تعتبر الأولى لجهة التعامل مع جريمة استهداف منشآت مدنية واستخدام أسلحة عشوائية الأثر كالبراميل المتفجرة كجريمة حرب. وبتاريخ 7 حزيران/ يونيو 2017، قامت طائرة حوامة تابعة للقوى الجوية السورية، بإلقاء برميل متفجر على مبنى مؤلف من ثلاث طوابق في منطقة طريق السد في مدينة درعا، تعود ملكيته للمواطن السوري والذي يحمل الجنسية الفرنسية، صلاح أبو نبوت ما أدى إلى مقتله.

وضم المبنى المستهدف مدرسة للأطفال وهي مدرسة السد “أجيال” التي كانت تدار من قبل منظمة غير حكومية أردنية. وكان السيد صلاح أبو نبوت قد تعرض للاعتقال في نيسان/ أبريل 2013 حتى صيف عام 2015 عندما أطلق سراحه من سجن عدرا، وغادرت عائلته إلى الأردن ثم إلى فرنسا خلال فترة اعتقاله.

وأسهم “المركز السوري” بتزويد قضاة التحقيق بأسماء الشهود، ومجموعة كبيرة من الصور والتسجيلات المصورة التي وثقت تفجير 7 حزيران/يونيو 2017 في درعا، بالإضافة إلى معلومات أساسية عن التسلسل القيادي للقوات الجوية السورية، وقوات الحكومة السورية، وآلية صدور وتسلسل تنفيذ الأمر القتالي في سلاح الجو السوري.

وقدمت إلى القضاء دراسة خاصة حددت فيها نوع الطائرة التي نفذت الهجوم، وهي مروحية “ME” روسية الصنع، والمطار الذي أقلعت منه، كما حددت نوعية الأسلحة المستخدمة خلال الهجوم وهي “البراميل المتفجرة”.

ولم تكن مدرسة “أجيال” المدرسة الوحيدة التي تم استهدافها في درعا في ذلك الوقت، حيث تعرضت سبع مدارس أخرى لقصف طيران الحكومة السورية وبدعم من روسيا، ما أدى لمقتل عدد من التلاميذ كما تظهر بالصور والفيديوهات، طبقا لـ”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”.

قضايا ومذكرات سابقة

هذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها القضاء الفرنسي بإصدار مذكرات اعتقال بحق ضباط ومسؤولين في حكومة دمشق، فقد أصدر القضاء الفرنسي عام 2018 مذكرات توقيف بحق ثلاثة من المسؤولين الأمنيين السوريين رفيعي المستوى، هم اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني، واللواء جميل حسن مدير إدارة المخابرات الجوية، والعميد عبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية، وذلك لتورطهم في ارتكاب جرائم تعذيب وإخفاء قسري وقتل كل من مازن وباتريك الدباغ والتي تعتبر جرائم ضد الإنسانية.

المتهم، علي مملوك رفقة بشار الأسد- “إنترنت”

وحدّد القضاء الفرنسي شهر أيار/مايو 2024 موعدا لمحاكمة هؤلاء المسؤولين الثلاث، وستكون هذه المحاكمة التي كشفت صحيفة “ذا ناشونال” الإماراتية بداية مواعيد انعقادها مؤخرا، أول محاكمة في فرنسا تختص بجرائم ضد الإنسانية ارتُكبت في سوريا. وتفيد المعلومات بأنه سيُحاكم غيابيا كلّا من هؤلاء المتّهمين.

هذه القرارات الفرنسية تأتي كرسالة سياسة شديدة اللهجة ردا على محاولات إعادة تعويم الحكومة السورية، خاصة وأن علي مملوك، ورد اسمه مؤخرا كمسؤول عن ملف “التطبيع” بين دمشق وبعض الدول العربية، وقد التقى العديد من مدراء المخابرات للدول الراغبة في إعادة العلاقات مع دمشق، وأبرزها تركيا.

في حال إصدار مذكرة اعتقال من قبل المحاكم الفرنسية ضد هؤلاء المتهمينَ، فهذا يعني أن ذهاب أيّا منهم إلى دولة موقعة على معاهدة ثنائية مع فرنسا على أية معاهدة تتعلق بتسليم المجرمين للعدالة، سيعني بالضرورة إمكانية المطالبة باعتقالهم عبر الإنتربول الدولي.

الحكومة السورية مستهدفة بعدّة ملاحقات قضائية في أوروبا وخصوصا في ألمانيا وفرنسا، فقد أعلنت محكمة العدل الدولي قبل نحو 4 أشهر، أن كلّا من هولندا وكندا رفعتا قضية على الدولة السورية بخصوص التعذيب والمعاملة اللاإنسانية في السجون، بناء على نطاق “اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، حيث أن سوريا تعتبر جزءا من هذه الاتفاقية التي تم توقيعها عام 1984.

اللافت، وفي ظل تعاظم التضخم في سوريا وتدهور اقتصادها يوما بعد يوم، أقرّت “محكمة العدل الأوروبية” حُكمين غيابيَين ضد حكومة دمشق، وذلك بسبب دعوتين تقدّم بهما “بنك الاستثمار الأوروبي” (EIB)، من أجل تحصيل القروض غير المسدّدة، والتي يعود تاريخ الحصول على بعضها إلى عشرين سنة وأكثر.

ويأتي الحُكمان، وفق ما تناقلته تقارير صحفية، بعد انتهاء المُدّة الممنوحة للحكومة السورية للدفاع عن القضايا المرفوعة ضدها أمام المحكمة الأوروبية. وبموجب القرار الذي تم تسليمه إلى لوكسمبورغ بتاريخ 18 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، يُلزم “الجمهورية العربية السورية” بسداد مبلغ 28,777,508.71 يورو إلى الاتحاد الأوروبي، ممثلا “ببنك الاستثمار الأوروبي”، ويمثل المبالغ الأصلية والفوائد التعاقدية والتّخلف عن السداد المستحقة في 30 حزيران/يونيو 2022.

بالنظر إلى أن العقوبات ومذكرات الاعتقال الدولية والدعاوى الدولية تحاصر الحكومة السورية من كل حدب وصوب، وكل ذلك وسط مجموعة من الأزمات التي تعاني منها دمشق، لا سيما الأزمة الاقتصادية الخانقة، يبقى التساؤل الأهم في هذه المعادلة، “كيف ستعوض الحكومة السورية وتبرر كل هذه الدعاوى القضائية المرفوعة ضدها، وكيف سيتم رفع هذه العقوبات والدعاوى المالية والديون الضخمة المترتبة عليها”. الاحتمال الأقرب للواقعية، فإن دمشق ستتحول إلى دولة منبوذة أكثر مما هي عليه الآن، ومع مرور الوقت وتتالي الأزمات وتفاقمها، قد تهدد مستقبل حكومة دمشق السياسي.

دمشق تتملص من جرائمها!

في المقابل، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي، مرسوما يقضي بإنهاء عمل المحاكم الميدانية العسكرية وإحالة القضايا الراهنة إلى القضاء العسكري، وذلك بعد نحو خمسين عاما على استحداثه. وواجهت هذه المحاكم انتقادات واسعة، خاصة مع بداية عامي 2011-2012، في خطوة قابلها الناشطون بحذر، في انتظار توضيح حجمها.

منظمات حقوقية ترى أن هذه المحاكم الميدانية تعمل خارج نطاق قواعد ومبادئ النظام القانوني السوري، بالإضافة إلى اعتبارها مخالفة للقانون الدولي لأنها تعارض استقلال القضاء والفصل بين السلطات، كما تنتهك هذه المحاكم حرمة حق الدفاع، إذ لا تقبل أحكامها أي طريق من طرق الطعن، ولا يستطيع المتّهم توكيل محامٍ.

هذا القرار الذي أصدره الأسد مؤخرا، يراه مراقبون أنه محاولة جديدة لتلميع صورته دوليا، وخطوة ربما جاءت لامتصاص غضب الشارع السوري، مع تصاعد الاحتجاجات في جنوب سوريا المطالبة بتغييرات سياسية، حيث ما تزال تشهد مدينة السويداء موجات احتجاجات واسعة، تطالب بإنهاء السلطات الحاكمة في دمشق.

ويعبر المحامون عن قناعتهم بأن الدافع وراء اتخاذ هذا القرار هو إخفاء الأدلة على تورط “الأسد ونظامه” في جرائم ضد الإنسانية، مستدركين ذلك بالقول “محاكم الميدان العسكرية هي المحاكم التي استخدمها الحكومة السورية من إنشائها عام 1968، لقمع المعارضين وتطبيق المرسوم الخاص بمناهضة أهداف الثورة ومناهضة السلطة الاشتراكية”.

كما وأصدرت هذه المحاكم أحكاما ضد ألاف الناس منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، مثل أمامها ناشطون سياسيون، وكان يحال عليها كل المتهمين بالمرسوم 41 الخاص بالانتماء لتنظيم “الإخوان المسلمين”، وهي محكمة استثنائية تستغرق المحاكمة أمامها دقيقة أو دقيقتين، ذلك إن الحكم جاهز، ويقتصر الأمر على الإتيان بالموقوف لتلاوة الحكم عليه، طبقا للمحامي السوري.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات