ظروف محلية وأخرى خارجية تؤدي إلى تكيّف التنظيمات الإرهابية وإعادة تموضعها، ومنها تنظيم “داعش” الإرهابي الذي تصاعدت وتيرة نشاطه خلال 2023 في سوريا والعراق بالمقارنة مع العام الفائت بنسبة 49 بالمئة، وفق تقرير  لـ”الأمم المتحدة” منسوب إلى لجنة متابعة تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، حيث جاء في فقرتها /2 ب 41/، أنه اتبع استراتيجية زرع الألغام والعبوات الناسفة وغيرها من مخلّفات الحرب، وأنه لا يزال يشكّل تهديدا قويا ومستمرا بسبب هيكله اللامركزي وقدرته على تنظيم هجماتٍ معقّدةٍ، وأنه موجود بشكل حيوي وعملياتي ومستمر في الاحتفاظ بقدرات قتالية رغم فقدِه لزعمائه المؤسّسينَ.

على نفس الخُطى لا يزال تنظيم “القاعدة” يحتفظ بتنظيمات قريبة وحليفة وأخرى شريكة في نفس الأهداف، مثل “هيئة تحرير الشام”، أو “حرّاس الدين” وغيرها، بل ويمتلك حماية إقليمية تمنحه الاستمرار والدعم والبقاء في دولةٍ مثل سوريا.

داعش.. تطورات سلبية

لقد دفعت بعض التطورات إلى استمرار كلا التنظيمين في سوريا والعراق، وأولى تلك التطوّرات بكل تأكيد هي أن المنطقة المركزية التي يتواجد فيها التنظيم، لا تزال تعاني من الصراعات السياسية والتوترات الإقليمية، مما أدى إلى مشهد أمني داخلي ممزّق أعطى مساحة لميليشيات مدفوعة الأجر من بعض الدول، وتنظيمات إرهابية تؤثر على المنطقة بالكامل.

ويحاول تنظيم مثل “داعش” استغلال جماعات السلفية الجهادية والتنظيمات الموجودة في سوريا، وفي الأغلب تواجد أغلب القادة المؤثرين في الأماكن التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام”، والدليل هو مقتل ثلاثة من قيادات التنظيم في المنطقة التي تحيط بدير الزور وإدلب. 

أحد سجون مقاتلي “داعش” في شمال شرقي سوريا- “إنترنت”

ولا تزال دول إقليمية، مثل تركيا، تمثّل ملاذا آمنا لعناصر منظّمينَ من هذه التنظيمات، وأخرى داعمة لها، خاصة في الشريط الذي تسيطر عليه قواتها في مدينة أعزاز وغيرها، ما يؤثر تأثيرا واسعا على عموم المنطقة بسوريا والعراق، وتأثير ذلك على المسار الأمني في الإقليم بالكامل.

ومع الأحداث التي جرت في قطاع غزة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، يتوقع أن يُترك المجال للجماعات الإرهابية لكي تعود وتهاجم القوات الأميركية وغيرها، وهذا ما ظهر جلّياً إذ نشر تنظيم “داعش” إصدارا مرئيا، من إنتاج “مؤسسة البتار” الإعلامية، بعنوان “يا أهل فِلِسطين، هذا الحَلُّ الوَحِيْد”، اعتبر فيه أن الجهاد هو الطريق الأوحد لتحرير فلسطين، وأن هذا الجهاد لا يجوز شرعا خلف فصائل مرتدة، معتبرا أن تسع رصاصات للمرتدين وواحدة فقط للكافرين، وأن كل الفصائل التي تحارب في قطاع غزة وعلى رأسها “حماس والجهاد الإسلامي” هي منحرفة عن الطريق القويم للعقيدة الإسلامية، وأن الحل الوحيد لـ”تحرير فلسطين” يكمن في مبايعة أمير التنظيم، ثم قتال المرتدين أولا، لأن مَكمن المشكلة هو فقط في الحُكّام والشعوب المرتدة، كما أن القتال الحقيقي يبدأ من داخل الدول العربية، بل وسمى بعضا منها، وهي مصر وسوريا والعراق، وبعض دول الخليج.

وفي اليوم الثالث لعملية حركة “حماس” ضد إسرائيل، أعاد “داعش” رفع إصدار بعنوان: “صنم القضية الفلسطينية”، تحدث فيه عن حكومات الدول العربية والغربية، وقال “إن أطعتموهم إنكم لمشركون، وإن القضية الفلسطينية أصبحت مثل صنم يعبد من دون الله، وإن على الشعوب ألا تتبع حكامهم، لأنهم خوارج مارقين”، وفق التنظيم، وأن المعادلة الحقيقية لتحرير الأرض هي “تشكيل جيوش إسلامية جديدة”، وأن إعلان الخلافة جاء وفق هذه الخطة، ليواجه دعاوى الانتصار لقطعة أرض، بل الانتصار للدين ذاته.

استفادة إيران وروسيا وتركيا من “داعش”

وتتعدّد وتتداخل الأسباب التي تجعل من سياسات بعض الدول حواضن للإرهاب في سوريا والعراق، حيث أصبحنا أمام عدد من الحالات، أهمها حواضن الدعم المالي واللوجستي، واتضح ذلك جليا في إرسال الأموال وشحنات الأسلحة وغيرها من الأدوات التي تساعد التنظيمات الجهادية في التحرك، وحواضن صناعة الميليشيات وتدريبها.

وقد اتضح ذلك أيضا في سوريا عبر إرسال الآلاف من المقاتلين مدفوعي الأجر، وتنظيمهم في أكثر من 30 فصيلا إرهابيا، وهو ما يُعرف بحواضن الملاذات والتدريب والانتقالات للإرهابيين، ومثّلتها بوضوح تركيا، التي كانت في فترة من الفترات تنقُلهم بكامل علمها، وتسمح لهم بالمرور.

يرى الكاتب أحمد الخطيب، المختص في الإسلام السياسي ورئيس قطاع الثقافة بالشركة المتحدة للإنتاج الإعلامي، أن هناك بعض الدول التي صنعت حواضن التوتر، بل وتستمر في الدفع من أجل عدم إنهائه، في دولةٍ مثل سوريا أو العراق، الذي يعاني أيضا، ما يجعل من ذلك سببا من أهم أسباب استمرار كلا من “داعش والقاعدة”.

يضيف أحمد الخطيب لموقع “الحل نت”، أن إيران على سبيل المثال تستفيد من وجود “داعش” لإعطاء مبرّر لانتشار الميليشيات التابعة لها في منطقة البادية وللحشود العسكرية التي  تجمعها في سوريا، الأمر يفسّر تحرّك قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإيراني” إسماعيل قاآني في سوريا (وقيل في لبنان أيضا)، ولأن كثيرا من الشُّبهات تدور بشأن علاقة ملتبسة بين التنظيم الإرهابي ومخابرات دمشق وطهران، فإن تحرّك “داعش” الذي على الرغم من امتلاء المنطقة بميليشيات طهران، يؤكد كيف يتم صناعة الحواضن للإرهاب.

تستفيد موسكو كذلك مثل دمشق وطهران من وجود “داعش والقاعدة” لكي تُربك الحسابات الأميركية، وفي إعادة خلط الأوراق في ظلّ تراجع قدرات القوى العسكرية الروسية في سوريا.

على نفس المنوال تستفيد موسكو كذلك مثل دمشق وطهران من وجود “داعش والقاعدة” لكي تُربك الحسابات الأميركية، وفي إعادة خلط الأوراق في ظلّ تراجع قدرات القوى العسكرية الروسية في سوريا، التي سُحب أفضلها صوب أوكرانيا، وبشكل مباشر أو غير مباشر تستفيد تركيا من ضغوط يمارسها تنظيم “داعش” ضد القوات السورية في المنطقة وانتشار ميليشيات إيران داخلها، على خلفية عودة التوتر في علاقة أنقرة ودمشق.

وضمن السياق نفسه، سنجد أن وجود عشرات التنظيمات الحليفة والشريكة للقاعدة والسلفية الجهادية، تمنح التنظيم المركزي لـ”القاعدة أو داعش” أيضا فرصة ذهبية للتحرك وإعادة تشكيل البقايا الهاربة والخلايا السّرية النائمة، حيث رأى الباحث المختص في الإسلام السياسي أحمد بان، أن غياب التنسيق الأمني الواضح بين العراق وسوريا أدى إلى خلق مساحة تحرّك على الحدود بين الدولتين، وخلق مراكز عبور رئيسية للمجموعات الإرهابية الكامنة، لذا فلا يزال “داعش” منتشرا في ملاذات آمنة توفّر له الاختباء والتخفي عن أنظار القوات الحكومية العراقية والحشد الشعبي في محافظتَي الأنبار ونينوى وأقسام من كركوك وديالى وصلاح الدين في العراق، بالإضافة إلى مراكزَ داخل سوريا في البادية السورية وأقسامٍ من محافظات دير الزور والرقة والحسكة والسويداء، تؤمن التخفي عن أنظار القوات السورية وكذلك “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.

سُبل المجابهة

لكي يتم مجابهة الأخطار الناجمة لاستمرار “داعش والقاعدة” بسوريا، يرى الباحث المختص في الجماعات الإرهابية أحمد بان في تصريح خاص لموقع “الحل نت”، أن تدهور بنية الدولة الوطنية والفجوة في مطالب الشعوب والحكومات، والتناقضات المحلية والإقليمية، يصبّ في سردية الجماعات الإرهابية، ولكي تنتهي هذه السردية لا بدّ من وجود تنسيق على مستوى عالٍ حول تلك التنظيمات والميليشيات وعن نقاط الضعف والقوة لديها، والتنسيق في اعتراض مراسلاتها، وجمعها وتحليلها، ثم تقييمها، للوصول إلى التنبؤ بشأن ما يمكن فعله، خاصة ما يتعلق بطرق التجنيد والانضمام، وأماكن التدريب، والمرجعيات الفكرية ومصادر التمويل والتسليح والدعم اللوجستي، والخلفيات الاجتماعية والقَبَلية للعناصر والقيادات وحلّ الأزمة السورية، وطرد المقاتلين الأجانب أو تسليمهم.

الأهم وفق أحمد بان، هو الاتفاق على مرجعية لمكافحة الإرهاب، تضمن عدم دعم هذه التنظيمات، وعدم توظيفها واستغلالها سواءً في المشكلات السياسية أو النزاعات الحدودية، وعدم توفير بقع تمركز آمنة لها.

الخلاصة، أن هذه الحواضن السابقة الداعمة للإرهاب تحقّق عدداً من المنافع، ومنها: تحقيق مصالح اقتصادية، مثل ملف الغاز والماء، واستغلاله من أجل ترسيم الحدود، وتحقيق مصالح سياسية، وهذا يتضح في العراق تحديدا من قبل إيران، التي تستفيد من التوتر الحاصل، ويتضح في سوريا وتحديدا من قبل تركيا، وهذا في الوقت  ذاته يعطي فرصة غير مسبوقة لـ”داعش والقاعدة” باستغلال السيطرة الإيرانية والطائفية للتمدد.

ومن أجل مجابهة مشكلة تواجد “داعش والقاعدة” في العراق وسوريا، لا بد من دعم الجهود الوطنية وإنهاء التوترات السياسية، و يستلزم قيام كل دولة بإعادة ترتيب أوراقها للتعامل مع الموقف وفق قدراتها وإمكانياتها وحجم الظاهرة وأعداد عناصرها المتورطين مع التنظيمات، واستخدام الأدوات والآليات المناسبة، وفق المعايير القانونية والقبول المجتمعي والحالة الاقتصادية، وبما لا يخلّ بالأمن والسلام الاجتماعي وحقوق الإنسان.

مخيم الهول الذي يضم عوائل معتقلي “داعش” في شمال شرقي سوريا- “AFP”

وكذلك وضع حلٍّ عاجل وسريع لمشكلة العناصر السجينة لدى “قوات سوريا الديمقراطية” ولا سيما في مخيمي “الهول وروج”، بعودتهم إلى بلدانهم الأصلية، ومكافحة خطر العائدين، ومشكلات الاستقطاب والتجنيد، واستغلال العاطفة الدينية، وفق استراتيجية تقوم على محاور علاجية ووقائية وتفكيكية لهذه التنظيمات الإرهابية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة