مؤخرا أدركت بكين بأن محاولة توسيع تجارتها وتطوير استثمارها بالطريقة التي تتبعها في السنوات القليلة الماضية غير مجدية، خصوصا وأن البلدان التي تنافسها قوية اقتصاديا وتعيش فترة انتعاش اقتصادي وتجاري، وبالتالي لا يمكن لبكين مجاراة تلك الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تتمتع باقتصاد حديدي لا يمكن للصين التفوق عليه أو تحييد واشنطن على أقل تقدير.

الصين بعد أن فشلت في إعاقة تقدم الاقتصاد الأميركي، لجأت إلى التلويح بالمواجهة العسكرية في حال لم تتوقف الولايات المتحدة الأميركية في الاستثمار وتطوير علاقاتها بدول المنطقة وتحديدا جيران الصين مثل تايوان والهند واليابان والفلبين، وبلغت لغة التهديد ذروتها في عام 2022، قبيل قيام رئيسة مجلس النواب الأميركى السابقة، نانسى بيلوسى، بزيارة إلى تايوان، حيث اعتبرتها الصحافة الصينية في وقتها بالخطوة الاستفزازية وبشكل صارخ ضد الصين، وستثير توترا أكثر خطورة من أزمة مضيق تايوان في عام 1996، وستتسبب في انتكاسة كبيرة للعلاقات الصينية الأميركية، إلا أن بيلوسي قامت بزيارة تايوان رغم التهديدات، وحملت رسالة طمأنة لحلفاء الولايات المتحدة مفادها بأن واشنطن أقوى من تهديدات بكين.

قبل ذلك في عام 2021 عملت الولايات المتحدة على إنشاء حلف عسكري يضم كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا يحمل اسم (أوكوس) لحماية مصالح تلك الدول في المحيطين الهادئ والهندي أمام النفوذ الصيني.

إصرار واشنطن على موقفها الحدي تجاه سياسة الحكومة الصينية من خلال وضع الخطط وتشريع القوانين من أجل مواجهة تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للصين، جعل بكين عاجزة عن المجابهة، مما دفعها الى العمل على ترطيب الأجواء مع أميركا.

تخفيف حدة التوترات

الصين التي عجزت عن منافسة الولايات المتحدة، عادت إلى خطاب الدبلوماسية وفتح قنوات التواصل مع الحكومة الأميركية، حيث أجرى الرئيس الصيني شي جين بينغ، قبل أكثر من شهر، زيارة إلى الولايات المتحدة هي الأولى منذ 6 سنوات، والتقى خلال الزيارة الرئيس الأميركي جون بايدن في سان فرانسيسكو في إطار تخفيف حدة التوترات بين أكبر اقتصادين في العالم.

من أهم ملفات الزيارة، كانت الحرب الأوكرانية الروسية وانتخابات تايوان والملف التجاري، خصوصا وأن الصين الداعم الأكبر لروسيا في حربها مع أوكرانيا، بعد أن وجدت موسكو في بكين البديل الاقتصادي لمنتجاتها، عقب تعرضها إلى عقوبات دولية كبيرة.

البيت الأبيض أعلن عبر منصة “إكس”، أن الرئيسين بايدن وشي “أجريا مناقشات صريحة وبناءة بشأن مجموعة من القضايا الثنائية والعالمية وتبادلا وجهات النظر بشأن مجالات الاختلاف”، كما قال بايدن في تغريدة له: “أثمن الحوار الذي أجريته مع الرئيس شي. أحرزنا تقدما حقيقيا”.

الصين هي المنافس الحقيقي للولايات المتحدة الأميركية، وفقا لما تحدث به المحلل الاقتصادي مصطفى حنتوش لـ “الحل نت”، موضحا أن الاقتصاد في الصين يتبع النظام الاشتراكي والمركزية، أما الولايات المتحدة الأميركية فتتبع النظام الرأسمالي وتمكين الأموال، بالإضافة إلى وجود الكثير من التقاطعات بين البلدين مثل التوجهات السياسية ومسألة إدارة الحكم وكذلك قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية.

الصين مدركة تماما لقوة أميركا وتعرف مدى إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والسياسية، لذلك تتعامل بحذر مع الولايات المتحدة وتحاول بكل الوسائل عدم العمل على استفزازها لضمان استمرار العلاقات بين البلدين،وتحاول أيضا ضمان عدم اقتراب واشنطن من مصالحها، بحسب حنتوش.

الهروب من شبح العجز

من الواضح بأن الرئيس الصيني شي جين بينغ، يعيش في وضع غير مريح، حيث يواجه مشاكل اقتصادية جمة وسط خفض في التوقعات بتحقيق النمو المرجو اقتصاديا وارتفاعا كبيرا في معدلات البطالة، في المقابل يعيش الرئيس الأميركي جون بايدن في ظل انتعاش اقتصادي واضح تعكسه أرقام التضخم المتراجعة، ومعدلات البطالة المنخفضة.

الشركات الأميركية أغلبها بدأت في خفض استثماراتها بالصين، أو نقل مصانعها إلى دول أخرى، وهناك بعض الشركات الأميركية التي غادرت بالفعل، مثل شركة إدارة الأصول العملاقة “فانجارد” التي تدير أصولا تزيد قيمتها على 7 تريليونات دولار، لذلك يراهن، شي، على رأب الصدع ومحاولة تغيير المسار الأميركي بشأن الضوابط التكنولوجية القاسية، وإنعاش الصين بالاستثمارات الأجنبية المتعسرة، بعدما سجلت أول عجز في الاستثمار الأجنبي المباشر منذ ربع قرن، وذلك بقيمة 11.8 مليار دولار، خلال الربع الثالث، وهذه ليست علامة جيدة لآفاق النمو الصيني.

من قمة فرانسيسكو – (فرانس برس)

حنتوش يرى، أن الحكومة الصينية لديها أدوات متعددة مثل اتفاقية “بريكس” وتحالفها مع إيران وروسيا وسطتوها على بعض البدان النامية، لكن هذه الأدوات لا ترتقي إلى مواجهة أميركا، كما أنها لا تجد مبررا لاستخدام تلك الأدوات ما دامت قنوات الحوار مفتوحة مع حكومة الولايات المتحدة الأميركية، مؤكدا أن القطيعة كانت من قبل الأميركان وليس من قبل الصين، ردا على تصرفات بكين المزعجة لها، فيما لفت إلى أن الصين تحاول دائما التقرب من أميركا بأي ثمن.

ويرجح حنتوش قيام الرئيس الأميركي بايدن، بفرض شروط قاسية على بكين مقابل عودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها، متوقعا بأن تكون هذه الشروط الكف عن إزعاج حلفاء أميركا في المنطقة وعدم مس مصالحها، كذلك الحرص على عدم دعم روسيا في حربها على أوكرانيا، ناهيك عن شروط تتعلق بقضايا الاتصالات العسكرية وتقنيات الذكاء الاصطناعي والتجارة والمناخ.

انخفاض الاستثمار الأجنبي في الصين بالأرقام

واقعيا، فإن انخفاض أحد مؤشرات الاستثمار الأجنبي في الصين إلى أدنى مستوى منذ نحو أربع سنوات في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، يشير إلى إبطاء الشركات الأجنبية لتوسعاتها بسبب التوترات الجيوسياسية وتباطؤ الاقتصاد.

رأس المال الأجنبي الجديد الذي تلقته الصين بلغ 53.3 مليار يوان (7.5 مليارات دولار) خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم، بانخفاض 19.5 بالمئة على أساس سنوي، بناء على البيانات التي نشرتها وزارة التجارة الصينية، وهو بذلك يسجل أسوأ أداء منذ شباط/ فبراير 2020، عندما تفشت جائحة “كورونا” لأول مرة، فيما أكدت الوزارة في بيان، أنه خلال أول 11 شهرا من العام الحالي، انخفض حجم الاستثمارات 10 بالمئة على أساس سنوي، وذلك بحسب وكالة “بلومبرغ”.

الأرقام التي ظهرت، تشير إلى أن الشركات الأجنبية قامت بسحب أموالها من الصين بالفعل، حيث يسحب المستثمرون أموالهم من بكين بوتيرة قياسية، الأمر الذي يزيد من الضغط على عملة اليوان الصيني، كما خفض الأجانب الاستثمار في المصانع الصينية والمشاريع الأخرى بمقدار 12 مليار دولار في الربع الثالث، وهو أول انخفاض من نوعه منذ بدء السجلات، أما المستثمرون الصينيون، فيقومون باستثمارات خارجية بوتيرة سريعة إلى حد غير عادي ويجوبون العالم بحثا عن صفقات عقارية، في دلالة على الاضطراب الذي ضرب السوق الصيني؛ لأن السكان المحليون غالبا ما يفرون من السوق المضطربة قبل أن يفعل الأجانب.

مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الصين وأميركا

الخبير الاقتصادي، صالح الهماش، يقول في حديث مع “الحل نت”، إن الملف الاقتصادي كان على رأس الملفات، إبان لقاء الرئيس الصيني شي بينغ بالرئيس الأميركي جون بايدن، وهو الشغل الشاغل للدولتين في ظل تباطؤ النمو العالمي، فضلا عن توسع التمدد الصيني في المنطقة، الذي أزعج الولايات المتحدة الأميركية، مردفا أن الصين دولة كبيرة وقطب من أقطاب الاقتصاد العالمي، غير أنها لا تريد أن تدخل بمشاكل مع دول أخرى كبرى، وخاصة مع أميركا.

يفسر الهماش، تجنب دخول الصين بصراعات مع أميركا، لإدراكها بأن دخولها في حرب اقتصادية ستجرها إلى حرب عسكرية تدمر اقتصادها، لذلك تتجنب مواجهة الولايات المتحدة قدر الإمكان، ولذا تحاول الصين “مضطرة” ترطيب الأجواء مع الولايات المتحدة الأميركية لكسب ودها وضمان عدم وقوفها أمام استثماراتها في أوروبا.

تعبيرية – إنترنت

العالم مقبل على عصر جديد من الاقتصاد وهو اقتصاد المعلومات والذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية الذي سيغير الخريطة الاقتصادية في العالم، والصين تحاول أن تجد لها مكانا في هذا المجال لمنافسة الدول الأخرى، وفقا للهماش، الذي يرى أن بكين تبحث عن أسواق لبضائعها واستقرار يساهم في توسيع تجارتها وحماية مسارها البحري وشبكة طرقها البرية التجارية، لذلك أجرى الرئيس الصيني زيارة إلى أميركا بهدف تخفيف التوترات والتهيئة إلى مرحلة اقتصادية مقبلة تضمن عدم تصادم الطرفين، خصوصا وأن الولايات المتحدة الأميركية عملت على إنشاء طريق تجاري جديد مع حلفائها في المنطقة مواز للطريق الذي تعمل عليه الصين.

وتيرة الخلافات بين أمريكا والصين انخفضت بعد زيارة، شي، إلى الولايات المتحدة، وهذا الأمر يساعد على عودة رأس المال الأميركي إلى بكين، لكنه لن يعود إلى سابق عهده؛ لأن أميركا وجدت الهند السوق البديل للصين، خصوصا وأن الاقتصاد الهندي ينمو بشكل كبير، فضلا عن أن الهند تعد حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة الأميركية، بحسب الهماش، الذي يلفت إلى أن هناك عوامل تدفع واشنطن للاستثمار في الهند يجب أخذها بعين الاعتبار مثل توفر الأيدي العاملة وانخفاض التكاليف وتوفير بيئة خصبة وآمنة للاستثمار.

الرئيس الأميركي بايدن من جانبه، يسعى إلى استخدام الدبلوماسية المباشرة مع شي، مراهنا على العلاقات الشخصية التي وطّدها على مدى أكثر من 10 أعوام مع الرئيس الصيني، لذا فإنه في حال اتفق الجانبان على إحياء العلاقة فيما بينهما، فإن الاقتصاد العالمي سيكون في حالة انتعاش وعدم الوقوع في أزمة اقتصادية عالمية مدمرة.

بالمجمل، فهمت الصين مدى صعوبة المضي اقتصاديا عبر تحدي أميركا، وما أزماتها الاقتصادية هذا العام إلا دليل على ذلك، لذا لجأت إلى واشنطن، وهو لجوء بمثابة الرضوخ، لتفادي أي عقبات اقتصادية أخرى مستقبلا وما سيترتب معها من تداعيات، ونجحت واشنطن مبدئيا في جر بكين إلى عباءتها، على أن يكون التنافس الاقتصادي بلا توتر بين الطرفين.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات