طفا على السطح مؤخّراً الحديث عن  تطبيق القرار “1701”، وهو تفعيل منطقة عازلة منزوعة السلاح على الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل وتراجع “حزب الله” اللبناني إلى نهر الليطاني، ولا سيما في ظل العمليات المتقطعة بين الحزب والجيش الإسرائيلي، منذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر العام الجاري.

وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، أكدت الاثنين الفائت، أن قرار مجلس الأمن بشأن لبنان يحتاج إلى تنفيذٍ من الجانبين، وكانت المفاجأة أن “حزب الله” أخذ على عاتقه المبادرة الأولى، إذ كشفت وسائل إعلام إسرائيلية، أمس الاثنين، أن الحزب بدأ بسحب قوات النّخبة لديه، المعروفة باسم قوة “الرضوان”، من المناطق الحدودية بين لبنان وإسرائيل، أي من جنوب لبنان إلى شماله.

على غرار الاتفاق المتوقّع بين “حزب الله” وإسرائيل ورغبة الأخيرة بإعادة إحيائه، تتجه الأنظار نحو فرضية دخول دمشق في مفاوضات هي الأخرى مع إسرائيل، لتأمين حدودها من الجهة السورية أو على الأقل إجبار الميليشيات الإيرانية على الانسحاب من المناطق المتاخمة لتمركز قواتها. 

لا سيما أن هناك اتفاقاً أُبرم بين الروس و نظرائهم الغربيين والإقليميين بخصوص المنطقة؛ يُلزم موسكو بإبعاد إيران مسافة 80 كم عن الحدود مع الجولان، إلا أَنّها لم تلتزم بهذا الاتفاق، وسمحت لإيران بالعمل بحرية في مناطق قريبة من الحدود، ومنحتها إمكانية العمل المباشر في بعض المناطق، الأمر الذي استغلّته طهران في إنشاء مراكزها العسكرية هناك، وتعزيز قواعد عمليات متقدمة للميليشيات التابعة لها وتجنيد الشباب، وزيادة وجودها داخل مؤسسات النظام الأمنية والعسكرية في تلك المناطق.

تطبيق إسرائيل للقرارات مع دمشق

بالنظر إلى احتمالية اتفاق إسرائيلي مع حكومة دمشق خصوصا أن المنطقة الحدودية الجنوبية تعيش مرحلة من عدم اليقين من جهة، والفشل في معالجة الوجود الإيراني من جهة أخرى، فإنه لا يمكن استبعاد استغلال بشار الأسد الدخول في اتفاق مع الجانب الإسرائيلي يأمّن من خلاله حدود إسرائيل عبر تمركز قوات روسية ودولية.

أصبحت سوريا، بعد قطاع غزة ولبنان، المنطقة الثالثة التي تعلن إسرائيل رصد إطلاق صواريخ منها خلال أقل من أسبوع – إنترنت

من خلال الاتفاق الموقّع بين الجانبين السوري والإسرائيلي، يظهر لجوء الطرفين لوجود منطقة عازلة بينهما تختلف أبعادها من نقطة إلى أخرى، إذ تمّ توضيحها بموجب خرائط أُودعت لدى الأمم المتحدة تتمركز بها قوات “اليونيفيل” وعلى جانبي الخطّين المحددين للمنطقة العازلة تم تحديد وجود قوات شرطة حتى مسافة محددة لا يسمح خلالها بدخول أية قوات عسكرية أو أسلحة ثقيلة، وكان خلال العقود السابقة شبه التزام من دمشق إلا من مخالفة تحايل استبدال قوات الشرطة بقوات الجيش وعربات تحمّل لوحات شرطية.

غير أنه وبعد انطلاق الاحتجاجات عام 2011 وتفكّك الكثير من التشكيلات العسكرية خلال مواجهات مباشرة مع قوى المعارضة ومن ثم دخول قوات “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله” اللبناني، وتمركزهم في مواقع وصل بعضها إلى الخط الفاصل بين المناطق السورية وتلك التي تسيطر عليها إسرائيل، وهذه الأخيرة لم تشعر بمخاطرها، إذ لم تعمل على قصفها ما دامت بأسلحتها الخفيفة، فهي لا تشكل خطراً وربما كانت تنظر إليها بإيجابية كخفر حدود، إنما عمدت إسرائيل إلى قصف مراكز الرادار وتوجيه الصواريخ وأماكن تمركز الأسلحة الثقيلة وخاصة الصاروخية التي تحاول هذه الميليشيات استقدامها.

في حديثه لـ “الحل نت”، يرى العقيد والمحلّل الاستراتيجي، مالك الكردي، أنه بعد حرب غزة باتت إسرائيل تشعر بالخطر أكثر من أي وقت مضى باقتراب أية قوات عسكرية أو شبه عسكرية من حدودها وأن تدنى مستوى أسلحتها، لذلك فإنه من البديهي أنها ستقوم بكل ما يمكن لإبعاد مثل هذه القوى إلى مسافات أبعد.

إسرائيل ستبادر أولًا إلى تطبيق القرارات واتفاقيات الهدنة بشكل متشدد وقوي وحاسم وربما تذهب إلى أبعد من ذلك بفرض اتفاقيات جديدة مع الجانب السوري لتحويل مناطق كثيرة من الجبهة الشمالية إلى مناطق منزوعة السلاح، كما لوّحت قبل فترة قصيرة بنموذج مماثل في الجنوب اللبناني، عبر فرض منطقة عازلة داخل حدود لبنان بعمق أربع كيلومترات بعدما قامت هي كذلك بإخلاء مماثل وصل لعمق خمس كيلومترات من جانبها كإجراء لحماية المستوطنين.

العقيد والمحلّل الاستراتيجي، مالك الكردي

“وخاصة أن الحزب يواجه ضغوطًا للالتزام بمنطقة منزوعة السلاح على الحدود مع إسرائيل انطلاقًا من قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الذي عزز انتشار قوة حفظ السلام الأممية اليونيفيل في جنوب لبنان إثر انتهاء حرب تموز 2006 بين الحزب وإسرائيل”، يكمل المحلل الكردي.

الأرض مقابل التغيير الاستراتيجي

التكتيك الإسرائيلي الذي تتّبعه إسرائيل اليوم يبدو أنه يأتي في سياق تحييد المخاطر وفق الأولويات، وبالتالي يرجّح بأن ميليشيا “حزب الله” اللبناني، لن تلتزم بهذه الرؤية المقدّمة لتحييد التصعيد في المرحلة الأولى؛ نظراً لأن الحزب يدرك تماماً بأنه بمجرد حلّ أزمة غزة، فإن الإسرائيليين سيتّجهون للتصعيد معه.

هل تنقل إسرائيل عدوى المنطقة العازلة في الجنوب اللبناني إلى الجنوب السوري؟ (1)
قوات إسرائيلية في الجولان – إنترنت

وبالتالي يستثمر الحزب حالة الضعف والضغط المُمارس على حكومة بنيامين نتنياهو داخلياً وخارجياً بقيامهم بتصعيد متدرج وفق منطلقات إيران في مساراتها التفاوضية مع المنظومة الدولية، فهو يشاغل إسرائيل في اشتباكات متقطعة لكنه بنفس الوقت يحاول جرّها إلى سوريا من خلال مشاغلتها في النقاط العسكرية المتقدمة.

لكن ليس هنالك أدنى شكّ بأن حكومة دمشق غير معنيّة اليوم سوى بالدفاع عن كيانها لأطول فترة ممكنة، ويمكن العودة إلى تقرير نشرته صحيفة “الشرق الأوسط” نيسان/أبريل العام الفائت، عرضت فيه تفصيلياً لكتاب الدبلوماسي الأميركي، فريدريك هوف، الذي عمل بشكل مكثّف مع وزارة الخارجية الأميركية حول سوريا نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي قبل أن يتقاعد ويشغل مناصب عدة في مراكز أبحاث والتدريس الأكاديمي.

وحمل الكتاب عنوان: “بلوغ المرتفعات: قصة محاولة سرّية لعقد سلام سوري- إسرائيلي”،  إذ ذكر فيه ملخصاً لاتفاق سلام سوري-إسرائيلي كاد أن يتم لولا توقف التواصل بسبب اندلاع الاحتجاجات في سوريا، لم تقم على المقايضات السابقة “الأرض مقابل السلام”، أي أن تقوم إسرائيل بإعادة هضبة الجولان السورية مقابل توقيع دمشق اتفاق سلام وإقامة علاقات طبيعية، ولا على معادلة “السلام مقابل السلام”، كما اقترحت أفكار أخرى، بل قامت على مقايضة من نوع آخر: إعادة الأرض مقابل التموضع الاستراتيجي، بأن تعيد تل أبيب الجولان مقابل تخلي دمشق عن تحالفها وعلاقاتها العسكرية مع إيران و”حزب الله” و”حماس”.

دمشق غير قادرة على التفاوض مع الجانب الإسرائيلي، نظرًا للضعف الكبير الذي يعانيه جيشها وعدم قدرتها على ترتيب أوراق القوة التي بقيت في حوزتها وتداعيات استخدامها إيرانيًا والتي باتت واضحة أيضًا من خلال الغارات الإسرائيلية المزدوجة، بحيث كانت الغارات الإسرائيلية تنفّذ عبر مقاتلتين وبرفقة مقاتلتَين متخصصتَين في تقديم الإسناد وللتعامل مع منظومات الدفاع الجوي.

الباحث في الشؤون الإيرانية، مصطفى النعيمي

وحسب حديث النعيمي، لـ”الحل نت”، فإن السلطة السياسية في دمشق اليوم استنزفت وحدات دفاعها الجوية بالضربات الإسرائيلية وأصبحت الكثير من المناطق السورية خارج نطاق تأثير وحدات الدفاع الجوي؛ وبالتالي عسكرياً لا تمتلك أوراق قوة تستثمرها في تحقيق مكتسبات سياسية تضغط بها على إسرائيل.

صياغة التوازن الإسرائيلي واختناق إيران

منذ عام 2011 فضّلت إسرائيل عدم الانجرار إلى الحرب في سوريا ولم تتدخل إلا في حالات التهديد المباشر لأمنها من الجماعات الشيعية الموالية لإيران، وفضّلت ترك معسكري النزاع في سوريا (القوات النظامية والمعارضة)، يقاتلان بعضهما البعض.

هل تنقل إسرائيل عدوى "المنطقة العازلة" في الجنوب اللبناني إلى الجنوب السوري؟
مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل في 5 يونيو 2020، تظهر السياج الحدودي مع محافظة القنيطرة جنوب غرب سوريا. (تصوير جلال مرعي / وكالة الصحافة الفرنسية)

وخلال الخمس السنوات الأخيرة وتحديداً بعد اتفاق التسوية في درعا جنوب سوريا 2018، غيّرت إيران من استراتيجية تموضعها تفادياً للضربات الإسرائيلية، والتي استطاعت إلى حدّ ما إبعاد نشاطات الأذرع الإيرانية عن حدود الجولان.

وحسب تقرير أصدره موقع “واللا” الإسرائيلي، في شباط/فبراير 2021، فإن الجيش الإسرائيلي يخوض حرباً سرّية لمنع تحويل جنوب سوريا إلى نسخة شبيهة بجنوب لبنان، فيما وصف التقرير الوضع في الجنوب السوري بالمعقّد نتيجة تضارب مصالح عدة قوى، ما بين بيروت ودمشق وطهران وموسكو.

فالإيرانيون يريدون السيطرة على المنطقة، من أجل إقامة قواعد عسكرية لتهديد إسرائيل، أما “حزب الله” وكيل طهران وخادمها في لبنان هدفه استخدام الأرض السورية ضد الجيش الإسرائيلي من دون أن يضطر إلى دفع ثمن في لبنان، أما بشار الأسد فهو مقيّد بين الرضوخ للإيرانيين الذين حموا نظامه ومنعوه من السقوط وبين رغبته في استعادة سيطرته على كامل الأراضي السورية.

ويبدو أن موقف حكومة دمشق بات يضعف يوماً بعد يوم أمام احتمالية تفوّقها في أي محاولة تفاوض أو اتفاق مع الجانب الإسرائيلي، في ظل خروج الجنوب السوري من يدها عموماً من حيث تحكّم ميليشيات إيران المطلق بالمنطقة هناك، والاحتجاجات الشعبية التي تشهدها السويداء وحالة الفلتان الأمني المتصاعد في درعا، والاستياء الإقليمي من ملف المخدرات العابرة لأسواق الخليج عبر حدود الأردن وما رافقها من تصاعد نبرة الاستياء الأردني من عدم قدرة دمشق عن ضبط العصابات المنظّمة وتعاميها عن التوتر المسلح على الحدود.

محور إيران يختنق تدريجيّاً من خلال ما تمارسه المنظومة الدولية عليه من ضغوط، وذلك من خلال منعه من تصدير المخدرات والتي تعتبر شريان الحياة الذي يموّل اقتصاد الظّل للمحور الإيراني في المنطقة العربية، وما شكّلته من مخاطر على حدود الأردن الشمالية. 

الباحث في الشؤون الإيرانية، مصطفى النعيمي

فضلا عن انتقال التكتيك من تهريب المخدرات إلى تهريب المتفجرات وصولًا إلى الاشتباك المباشر مع حرس الحدود الأردني وتداعيات مقتل عنصر أردني وإصابة مجموعة من العناصر والعمليات الجوية الأردنية التي نفّذها سلاح الجو الأردني واستهدف مستودعات وتجار المخدرات في منطقة صلخد بالسويداء، وما سينجم عن الانتهاك بحق المملكة من تغيير مستمر لقواعد الاشتباك التدريجي مع تلك الميليشيات المدعومة من طهران و بغطاء مباشر من قبل دمشق.

ويمكن القول أن البراغماتية التي يتمتع بها بشار الأسد تجعله يلعب بالأوراق المتاحة بين يديه مع الجانب الإسرائيلي لا سيما أنه ومنذ تسلّم والده زمام الحكم في سوريا لم يعد خافياً على أحد ارتباطه العضوي بإسرائيل، فضلاً عمّا يمثّله التفاوض مع إسرائيل من حلّ مثاليّ لخروج الأسد من حالة الحصار الاقتصادي والسياسي، وضمان تربّعه على عرش سوريا لسنوات قادمة، للحيلولة دون سقوطه بأيّ شكل، والتخلص من القيود الروسية والإيرانية أو من إحداها على الأقل، الساعية لعرقلة جهوده المهندِسة لتلك التوجهات، لا سيما أن إيران تؤمن ببراغماتية الأسد البحتة لذلك فهي تعمل على تجذير نفوذها في بنية الدولة السورية بشكل يصعب اقتلاعها ولعب أي دور في سياسة الحكومة والتّحكم بصلب القرارات والاتفاقيات ولا سيما مع الجانب الإسرائيلي في حال تمّت.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات