مثّلت القضية الفلسطينية بحمولاتها السياسية والإقليمية وحتى الدينية المؤدلجة، على اختلاف موقعها لدى الجماعات والأحزاب والأنظمة، وسيلة قصوى للتعبئة والشحن، وحيازة دور مركزي بالمنطقة وسياساتها. لذا، كان التهافت على المسألة الفلسطينية من الأنظمة البعثية، تحديداً، في المنطقة واعتبارها “قضية” الأحزاب القومية في نسختها “العفلقية” عملية لا تحمل مزايدة سياسية ومراوغة تكتيكية بقدر ما هي صناعة أداة تراكم رأسمال سياسي لهذه القوى المتسيّدة الحكم ببعض العواصم العربية، وفي بيئة استقطاب عنيفة على قيادة الإقليم.

ربما، تبدو من المفارقات التي تبعث على السخرية والامتعاض، أن القضية الفلسطينية في عهد “الأسد” الأب والابن شهدت انزياحات عديدة، بينما ظل الثابت هو “فرع فلسطين”، أحد الفروع الأمنية الجهنمية، الذي يخدش ذاكرة الفلسطينيين والسوريين، وربما غيرهم، بأنماط التغييب القسري وصنوف التعذيب المتوحشة والنهايات المأساوية. 

القضية الفلسطينية وآل الأسد

راكم هذا الفرع الأمني أجساداً متهالكة بفعل الجلادينَ الدمويين بينما كانت هذه الأجساد تكتسب هويتها من خلال علامات جديدة تظهر في ثناياها وانحناءاتها الضعيفة اللينة أمام جسد السلطة الذي ينفرد في معركته الوجودية بالقوة والسلطة والنفوذ في مقابل الطاعة والإذعان والخضوع المتعب. 

أسماء مهمة من الفلسطينيينَ، تحوّلت إلى مجرد رقم، منهم المفكر والمترجم الماركسي علي الشهابي الذي كان يقيم بمخيم اليرموك. العلامة الأمنية القمعية للقضية الفلسطينيين بالنسبة للنظام البعثي دليلاً على أبعاد سياسية، تفضح التعاطي الأمني والموقع الوظيفي لتلك القضية. وهي مسألة لها امتدادات قصوى، حيث إن النظام (حكومة دمشق) الذي قمع تظاهرات سورية مؤيدة للأحداث في غزة، مؤخراً، ومنع تسيير تظاهرات تضامنية إلا “بموافقة أمنية”، هو نفسه الذي حشد مواقف متشددة للاصطفاف إلى جانب “حماس” ودعمها كـ”مقاومة” قبل أن ينقلب عليها، ويخرجها من هذه الدائرة بعد تصدع العلاقة عام 2011. وقد برزت تداعيات ذلك في أحداث غزة، عام 2012، والتي تعامل معها الرئيس السوري بشار الأسد، بشكل مقتضب ولم يتوانَ عن الهجوم ضد “حماس”.

تشير وكالة “الأونروا” أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا حتى عام 2011، كان يتخطى 570 ألفاً، ونحو 48 بالمئة منهم يعيشون في المخيمات. فيما يتوزع الباقي منهم بالمجتمعات السورية، أو في تكتلات فلسطينية هامشية بأطراف المدن السورية.

أحد شوارع مخيم اليرموك المدمرة، “أ ف ب في أكتوبر 2018”

وهناك نحو 12 مخيماً للاجئين الفلسطينيين بسوريا، بحسب تصنيف (الأونروا) 9 منها رسمية، و3 غير رسمية. وتوضح إحصاءات رسمية حصل على نسخة منها موقع “ارفع صوتك” الأميركي، أن عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين تبقوا في سوريا، بلغ حتى تشرين الأول/أكتوبر 2022، قرابة 42 ألفاً، أقل من 3 بالمئة يتواجدون داخل المخيمات، ومن تبقّى “تشردوا” في عموم الجغرافية السورية.

سيرة القتل والتصفية والبطش لدى الحكومة السورية، تكاد أن تضحى وثيقة إدانة تتخطى السوريين إلى غيرهم، حيث قضى نحو 3207 لاجئاً فلسطينياً، على يد قوات “الأسد”، في الفترة بين عامي 2011 و2022، فضلاً عن أن 2721 ما يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري، بحسب ما وثّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.

فيما يشير تقرير “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا”، إلى أن “643 من اللاجئين الفلسطينيين قُتلوا تحت التعذيب في سجون ومعتقلات النظام السوري، منهم نساء وأطفال وكبار في السن”. وتابع: “من المتوقع أن تكون أعداد المعتقلينَ وضحايا التعذيب أكبر مما تم الإعلان عنه، وذلك بسبب غياب أي إحصاءات رسمية صادرة عن الأجهزة الأمنية السورية. بالإضافة إلى تخوّف بعض أهالي المعتقلينَ والضحايا من الإفصاح عن تلك الحالات خوفاً من ردة فعل الأجهزة الأمنية في سوريا”.

إذاً، يمكن القول إن هذا الواقع المرير للفلسطينيين في سوريا، يجعل دعاية الحكومة السورية و”البعث” السوري بخصوص ما تحوزه القضية في متن أهداف الحزب “القومي” و”العروبي” لا تتجاوز المدى المتوهم لممثلي وقادة هذا الكيان، بل هي دعاية تحشيدية غرضها سياسي تعبوي مؤقت. فمع تفجّر “الثورة السورية”، باتت العلاقة البراغماتية بين سوريا والقضية الفلسطينية ممثلة في موقع حركة “حماس” بين أوساط السلطة البعثية في قطرها السوري ومكاتبها بدمشق، تتعرض لتصدعات عنيفة، وتتباعد بين الطرفَين الرؤى والسياسات والأهداف في ظل غياب موقف علني لحماس مؤيد لـ”الأسد” في سوريا. 

وقد كان عام الثورة في سوريا مختلفاً وترتبت عليه انعطافات جمّة، بدأ بخروج خالد مشعل رئيس حركة “حماس” من دمشق، وتفاقم التوتر مع “النظام السوري”. لكن هذا الخروج فضح الطبيعة المؤقتة في العلاقة بين الطرفين وحدودها الانتهازية. فالحركة من جهة كانت توفر شرعية وغطاء دعائي وسياسي لفكرة “المقاومة” و”الممانعة” التي يروّج لها المحور السوري الإيراني، وهذا المحور يبحث طوال الوقت عن قوى وتنظيمات تمنحه الدور الرعائي في مقابل ضمانات عمل سياسية وإقليمية وملاذات آمنة.

تصدع علاقة “حماس” بدمشق

الموقف المرتبك بين “حماس” وحكومة دمشق، إثر اندلاع “الثورة السورية” عام 2011، ليس جديداً. فالأولى خاضت مناكفات حتى لو لم تكن مباشرة ضد دمشق، لا سيما بعد رفع علم الثورة السورية عام 2012 في مؤتمر للحركة بغزة. ثم وصفت قيادات حمساوية هذا الأمر بأنه جرى بـ”الخطأ”. غير أن الإعلام الرسمي في دمشق شرع في وصف خالد مشعل بـ”الخائن” و”المشرّد”. حتى أن بشار الأسد قال عام 2015: “إن الشعب السوري لم يعد يثق بقادة حركة حماس، وإن علاقة بلاده معها ماتت على المستويين الرسمي والشعبي”، وطاولت الحركة في خطاب “الأسد” اتهامات بدعم “جبهة النصرة” والعمل معها جنباً إلى جنب في مخيم اليرموك. ومن بين التُّهم التي وجّهها الرئيس السوري للحركة هي أن الأخيرة “تستخدم المقاومة باعتبارها عنواناً من أجل أن تحقق أهدافا سياسية تحت عنوان الدين. وهذا هو منهج الإخوان المسلمين”.

وقبيل تصريحات الأسد، عقّب القيادي في حركة “حماس” إسماعيل رضوان، على الاتهامات التي روج لها الإعلام السوري الرسمي بشأن دعم الحركة لحركات وفصائل مسلحة بمخيم اليرموك بأن، “لا أساس لها من الصحة”. وقال إن “حماس تنأى بنفسها عن التدخل في الشأن الداخلي لأي دولة عربية”، نافياً أي علاقة للحركة مع تنظيم “أكناف بيت المقدس” في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين. ولفت إلى أن “الحركة حريصة على أمن واستقرار الدول العربية، فوحدة الدول العربية تعني قوة المنطقة، وهو ما تحتاجه الحركة، والشعب الفلسطيني”. 

انتقال “الأسد” والنظام بأجهزته السياسية والإعلامية لمربع الهجوم ضد “حماس” طالما لا تصطف الحركة مع السلطة التي باشرت في قمع وقتل الحراك الذي اندلع في 2011، وتحول لحرب أهلية بواسطة وكلائه وأطراف إقليمية وخارجية، بدا مثيراً للسخرية لكنه يكشف في الآن ذاته عن وضع مائل وهش في السياسة “البعثية” التي تملك التعمية عن حقائق أو جزء منها لصناعة صورة مغلوطة. إذ إن الرئيس السوري الذي منح “حماس” بطاقة شرعية لحمل القضية الفلسطينية ومنحها صفة “المقاومة” بشكل مجاني عاود لسحب كل ذلك بمرونة وخفّة، وقد باغتته الذاكرة بأن الحركة تملك ارتباطات عضوية وتنظيمية مع جماعة “الإخوان المسلمين” ومن ثم هي أحد فصائل الإسلام السياسي.

وكان تصريح الأسد: “موقف سوريا من الموضوع مبدئي، بُني في السابق على أن حماس حركة مقاومة ضد إسرائيل، إلا أنه تبين لاحقاً أن الدم الإخواني هو الغالب لدى هذه الحركة عندما دعمت الإرهابيين في سوريا وسارت في المخطط ذاته الذي أرادته إسرائيل”. 

و”النظام البعثي” في سياقه التاريخي والسياسي لا يتوانى عن صناعة الذاكرة الانتقائية، وهي الآلية الوحيدة الممكنة التي تسهل عليه مهامة في تمرير سياساته البراغماتية وترويجها بين حواضنه وشبكات المنتفعين. فهو يقوم باختزال الأفراد أو الجماعات في الدائرة التي تحقق الفعالية والنفوذ. وعليه، كان طبيعيا أن تتواصل الخيوط مرة أخرى بين حماس و”الأسد” بشكل تلقائي في ظل الرحم الإيراني الدافئ والذي جعل هذه الامتدادات الساكنة تتدفق من جديد في علاقة مصالحية. 

جاءت عودة العلاقات للحركة الفلسطينية “حماس” المصنّفة على قوائم الإرهاب مع الحكومة في دمشق مرة أخرى بتحريض إيراني ورغبة “الولي الفقيه” لأهدافه السياسية والإقليمية.

وقد برزت العودة منذ سنوات قليلة وعبّر عنها القيادي بحماس محمود الزهار المعروف بصلاته وجناحه بـ”الحرس الثوري” الإيراني. وقد شرع الزهار التلميح لعودة محتملة أو بالأحرى وجود مساع مبذولة “لعودة العلاقات مع القيادة السورية”، ومشيراً إلى ضرورة “ترتيب العلاقات مع كل من وقف ويقف مع فلسطين ويعادي الاحتلال الإسرائيلي”. وتابع: “من مصلحة المقاومة أن تكون هناك علاقات جيدة مع جميع الدول التي تعادي إسرائيل ولديها موقف واضح وصريح من الاحتلال مثل الجمهورية السورية والجمهورية اللبنانية والجمهورية الإيرانية الإسلامية”.

عودة العلاقات برغبة إيرانية

وذكر الزهار: “أعتقد أن هناك جهود تبذل لإعادة العلاقة بين حماس وسوريا، لكن هناك أناس مجروحة (..) من الموقف وما آلت إليه العلاقة.. الرئيس السوري بشار الأسد وقبل الأزمة فتح لنا كل الدنيا، لقد كنا نتحرك في سوريا كما لو كنا نتحرك في فلسطين وفجأة انهارت العلاقة على خلفية الأزمة السورية، وأعتقد أنه كان الأولى أن لا نتركه وأنْ لا ندخل معه أو ضده في مجريات الأزمة..”.

جاءت عودة العلاقات للحركة الفلسطينية المصنّفة على قوائم الإرهاب مع الحكومة في دمشق مرة أخرى بتحريض إيراني ورغبة “الولي الفقيه” لأهدافه السياسية والإقليمية. وكانت من كواليس دفع الأمور باتجاه المصالحة اللقاء الذي جمع رئيس المكتب السياسي للحركة برئيس مجلس النواب الإيراني علي لاريجاني بعد أحداث غزة 2014. وقال القيادي بالحركة باسم نعيم، عن هذا اللقاء، بأنه يبعث على “مزيد من الدفء في العلاقة الوثيقة بين الحركة وطهران”. بعبارات صريحة لا تحتمل التأويل والاحتماء بالدفء الإيراني يبدو ضرورة استجاب لها “الأسد” على عجل. وهذا المسار تزامن مع انتخابات داخلية للحركة في قطاع غزة شهدت صعوداً أو تصعيداً لجناح يحيى السنوار الموالي لـ “الحرس الثوري” وطهران.

وتبعاً لذلك، تنامت فرص التعاون بين الحركة و”حزب الله” الوكيل الإيراني المحلي بلبنان. وظهرت تداعيات هذا الاندماج في مواقف سياسية وميدانية مختلفة تتصل بالأوضاع بين سوريا ولبنان. وعاود الحزب تقديم مهامه في توفير الدعم اللوجيستي والعسكري والأمني والتدريب لقادة الحركة كما كشف عن ذلك تقارير دولية على خلفية أحداث “طوفان الأقصى”. ناهيك عن توفير الحزب لقادة الحركة ملاذات آمنة وإقامة دائمة بمناطق سيطرة “حزب الله” بالضاحية الجنوبية لبيروت.

وقبل ذلك التاريخ، فإن مراحل عودة “الدفء” بين “حماس” ودمشق، تلك المرة، تكشف عن طريق أو مسار إيراني هو الذي يقوم بهندسة وإدارة هذا الملف لتوظيفه على النحو الذي يخدم مصالحه الإقليمية بالمنطقة مع تخفيف دور سوريا وليس تنحيتها تماماً، حيث إن “حماس”، ومنذ كانت عتبة إيران من البوابة السورية بعدما منحها حافظ الأسد بطاقة خضراء للعمل في الثمانينات، أضحت أحد جيوب إيران لتمرير نفوذها بالإقليم والقفز على القضية الفلسطينية للاستثمار السياسي فيها. 

ويلاحظ أن المسار الإيراني بدأ في الشهور الأولى من عام 2015 بعدما بعث قائد “كتائب عز الدين القسام” محمد الضيف، لأمين عام “حزب الله” حسن نصر الله يطالبه بأن “تتقاطع” أسلحتهما لمواجهة إسرائيل. وبلغت الأمور ذروتها في لقاءات بعضها علني وأغلبها سرّي بين قادة “حماس” ونصر الله. ففي نهاية عام 2017 التقى نصر الله بنائب رئيس المكتب السياسي في “حماس” صالح العاروري. وبعدها ظهر إسماعيل هنية بمشاركته في المؤتمر العالمي الثاني لدعم “المقاومة” ببيروت وذلك جنباً إلى جنب مع نصر الله ونائبه نعيم قاسم بحضور شخصيات من 80 دولة.

وفي هذه الفترة التي شهدت مقاطعة خليجية مصرية لقطر على خلفية دعمها لـ”الإخوان المسلمين”، حدث انتقال لصالح العاروري من الدوحة للعاصمة اللبنانية مع آخرين، وقد اتسع الدور الحمساوي بفعل التقارب الإيراني والاندماج مع “حزب الله” للحدود التي بلغت قمتها مع “طوفان الأقصى”.

على المستوى السياسي اللبناني كذلك، ساهمت “حماس في تدشين مصالحة بين حزب الله والجماعة الإسلامية (فرع جماعة الإخوان في لبنان)، ثم عملت على تصعيد الجناح القريب من الجماعة منها (وبالتبعية القريب من إيران) للتمكين بمفاصل التنظيم، وبعض القادة من هؤلاء أضحى على جداول رواتب حماس بوصفهم موظفين متفرغين”. 

التزعم بـ”المقاومة”

مع هذا كله، “حماس”، حتماً، ليس بمقدورها، عملياً أو نظرياً، أن تمثّل القضية الفلسطينية في إطارها الحركي والسياسي. وبالتالي تحتكر صفة “المقاومة” بمعناها الأيديولوجي والمسيس لحسابات طهران ومحورها الإقليمي بأثر رجعي. 

صورة تجمع ياسر عرفات بحافظ الأسد- “إضاءات”

كما أن “البعث السوري” الذي تعمد ماكينته الإعلام الحزبية والدعائية ترديد شعارات “التحرير” و”المقاومة” لن ينجح في حسم التناقضات أو يخفي التباينات في مواقفه ويحتل متن القضية الفلسطينية. وفي المحصلة، فإن هذه التباينات والتناقضات في المواقف الرسمية السورية تجاه فلسطين وإسرائيل بطبيعة الحال، تتشكل تبعاً لدرجة العلاقة بين دمشق والفصائل الفلسطينية التي يتم توظيفها لأغراض تعبوية محلية وأحياناً ابتزاز دول في المنطقة. 

الموقف من “حماس لدى النظام السوري” ليس جديداً أو عرضياً، بل إن هناك سوابق مماثلة مع آخرين، كما حدث مع “حركة فتح” والخصومة العنيفة التي وثّقتها مراحل الصراع بل والحرب التي شنّها حافظ الأسد ضد الفلسطينيين وقادة الحركة بلبنان وياسر عرفات. وتوثق أحداث ما جرى في مخيم تل الزعتر بلبنان في سبعينات القرن الماضي وبعدها حرب المخيمات بين عامي 1985 و1988، دائرة عنف قصوى لم تنغلق إلا بالقضاء أو بالأحرى تصفية الوجود الفلسطيني بلبنان، بينما كان الدور المركزي فيها لسوريا حافظ الأسد. 

هذا العنف الدموي ضد القضية التي يحتمي بها قادة “حزب البعث” ويعتبر الأخير “قضية (الحزب) بامتياز” تحدث عندما لا تحقق القضية (أو تتعارض) مع الطموحات السياسية والإقليمية للبعث.

وثّق تفاصيل هذا الحادث المأساوي رئيس الوزراء في الاتحاد السوفياتي السابق يفغيني بريماكوف، ويقول في كتابه الذي صدر في ترجمة عربية بالقاهرة بعنوان: “الكواليس السرية للشرق الأوسط”، بأن هناك صلات وطيدة جمعت قائد الكتائب اللبنانية بيار الجميل بالرئيس السوري حافظ، ووافق بيار الجميل على “مهمة سوريا في لبنان”، بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، قال عن الدور الذي اضطلع به حافظ الأسد ضد الفلسطينيين بلبنان بأن “إسرائيل لا تجد سبباً يدعوها لمنع البعث السوري من التوغل في لبنان، فهذا الجيش يهاجم الفلسطينيين، وتدخلنا عندئذ سيكون بمثابة تقديم المساعدة للفلسطينيين، ويجب علينا ألا نزعج القوات السورية أثناء قتلها للفلسطينيين، فهي تقوم بمهمة لا تخفى نتائجها الحقة بالنسبة لنا”.

الجيش السوري كان “يدعم قوات الكتائب من الخلف، ويحمي ظهرها”. ولهذا قال ياسر عرفات: “شارون العرب (يقصد حافظ الأسد) يحاصرنا من البر، وشارون اليهود يحاصرنا من البحر”.

حصار المخيم دام نحو 52 يوماً، ولم تتمكن ميليشيات اليمين الماروني وقتذاك من اقتحامه، وفق بريماكوف، والذي يؤكد أن المجازر التي حدثت بالمخيم بعد سقوطه في يد قوات “الكتائب اللبنانية” تمت بعد الحماية والدعم من الجيش السوري (نحو 30 ألف جندي) وطائراته التي قدمت غطاء جويا لعملية اقتحام المخيم وسحق “المقاومة الفلسطينية”. شهادة بريماكوف لا تختلف عن ما جاء في وثائق وشهادات الحرب الأهلية اللبنانية، ومنها شهادة الكاتبة اللبنانية، دلال البزري، التي ذكرت في كتابها: “دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية” أن الجيش السوري كان “يدعم قوات الكتائب من الخلف، ويحمي ظهرها”. ولهذا قال ياسر عرفات: “شارون العرب (يقصد حافظ الأسد) يحاصرنا من البر، وشارون اليهود يحاصرنا من البحر”. 

وقبل هذا التاريخ الدموي وبفعل ضغوط الصراع على الزعامة الإقليمية بين حافظ الأسد وياسر عرفات، لدرجة أن الأول خاطب الأخير قائلاً: ” إنكم لا تمثلون فلسطين بأكثر مما نمثلها نحن. ولا تنسوا أمراً، أنه ليس هناك شعب فلسطيني وليس هناك كيان فلسطيني، بل سوريا وأنتم جزء لا يتجزأ من الشعب السوري، وفلسطين جزء لا يتجزأ من سوريا. وإذاً فإننا نحن المسؤولون السوريون الممثلون الحقيقيون للشعب الفلسطيني”. كما منع “الأسد” الانتساب لـ”حركة فتح” عام 1971. ويقول حنا بطاطو في كتابه: “فلاحو سوريا” أن الأسد لم يفِ بوعوده مطلقا للفلسطينيين، وقد سحب صواريخ سام من المخيمات ولم يقم بتقديم الدعم الجوي مع الحرب الإسرائيلية عام 1982. 

حركة “حماس” التي تم تدشينها في ثمانينات القرن الماضي، لم تخفِ موقعها في خريطة الإسلام السياسي، وكذا ارتباطاتها العضوية بجماعة “الإخوان”، وإن حاولت لاحقاً وتحت وطأة التحولات الإقليمية الطارئة تخفيف هذه العلاقة المباشرة، ولتمكنها من العمل من دون أعباء هذا الارتباط، وقد صعدت في عدة بلدان عربية وفي فلسطين مع انحسار “حركة فتح” السياسي إثر توقيع اتفاقية أوسلو مع إسرائيل. ويمكن الإشارة إلى أن العقد التاريخي الذي صعدت فيه “حماس” تزامن مع نجاح ثورة الملالي ووصول الخميني و”آيات الله” للحكم في إيران، الأمر الذي جعل دمشق تتجه إلى بؤرة جديدة للتفاعل مع وكلاء حلفائها الإقليميين. 

أسباب تقارب آل الأسد مع إسلامويي فلسطين

انفتاح “الأسد” الأب والابن تدريجياً على الجناح الإسلاموي في فلسطين كان له أسبابه التاريخية والسياسية والبراغماتية، لا سيما بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، وانحسار منظمة التحرير الفلسطينية (اصطفافها مع بعث العراق في الحرب العراقية الإيرانية: خصم إيران وبعث سوريا) بعد اتفاقية أوسلو، فبعث حافظ الأسد دعوة لمؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين لزيارة دمشق، نهاية الثمانينات، وقد زارها وتم الاحتفاء به في الاستقبال الرسمي الذي بدأ بالمطار وانتهى بلقاء الرئيس.

وذكر بطاطو في أحد فصول كتابه الذي يروي شطراً من قصة العلاقة المأزومة بين حافظ الأسد و”حركة فتح”، أن اغتيال يوسف عرابي في الستينات والذي بعث به “الأسد” لقتل ياسر عرفات بعد أن امتنع “عرفات” عن تنفيذ مقترح الرئيس السوري آنذاك باندماج جبهة التحرير مع فتح. بالتالي، خاض النظام في دمشق وفق بطاطو حربا شرسة ضد الفلسطينيين بالأردن، وقد طمأن “الأسد” الملك حسين بأن سلاح الجو السوري لن يقدم أي دعم للفلسطينيين.

رجلان وسط الدمار في مخيم اليرموك في أكتوبر 2021- مجلة المجلة عن “أ ف ب”

ويصف حنا بطاطو هذه الانتقالات السريعة من النقيض للنقيض بأن البعث وحافظ الأسد كان يقيم علاقات مرة بين “مجموعات قومية عربية وأخرى انعزالية، وقوى علمانية وأخرى إسلامية، وأحزاب يسارية وأخرى يمينية”. وقد تحولت “القومية العربية” التي “تراجعت على يد الأسد من كونها غاية… إلى وسيلة”.

تمنح سوريا الفصائل الفلسطينية حيزاً محدوداً للنشاط في السياق السوري خارج الإطار القانوني، بهدف التدخل في الشؤون الفلسطينية الداخلية، داخل سوريا وخارجها، لكن هذا التساهل لا يمنح للفصائل كلها بالقدر ذاته. أعطيت “طلائع حرب التحرير الشعبية- قوات الصاعقة” باعتبارها جزءاً من حزب البعث حيزاً واسعاً للعمل فيما “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وفصائل أخرى منشقة عن المنظمة وموالية مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، وفتح الانتفاضة. تحظى بحيز أقل بكثير تليها المنظمات اليسارية الأكثر حرمانا (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وحزب الشعب) أما بالنسبة إلى “حركة فتح” فطلبت منها السلطات السورية أن تحافظ على حضور قليل. اشتكى قادة الفصائل الفلسطينية من أن الشباب غير مهتمين بالانتساب إلى فصائلهم، وأكدت مقابلات مع بعض الشباب هذا الأمر، وفق ما جاء في كتاب: “اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان”.

ويشير الكتاب إلى حالة مخيم اليرموك تُظهر أن المخيمات بحد ذاتها ليست مواقع تخريبية قائمة خارج حدود سلطة الدولة، ولا تشكل تهديداً أمنياً. حين يكون الفلسطينيون عرضة للتمييز الممنهج والتهميش الحضري، تصبح تجمعاتهم مسألة إشكالية من وجهة النظر الأمنية فحسب. إذ تتولى السلطات السورية تأمين البنى الرسمية والضرورية للإدارة في مخيم اليرموك- البنى التي حلت مكان النخب التقليدية المؤلفة من الوجهاء (زعماء العائلات) والشيوخ. اليوم أصبح مخيم اليرموك جزءا من النسيج الاجتماعي لمدينة دمشق. وحتى حين يتفرد المخيم بمميزات إدارية واجتماعية وديموغرافية وسياسية واقتصادية مختلفة. فإن حدوده مع محيطه تبقى ضبابية وغير واضحة بشكل متزايد. كان الاندماج المكاني للمخيم مع المنطقة المحيطة به سهلاً بسبب الاندماج الاجتماعي والاقتصادي العام للمجتمع الفلسطيني في المجتمع السوري، على سبيل المثال: ليس من النادر وجود حالات زواج بين سكان مخيم اليرموك وسوريين، حدث اندماج بسبب سياسات التمكين السورية، وقبول اللاجئين اجتماعياً، وبسبب جهد الفلسطينيين الإيجابي لإدماج أنفسهم في الفضاءات الدينية والاجتماعية والاقتصادية لمضيفيهم. لكن ماذا عن الفضاء السياسي؟

ويجيب: “في سوريا تحتكر الدولة السياسة. ترافق ذلك مع حزب البعث على عدم تسييس الناس وفصلهم عن السياسة، خصوصا الإسلاميين منهم في هذا الإطار. ليس سهلاً على فصائل فلسطينية مثل حماس القيام بنشاط سياسي. لكن توصل النظام والفصائل الإسلامية إلى إبرام صفقة واضحة: ما دامت تتوافق سياسة حركة حماس مع سياسة سورية الخارجية فلا ضير أن تمنح الحركة حيزاً لممارسة العمل السياسي. تجند حماس جماعة من المؤمنين من خلال المساجد، من أجل تمويل المقاومة ومساعدة الفلسطينيين.. أدى ذلك إلى نتائج جيدة، إذ أغدق بعض رجال الأعمال السوريين بسخاء على حماس أكثر من ذلك، وعلى الرغم من اتفاق حماس مع السلطات السورية، لا تزال الحركة تؤدي دوراً في تأطير المعارضة الإسلامية خارج المخيمات”.

استثمار “حماس” السياسي محدود

تستثمر “حماس” مبدئياً رأسمالها السياسي المحدود من خلال قنوات اجتماعية، عوضاً عن القنوات السياسية العلنية. نتيجة ذلك وفي الوقت الذي يدير فيه البلدية المخيم، تحتل الحاكمية الإسلامية المسرح الاجتماعي.

لا تمتد قوة “حماس” الاجتماعية إلى المستوى الأصولي المتعلق بالأخلاق والنظرة إلى العالم فحسب، بل تتجلى أيضاً، في مصطلحات أكثر تحديداً في مجال السيطرة والمراقبة الحقيقية. إذا، أصبحت “حماس” والنسخة الرسمية السورية من الإسلام التي يروّج لها من خلال قنوات معينة مثل “معهد الأسد لتحفيظ القرآن” الفاعلين الرئيسيين في نوع الحاكمية الإسلامية تلك.

وفي المحصلة، يبدو الوجود القلق للفلسطينيين كما عبر عنه “مريد البرغوثي” في سيرته الذاتية “رأيت رام الله”: الغريب هو الشخص الذي يجدد تصريح إقامته. هو الذي يملأ النماذج ويشتري الدمغات والطوابع. هو الذي عليه أن يقدم البراهين والإثباتات. لا تعنيه التفاصيل الصغيرة في شؤون القوم أو سياستهم “الداخلية” لكنه أول من تقع عليه عواقبها. قد لا يفرحه ما يفرحهم لكنه دائماً يخاف عندما يخافون. هو دائما “العنصر المندس” في المظاهرة إذا تظاهروا حتى لو لم يغادر بيته في ذلك اليوم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة