مع انفجار العنف في الشرق الأوسط، وبلوغه مستويات غير مسبوقة، في ظل الحرب المستمرة في قطاع غزة، عقب هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، وجدت الإسلاموية طوق نجاة ربما منحها رئة جديدة للتنفس، وقدرة على الانتشار والتّمدد مرة أخرى.

وتبدو مرحلة ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر فاصلة بين مرحلتَين في تاريخ جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها تنظيم “داعش” وجماعة “الإخوان المسلمين”. ويمكن القول إن هناك نوع من التباين البنيوي بين التنظيمَين، انعكس بدوره على آليات توظيف الأزمة، والفعالية الأدائية فيما يتعلق بأدوات التجنيد والإمداد على كافة الأوجه.

آليات الحركة وفعالية “التنظيم”داعش”

تتبع جماعة “الإخوان” آلية حركية تراتبية، فهي وإن ارتكزت على بنية هرمية يؤطّرها هيكل سياسي تكويني، إلّا أن البنية التحتية للتنظيم، تبدو أقرب إلى التكوينات الشبكية، حيث يتداخل الاقتصادي مع الاجتماعي على صعيد البناء التحتي للجماعة؛ لخلق ولاءات وروابط اعتمادية؛ قادرة على حمل البناء السياسي الفوقي، والدفع به دائماً إلى لعب أدوارٍ جديدة؛ وعليه تبدو العلاقة تبادلية من حيث المنفعة، حيث يحرص البناء الفوقي على استمرار تدفق الخدمات للقواعد، والتي تمنحه في المقابل دعمها وانصياعها الكامل.

هذه العلاقة الرأسية بين قمة الهرم التنظيمي وقاعدته، يقابلها في تنظيم “داعش” الإرهابي، حركة أفقية سطحية تفتقد إلى العمق الرأسي، ذلك أن الجميع في التنظيم إمّا مقاتل تحت السلاح، أو يؤدي أدوراً لخدمة المقاتلين، وفق حركة كلية تتمحور حول الجماعة المقاتلة، كما أن الأنشطة الاقتصادية تقتصر على مدخلات ثقافة الغزو والسلب والنهب، مثلما حدث في العام 2014، حين نهب المقاتلون بنوك الموصل، كما استحوذ تنظيم “داعش” على عدد من الأصول، التي تتيح له تحقيق إيرادات ضخمة.

وفي العام 2012 على سبيل المثال، استولى التنظيم على حقول النفط في شرق سوريا، وقام بإدارة هذه الموارد، بالإضافة إلى ممارسة أنشطة أخرى مثل تهريب المخدرات، والاتجار بالآثار، والجباية والسطو وغيرها.

يدرك تنظيم “داعش” أن بقاءه يعتمد على إغلاق الدائرة من حوله، ومنع كل أوجه التأثّر بالتيارات والجماعات الأخرى، حتى لا يفقد التنظيم زخم الحراك الكلي بين كافة مكوناته، وتتحول الجماعة المقاتلة إلى بنية اجتماعية مستقرة؛ ما يفقد التنظيم ديناميته وفعاليته.

هذه البنية الاقتصادية البدائية، تقابلها بنية اجتماعية هشّة، لا تقوم على روابط أُسرية أو عائلية، بقدر ما تقوم على توظيف الجنس كأداة تحفيزية، أو غنيمة حرب مرتقبة؛ ما أسهم في بلورة تشكيلات خطابية أقرب إلى فكر وثقافة المجموعات البدائية، الدخيلة على السياق التاريخي الذي تكونت فيه.

تمّ إنتاج الراديكالية الجهادية، عبر جملة من العوامل والدوافع، بعضها أيديولوجي وديني، ومعظمها يقوم على الرغبة في البحث عن معنى أو انتماء، بالإضافة إلى الغضب من الغرب، وهو ما نجح تنظيم “داعش” في توظيفه، عبر استدعاء وإعادة إنتاج الرغبة الخلاصية، في ظل وضع اقتصادي قاتم، تؤطّره خيبة الأمل على كافة الأصعدة.

افتقاد ذكاء المسافات

وعلى صعيد نظرية المسافات مع الآخر، يرى “الإخوان المسلمون” أن المسافة تحددها المصلحة، وأن بناء التحالفات يعتمد على مدى الاتفاق في الأهداف، بغض النظر عن التباين الأيديولوجي، ومن هنا تذهب الجماعة أينما وُجدت مصالحها، حيث تتخلّق المسافات اقتراباً أو ابتعاداً، وفق أولويات العوامل الحركية، القائمة على مبدأ ذكاء المسافات.

وبالتالي لا يجد “الإخوان” مانعاً من التحالف مع إيران الشيعية، أو الحركات السلفية، أو التفاهم مع التنظيمات الجهادية؛ طالما اتفقت الأهداف.

على العكس من ذلك، يدرك تنظيم “داعش” أن بقاءه يعتمد على إغلاق الدائرة من حوله، ومنع كل أوجه التأثّر بالتيارات والجماعات الأخرى، حتى لا يفقد التنظيم زخم الحراك الكلي بين كافة مكوناته، وتتحول الجماعة المقاتلة إلى بنية اجتماعية مستقرة؛ ما يفقد التنظيم ديناميته وفعاليته، وعليه فإن “داعش” ترفع شعارات الجهاد في الداخل والخارج، مقابل التمايز الذي يضعه “الإخوان” بين أرض الجهاد وأرض الحياد، وهو تمايز سياسي؛ يضمن به التنظيم التمدّد والتمفصل في كل مؤسسات الدولة.

دخل تنظيم “داعش” إلى ميدان التفاعل مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بكل المعطيات السابقة، رافضاً التماهي مع كافة الحلفاء المحتملين، فهاجم إيران بوصفها قاعدة مركزية للرافضة، ودان حركة “حماس” لتحالفها مع إيران، وهاجم “الإخوان” بوصفهم جماعة خارجة عن صحيح الإسلام، وحركة “طالبان” الساعية إلى الانضمام للأمم المتحدة.

وبتحليل الخطاب الإعلامي لـ “داعش”، بحسب ما ورد من مواد في “صحيفة النبأ” التابعة للتنظيم، فإن القضاء على إسرائيل، وفق رؤية التنظيم، يتطلب العمل بالتوازي على مستويين: الأول هو تنفيذ المزيد من العمليات الإرهابية في الداخل، واستهداف المؤسسات في الدول العربية والإسلامية، بوصفها تابعة وعميلة، وبالتالي خلق حالة من الارتباك على تخوم المصالح الغربية. والثاني هو توجيه ضربات انتحارية مؤلمة للولايات المتحدة والغرب، يرى التنظيم أنّها أكثر فاعلية من العمليات التي قامت بها الميليشيات التابعة لإيران في سوريا والعراق.

تنظيم “داعش” الذي لم يطلق رصاصة واحدة تجاه إسرائيل، في أوج صعوده العسكري، أعلن أنه وحده القادر على تحرير فلسطين؛ لأنه يملك حصرياً الفهم الصحيح للجهاد في الإسلام، مهدداً بجحيم ينتظر العالم، انتقاماً من التواطؤ مع إسرائيل.

احتمالات الاستفادة من الأحداث الراهنة

تنحصر فرص الاستفادة من الوضع الراهن، بالنسبة لـ”داعش”، في خلق جملة من الشروط الموضوعية، التي تمنح التنظيم أدوات جديدة، يمكنه من خلالها العودة إلى العمل، اعتماداً على عناصره وحدها، ذلك أن التنظيم قطع بالفعل كل جسور التماهي أو التوافق مع الآخرين، حتى أولئك الذين يقفون معه على أرضية واحدة، مثل تنظيم “القاعدة”، حيث تفاقم العِداء بين الطرفَين، بعد أن قتل “داعش” في غرب إفريقيا، علي جانا الحاج علي، قائد “بوكو حرام” في نيجيريا.

تبقى ذئاب التنظيم المنفردة، في أوروبا والشرق الأوسط، وحدها القادرة على توجيه بعض الضربات هنا وهناك، وهي ضربات ربما تظل فعاليتها محدودة.

ويدرك التنظيم ذلك جيداً؛ لهذا يحاول تغيير الواقع، وخلق معطيات جديدة تساعده على العودة؛ عبر إخضاع الراهن لشروط وجوده، وأولها إضعاف الدول التي يعمل فيها التنظيم، حيث يتجلى الارتباط بوضوح بين مؤشر هشاشة الدول، وقدرة التنظيم على الحركة، فالبلدان التي تدهورت خلال العقد الماضي، مثل: سوريا والعراق ومالي واليمن وليبيا، نجحت الجماعات المتطرفة في تحقيق أجنداتها فيها.

كما أن خلق بيئة مليئة بالعنف الطائفي أو القَلي أو حتى الإجرامي، يغذي مكونات الجماعات المتطرفة، ويدعم وجودها، ما يعني أن الفوضى التي قد يُحدثها التهجير القسري للفلسطينيين نحو سيناء، تدعم بالضرورة عودة عناصر ولاية سيناء إلى العمل من جديد، حيث تخلق الفوضى بيئة عمل أكثر مرونة للجماعات المتطرفة.

وتبقى ذئاب التنظيم المنفردة، في أوروبا والشرق الأوسط، وحدها القادرة على توجيه بعض الضربات هنا وهناك، وهي ضربات ربما تظل فعاليتها محدودة، على عكس “الإخوان”، الذين حقّقوا مكاسب متعددة، عادت بالجماعة وأذرعها إلى المشهد السياسي مرة أخرى، بأشكال متفاوتة، بلغت ذروتها في منطقة الهامش الجغرافي المحيط بالشرق الأوسط، وخاصّة في باكستان وماليزيا وإندونيسيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات