إن أنشطة إيران في الشرق الأوسط طائفية بطبيعتها، وليس هناك شك في أن إيران متورطة بشكل كبير في صراعات اليوم في العراق وسوريا ولبنان، سواء من خلال إشعال الصراعات الطائفية أو تجارة المخدرات أو تهريب السلاح. 

إن نطاق النشاط الإيراني في اليمن أكثر غموضاً وأكثر إثارة للجدل، لكن إيران لا تفعل الكثير لإخفاء دعمها لـ”الحوثيين” الشيعة الزيديين وحركة “أنصار الله” التابعة لهم. وحقيقة أن حلفاء إيران في هذه الصراعات هم من غير السّنة والذين إما يشتركون في نفس العلامة التجارية الشيعية مثل قادة إيران (حزب الله اللبناني والميليشيات العراقية) أو يتماثلون مع أشكال أخرى من الإسلام الشيعي (العلوية في سوريا والزيدية في اليمن) هي أيضاً حقيقة ليس موضع شك. 

فمثل هذه الجماعات وما تقدّمه إيران من دعم غير محدود لها وهذه الروابط القوية بها تعطي سياسة إيران زاوية طائفية واضحة. والحقيقة أن السياسة الإيرانية لا ولن تكفي بما وصلت إليها الأوضاع السياسية وغير السياسية من تدهور وانحطاط تحت شعار الدّين والدفاع عن الأقليات في كل وطن تطأ عليه بقدمها من العراق وسوريا واليمن أكثر الأمثلة على فساد السياسة الإيرانية الطائفية. 

تحاول إيران ومنذ عقودٍ عديدة الدخول إلى حيّز المملكة الأردنية وفعل ما فعلت في غيرها من بعض شعوب المنطقة العربية. وخطة إيران في التمدد إلى دول الجوار تعتمد على ثلاثة قوائم لا بديل عنهم هم “المخدرات والسلاح والمدّ الشيعي”.

تسلل طهران للحدود والعقائد  

شهدنا خلال الأمس القريب بحسب صحفية “الشرق الأوسط”، استمرار محاولات التسلل عبر الحدود دفع القوات المسلحة الأردنية لزيادة القوة العسكرية المستخدمة، خصوصاً في ظل الظروف الجوية في المنطقة الحدودية، وتنفيذ عمليات التهريب خلال ساعات الليل التي تشهد فيها الحدود الشمالية ضباباً كثيفاً.

الأسلحة والمخدرات التي ضُبطت (القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي)

فقد توافرت معلومات عن موعد عمليات تهريب مخدرات تنفذها ميليشيات محسوبة على فصائل إيرانية وأخرى تابعة لـ”حزب الله” اللبناني، وميليشيات مدعومة من الجيش السوري، أُريد لها أن تكون متزامنة بهدف تشتيت قدرات قوات حرس الحدود، لكن بعد المتابعة والرصد تمكّن الجيش من التعامل بحسم بمواجهة المخطط. 

فعمّان أبدت انزعاجها في أكثر من مناسبة من عدم إيفاء الجانب السوري بالتزاماته العسكرية والأمنية على الحدود، وأن الحدود باتت محمية من جانب واحد، في حين ترى مراكز قرار أمنية “أن عدم جدّية دمشق في وضع حدٍّ للميليشيات داخل أراضيها، هو الوجه الآخر لها التي تسعى لتصدير أزماتها باتجاه دول الجوار”. 

ولكن الأمر لا يقف عند محاولات اختراق الحدود من المليشيات الإيرانية للأردن لتهريب السلاح أو المخدرات، وإنما هناك ما هو أكثر خطورة من ذلك هو اختراق العقائد والعقول من خلال محاولات إيران غير المنتهية لتسلل الأرض الأردنية عن طريق المدّ الشيعي. 

ففي عام 2004 كان العاهل الأردني الملك عبدالله، الذي تستضيف مملكته أكثر من 700 ألف لاجئ عراقي، أول من أطلق التحذير من “الهلال الشيعي” في المنطقة العربية الذي سيساعد إيران على توسيع قوتها ونفوذها الإقليميين. 

والخطورة في المدّ الشيعي تكمن في كما ناقش حسني مبارك ذات مرة “الشيعة في المنطقة أكثر ولاء لإيران من ولائهم لبلدانهم”، وهو ما يوضح مدى قلق النُّخب العربية من النفوذ الشيعي الإيراني على الناس العاديين في بلدهم؛ وبالتالي هنا يمكن توجيه الناس واللعب بعقولهم خلال العزف على وتر الطائفية الملتهب ومن ثم يسهل السيطرة عليهم وخداعهم وتضليلهم باسم الدين. 

ساهم الوضع السياسي في المنطقة في التّحول إلى المذهب الشيعي في الأردن،  فقد أعجبت شرائح واسعة من المجتمع الأردني بأداء “حزب الله” في حربه مع إسرائيل عام 2006. وقد خضع بعض الأردنيين الذين تأثروا بذلك إلى “تحوّل سياسي” إلى المذهب الشيعي، أعقبه فيما بعد تحوّل ديني. 

وكان معظم هؤلاء المتحوّلينَ من سكان مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وخاصة في ضواحي عمان. وكان من بين المتحولين أيضاً عدد من الأردنيين الذين ينتمون إلى عائلات بارزة من السلط والطفيلة والبادية، وحاليا تنتشر بصورة كبيرة على منصة “تيك توك” قنوات باسم “المتشيع الأردني” أو “التشيع في الأردن”. 

هنا يرى المراقبون أن إنجازات “حزب الله” النفسية والمعنوية في ذلك الوقت تم استغلالها في الأردن. وقد تلقى التشيع دفعة بفضل “الانتصار الإلهي” على إسرائيل ومكانة حسن نصرالله الجديدة كبطل بين الجمهور العربي. وقد شجع هذا أيضاً الشيعة العراقيين في الأردن على التحدث بصراحة عن عقيدتهم وتعزيز الادعاء بأن “حزب الله” كان بعون الله في حربه ضد إسرائيل.

استراتيجية طهران للتشيع

ولتحقيق أهدافهم الطموحة، تبنّى الإيرانيون استراتيجية ذات شقّين: تحويل المسلمين السنة إلى المذهب الشيعي، وتوطين الشيعة من الدول المجاورة. وركزت الحملة على الطبقة الوسطى والسّنة الفقراء في مناطق مختلفة في جميع أنحاء دول الجوار مع طهران أو مع كل الدول التي تحتاجها أو ستحتاجها إيران فيما يخدم مصلحتها، وخاصة في المناطق التي تعتبر ذات أهمية استراتيجية وديموغرافية لطهران. 

الشيخ الشيعي الحبيب يحيي يستضيف أردنية في أحد برامجه للإعلان عن تشيعها – إنترنت

وخلافاً للاعتقاد الشائع، فإن تحويل السّنة إلى المذهب الشيعي الاثني عشري أسهل من تحويل العلويين. فالسّنة محافظون بطبيعتهم، لكنهم أيضاً يقدسون علي بن أبي طالب. كما أنهم يعترفون بأحداث شيعية محورية ويشتركون في العديد من معتقدات المذهب رغم اختلافهم عن الشيعة في التفسير والتفصيل.

يقول أحد رجال الميليشيات من لبنان: “لن نصبح بعد الآن ماسحي الأحذية وكنسيي الشوارع في الشرق الأوسط”، في إشارة إلى قرون من هيمنة المسلمين السّنة مثل أولئك الذين ما زالوا يحكمون مصر والمملكة العربية السعودية وتركيا وخارجها. 

علاقة الأردن مع المذهب الشيعي معقّدة، وعلى الرغم من الإشارات العرضية تجاه التعددية، فقد رفضت الحكومة السماح ببناء مساجد شيعية للطائفة الشيعية الصغيرة في البلاد. وهناك أسباب سياسية بالإضافة إلى أسباب دينية للمقاومة: فالشيعة هي الطائفة الإسلامية المهيمنة في إيران، والتي تتمتع بنفوذ في لبنان، جارة الأردن، من خلال رعايتها لجماعة “حزب الله” الإسلامية. 

ومن شأن تعزيز الوجود الشيعي في الأردن أن يوفر لإيران موطئ قدم داخل حدود الأردن؛ إلا أن هذا المشهد المركّب يعني أننا أمام  معادلة صعبة تتكون من طرفَين يعرف كلّ منهما الآخر، طهران بطموحها غير المحدود في السيطرة والنفوذ حتى لو تحت شعار زائف ، والمملكة الأردنية التي تحاول المحافظة على حدودها وأمنها الداخلي، فلا طهران تتراجع عن محاولاتها، ولا عمّان تغفل هذه المحاولات وتقف لها بكل قوة من الأمن القومي والجيش الأردني.  

يشير وزير الإعلام الأردني الأسبق، سميح المعايطة، في حديثه لـ”الحل نت”، إلى أن هناك محاولات إيرانية لاختراق الساحة الأردنية عبر استغلال الموضوع الفلسطيني ومكانته لدى الأردنيين، وأيضاً كانت هناك محاولات عبر إقناع الأردن بما يسمى السياحة الدينية إلى مقامات الصحابة في جنوب الأردن وخاصة مقام جعفر علي بن أبي طالب رضي الله عنه باعتباره ابن عم الرسول.

لكن الأردن ومنذ حوالي ثلاثين عاما رفض كل العروض الإيرانية لأنه كان يدرك أن الأمر محاولة لاختراق الساحة الأردنية أمنياً. لكن الأزمة السورية منحت إيران فرصة كبيرة بتواجد ميليشيات تابعة لها داخل سوريا قرب حدودها مع الأردن خاصة بعد تراجع حضور القوات الروسية في سوريا والتي كانت في مناطق الجنوب السوري، وفق المعايطة.

ولهذا نشطت محاولات الاختراق ومحاولات تهريب المخدرات والسلاح والتي تتم بحماية ميليشيات تتبع لإيران. والأردن ومنذ عشرات السنين يدرك ما تعمل إيران من أجله، ويغلق الباب بحزم سياسيا وأمنيا وعسكريا، لأنه ليس مثل دول أخرى فيها حاضنة اجتماعية لإيران. 

بين تأثير الدين والتداول غير المشروع

هناك سؤال واضح: لماذا أولت الأجهزة الأمنية الأردنية مسألة التشيع والتحول إلى المذهب كل هذا الاهتمام؟ في الواقع هناك عدد من الأسباب.

المخدرات والسلاح والمد الشيعي خطة إيران لنشر نفوذها في الأردن (1)
العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني يحضر قمة جدة للأمن والتنمية (GCC+3) في فندق بمدينة جدة الساحلية على البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية، 16 يوليو، 2022. (ماندل نجان/وكالة الصحافة الفرنسية)

أولاً: إن التحول إلى المذهب الشيعي فكرة باتت منتشرة على نطاق واسع في الأردن اليوم، فإن حقيقة حدوثه تثير قلق السلطات الأردنية، لأن البلاد ذات أغلبية سُنّية ولم تمسها تاريخياً صراعات طائفية. وتخشى الأجهزة الأمنية الأردنية أن ينمو التحول إلى المذهب الشيعي بشكل كبير ويخرج عن نطاق سيطرتها، وأن يؤدي ذلك إلى تعريض الأردن للصراعات العرقية والطائفية التي تصاعدت في الآونة الأخيرة في العالمَين العربي والإسلامي. 

ويسعى الأردن إلى تجنّب مثل هذه الصراعات بأي ثمن، بعد أن شهد الاضطرابات في العراق وباكستان وأفغانستان وغيرها من البلدان ذات الأغلبية المسلمة. ولعل تلك الأحداث المستمرة في عالمنا العربي تتفق مع ما ذهب إليه أحد مصادر “الحل نت ” وهو رجل شيعي عراقي، قال في حديثه معنا: إن “هذا القرن هو قرن شيعي بامتياز وطهران لن تتراجع خطوة إلى الوراء”.

ثانياً: إن مخاوف عمّان بشأن المذهب الشيعي هي نتيجة لمخاوفها العميقة بشأن النفوذ المتنامي لجمهورية إيران في الشرق الأوسط. ولذا لا تشعر بالقلق فقط بشأن النفوذ الديني المتنامي لإيران، بل بشأن نفوذ إيران السياسي المحتمل على الشيعة والمتحوّلينَ الجدد. 

أحد المجالات التي تثير قلق الأردنيين بشكل خاص هو تنامي مكانة “حزب الله”، بما في ذلك العلاقات التي أقامها مع “حماس” والدعم الذي يحصل عليه من جماعة “الإخوان المسلمين”.

يشعر البعض بالقلق من أنه بسبب نفوذ إيران على هذا التحالف بين “حزب الله” و”الإخوان”، فإن الأخيرة السُّنية قد لا تميل إلى وقف أي موجة مستقبلية من التّحول إلى المذهب الشيعي بين أعضائها العديدين الأردنيين والفلسطينيين، إذا بدأ ذلك في الحدوث. 

ومع ذلك، يعتقد عضو البرلمان الأردني محمد عقل، الذي ينتمي إلى جماعة “الإخوان المسلمين”، أن التحالف لن يؤدي إلى تحوّل واسع النطاق. ويدّعي أن التحول إلى المذهب الشيعي من المرجّح أن يحدث بين الشباب الذين تعتمد معتقداتهم الدينية على العاطفة والذين لم يتلقّوا تعليماً دينياً سُنّياً مناسباً.

التدرج في التحول المذهبي

في حديث خاص مع “الحل نت” مع أحد الأشخاص البارزين في المؤسسة السياسية العراقية، وفي إطار محاولة إيران نشر المذهب الشيعي في المنطقة العربية ذات الأغلبية السّنية قال: إن “الفترات الماضية شهدت محاولات من الوساطة الدولية للتقارب بين إيران والسعودية لأجل تجاوز الخلافات المذهبية والسياسية، فكان ردّ المسؤولين الإيرانيين على تلك الوساطة أن إيران لن ترتاح حتى يكون خادم الحرم الشريف حوثيا”.

الحرب بالوكالة: بصمة إيران المتزايدة في الشرق الأوسط. (تصوير: محمود الزيات/ وكالة الصحافة الفرنسية)

فإلى هذا الحد يأخذ طهران غروها في السيطرة، حيث أصبحت محاولات المدّ الشيعي متغلغلة في المجتمعات العربية، ويوجد اليوم حوالي 20 قناة دينية، تبثّ الخطب والتقاليد الشيعية، مثل (الفيحاء، الأنوار، الكوثر وأهل البيت) ومن أشهر دعاتهم محمد الوائلي، وعبد الحميد المهاجر، هذا غير المواقع على الإنترنت، وبعض البرنامج على “تيك توك” التي تعتمد على إثارة مشاعر الشباب صغار السّن، مما يؤثر بشكل كبير على الرأي العام.

في محاولة تتبّع التّحول إلى المذهب الشيعي، إحدى الصعوبات التي تواجهها قوات الأمن الأردنية هي حقيقة أن عملية التّحول عادة ما تتم على مراحل. الخطوة الأولى في تبني العقيدة الشيعية هي تنمية التعاطف مع فكرة الإمامة الشيعية، أو تأكيد حق آل النبي في قيادة المجتمع المسلم. 

وهذا يشمل الاعتقاد بأن آل النبي تعرّضوا لظلم كبير من الصحابة ومن بعدهم من الدول الإسلامية (خاصة الخلافة الأموية والعباسية) بمعنى آخر، يقبل المتحوّل المحتمل ادعاء الشيعة بأن علي بن أبي طالب كان هو الخليفة الشرعي للنبي وليس أبو بكر أو عمر أو الخلفاء اللاحقينَ المقبولينَ في التقاليد السُّنية. علاوة على ذلك، يعتقد المتحول المحتمل أن أحفاد علي هم القادة الحقيقيون للأمة الإسلامية الذين حُرموا ظلما من مناصبهم وسلطتهم.

أما الخطوة الثانية في تحويل أولئك الذين اقتنعوا بحق علي في الحكم والظلم الذي لحق بذريته، فهي دراسة عقيدة الشيعة وشريعتها الدينية. ويسمى المتحول إلى المذهب “المستنير” أي من رأى الطريق الصحيح وأكد أهمية آل النبي، وحبهم من كل قلبه. 

المستنيرون، الذين ينغمسون في كثير من الأحيان في دراسة كتب الشيعة حول العقيدة والشريعة، يعترفون بأن لديهم روابط روحية حميمة مع حوزة مدينة قم في إيران، ومع المجتمع الأوسع من “المدركينَ” المستنيرينَ الآخرين في العالم العربي. 

أيضا تُعد حوزة “زينب” في دمشق اليوم أحد المراكز الرئيسية للمستنيرين. وهنا يدرسون، ويوثّقون روابطهم مع الشيعة الآخرين في المنطقة، ويحصلون على كتب كتبها أئمة الشيعة والمرجعيات الدينية.

وأخيراً، الشعور بالفراغ السياسي الكبير الذي يشعر به المواطن العربي، حيث سارعت إيران إلى ملء هذا الفراغ من خلال تقديم رسالة سياسية وثقافية شعبية مصممة بعناية إلى عرب الشرق الأوسط، وهذا ما تراهن عليه طهران في براعتها السياسية لاستقطاب زمرة من الفلسطينيين وبعض الساخطينَ في الأردن من أجل وضع قدمها، بالمقابل تدعم تجّار المخدرات والأسلحة على الأراضي الأردنية بمواد من سوريا لتضع المملكة أمام فكّي كماشة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة