كان النظام الديني الإيراني يثير الاضطرابات في الشرق الأوسط لسنوات، وعادة ما يستخدم وكلاء مسلّحينَ مثل “حزب الله” في لبنان، والميليشيات الشيعية في العراق، و”الحوثيين” في اليمن؛ لكن خلال الأسبوع الماضي، شنّ ضربات مباشرة داخل ثلاث دول صديقة لها ظاهرياً – سوريا والعراق وباكستان.

إيران أو فعليا “الحرس الثوري” الإيراني، أطلق صواريخ وطائرات بدون طيار يوم الثلاثاء الماضي على إقليم بلوشستان الباكستاني، والتي قيل رسمياً إنها تستهدف الجماعة الانفصالية السّنية – “جيش العدل”.

وأسفرت الغارات عن مقتل طفلَين وإصابة عدة آخرين، وفقاً لمسؤولينَ محليينَ ووزارة الخارجية الباكستانية، التي وصفت الهجوم بأنه “انتهاكٌ غير مبرر لمجالها الجوي من قِبل إيران” وحذّرت إيران من “عواقب وخيمة”. 

هذا التصرف أثار خلافاً دبلوماسياً مع باكستان والعراق يوم الأربعاء، باستدعاء سفيرَي إسلام آباد وبغداد من إيران وتعليق جميع الزيارات الإيرانية رفيعة المستوى، فيما لجأت العراق إلى شكوى رسمية لمجلس الأمن الدولي و”جامعة الدول العربية”.

باكستان “تردّ بالمثل”

“جيش العدل”، هو فرع من جماعة “جند الله” المتمركزة في باكستان، وهي جماعة أخرى لها تاريخ من الهجمات داخل إقليم سيستان وبلوشستان جنوب شرق إيران، لقد أضعفت طهران “جند الله” بشكل كبير في عام 2010 بعد إعدام زعيمها عبد الملك ريجي بعد اعتقاله الغامض. 

رجل يقرأ الصفحة الأولى من صحيفة “دون” الباكستانية الناطقة باللغة الإنجليزية والتي تعرض أخبارًا عن الغارة الجوية الإيرانية في إسلام آباد في 18 يناير 2024. (تصوير عامر قريشي / وكالة الصحافة الفرنسية)

وأعلنت الجماعة مسؤوليتها عن هجوم على مركز للشرطة في كانون الأول/ديسمبر 2023، مما أسفر عن مقتل 11 من أفراد الأمن الإيرانيين في بلدة راسك في سيستان وبلوشستان. وفي أعقاب الهجوم، أصدر وزير الداخلية الإيراني، أحمد وحيدي، تحذيراً لباكستان بمنع “جيش العدل” من شنّ هجمات في إيران. 

ويرى الصحفي الإيراني، مهدي رضا، في حديثه مع “الحل نت “، أن خامنئي يحاول استعراض القوة للحفاظ على توازنه الداخلي، ورفع معنويات قواته المحبطة في “الحرس” و”الباسيج”، وكذلك وكلائه في المنطقة، ويسعى النظام أيضا لاحتواء الانقسامات التي تعتريه على رأس النظام. ولذلك، قرر إطلاق الصواريخ على أماكن لا تكلّفه ثمناً باهظاً.

ولكن بعد أقلّ من يومين، ردّت باكستان ليس فقط بالصواريخ، بل أيضا بالطائرات المقاتلة في مقاطعة سيستان وبلوشستان الإيرانية – بدعوى استهداف مخابئ المتمردينَ القوميين العرقيينَ المناهضين لباكستان الذين يعملون من الأراضي الإيرانية. حيث نفّذت باكستان ما أسمته وزارة الخارجية الباكستانية “ضربات عسكرية منسّقة للغاية ومحددة الهدف” ضد الانفصاليين البلوش في سارافان، وهي مدينة تقع في جنوب شرق إيران على بُعد حوالي 70 ميلاً من الحدود الإيرانية الباكستانية. 

هذه ليست المرة الأولى التي تدخل فيها إيران وباكستان – اللتان تتمتعان عادة بعلاقات ودّية إلى حدّ ما – في صراع حول الجماعات الانفصالية البلوشية؛ لكن هذا هو الصدام الأكثر أهمية وعنفاً بين إيران وباكستان في جهودهما لمحاولة احتواء هذه الجماعات. 

الشعب البلوشي هم أقلية عرقية مسلمة سنّية تعيش في منطقة تسمى بلوشستان، والتي تشمل أجزاء من إيران وباكستان وأفغانستان، وهي ذات كثافة سكانية منخفضة، وقاحلة إلى حدٍّ كبير، وبسبب النقص النسبي في التنمية هناك، فهي أيضاً منطقة فقيرة إلى حدٍّ ما، وقد قامت كلّ من باكستان وإيران بقمع سكانهما البلوش بشدة، مما أدى إلى تأجيج الاحتجاجات والحركات الانفصالية على مدى عقود.

الباحث المتخصص في السياسة الإيرانية، أسامة الهتيمي، في حديثه مع “الحل نت “، يرى غرابة في الحدث، إذ إن هذه الضربات جاءت بالتزامن مع لقاء رئيس وزراء باكستان المؤقت، أنوار الحق كاكر، مع وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، في سويسرا على هامش اجتماع منتدى “دافوس” فيما سبقه زيارة حسن كاظمي قمي الممثل الخاص للرئيس الإيراني وسفير إيران في أفغانستان لإسلام آباد، بهدف تشكيل لجنة ارتباط للتنسيق الإقليمي بشأن التعامل مع أفغانستان، وأيضا نشر أنباء عن مناورات حربية مشتركة بين القوات البحرية.

ماذا يدور بين باكستان وإيران؟

منذ الثورة في إيران عام 1979، كانت العلاقات بين إيران وباكستان فعّالة، وكانت دافئة في فترات ما، ولكنها في نهاية المطاف لم تكن قوية بشكل خاص. وفي حين أن التبادلات الشعبية بين إيران وباكستان هي قوة العلاقة، إلا أنه كانت هناك مظالم سياسية تجاه الآخر على كلا الجانبين. 

رئيسي وشريف خلال افتتاح مشروعات اقتصادية على حدود البلدين (الرئاسة الإيرانية)

على سبيل المثال، شعر النظام الديني الشيعي في إيران بالتنافر الإيديولوجي مع باكستان ذات الأغلبية السُنّية. كما نظرت القيادة الباكستانية في بعض الأحيان إلى العلاقة من خلال عدسة طائفية، على الرغم من أن بروز الصدع الطائفي أقلّ حدّة بكثير مقارنة بعلاقات إيران مع دولٍ في منطقة الخليج العربي، حيث يوجد في باكستان أقلّية شيعية كبيرة. 

كان لدى إيران أيضاً تصوّر سلبي تجاه باكستان بسبب علاقاتها القوية مع القوى الجيوسياسية المعارضة لإيران: الولايات المتحدة والقوى الخليجية، وخاصة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. 

ومن جانب باكستان، فقد نظرت إلى إيران باعتبارها جارة صعبة وغير مفيدة للغاية نظراً لوضعها المنبوذ في الغرب. كما كانت لإيران علاقة أوثق مع الهند، الخصم اللدود لباكستان، وكان القادة الباكستانيون يشتبهون منذ فترة طويلة في أن إيران تدعم وتوفّر الملاذ للجماعات العِرقية القومية المناهضة لإسلام آباد.

ورغم أن المخاوف بشأن العواقب الإقليمية التي قد تترتب على هذه الهجمات أمرٌ مفهوم، إلا أنها ربما تتعلق بالظروف داخل باكستان وإيران أكثر من ارتباطها بالتوترات الإقليمية، حيث تتعامل إيران وباكستان مع عدم الاستقرار الداخلي؛ ويواجه كلا البلدين تحدّيات اقتصادية خطيرة، فضلاً عن أزمات سياسية تتعلق بالشرعية في حكومتيهما.

بعد يومين فقط

لقد فوجِئت القيادة الباكستانية بالهجوم الإيراني، وبعد ذلك وجدت نفسها في مواجهة معضلةٍ استراتيجية. فمن ناحية، خاطر الهجوم الإيراني بإرساء سابقة خطيرة بعد انتهاك كبير لسيادة باكستان. وإذا سمحت باكستان بذلك، فمن المرجّح أن يشعر القادة الباكستانيون بأن هذا قد يشجّع ليس الهند فحسب، بل وأيضاً أفغانستان، حيث كانت “طالبان” تحمي حركة “طالبان” الباكستانية المناهضة لباكستان. 

تظاهرة في باكستان للتنديد بالضربة الإيرانية (أ ب)

ربما تفاقمت المخاوف بشأن الهند بسبب البيان الصحفي الصادر عن وزارة الخارجية الهندية، والذي يدعم بشكل فعّال الضربات الإيرانية في باكستان. ويشكّل الهجوم أيضاً تحدّياً لقيادة قائد الجيش الباكستاني القوي الجنرال عاصم منير، الذي سعى إلى إظهار سمعته المتمثلة في العزم والحزم سواء على المستوى المحلي أو في تعاملاته مع الدول الأخرى.

من ناحية أخرى، فإن تبنّي موقف عدائي تجاه إيران يؤدي إلى تعقيد توازن علاقات باكستان المعقّدة بالفعل مع جيرانها. وعلى الرغم من وقف إطلاق النار الحالي على طول الحدود، إلا أن التوتّرات مع الهند لا تزال مستمرة. 

وعلى الحدود الغربية لباكستان، تدهورت العلاقات مع نظام “طالبان” بسبب دعمه لتمرّد حركة “طالبان” الباكستانية المناهضة لباكستان. وبالتالي، فمن خلال التصعيد ضد إيران في هذه الخلفية، واجه الاستراتيجيون الباكستانيون خطر إثارة معضلة طويلة الأمد ذات ثلاث جبهات تشمل أفغانستان والهند وإيران. 

ويبدو أن القيادة الباكستانية اختارت في نهاية المطاف الرّد للإشارة إلى العزم وتأسيس قوة الردع في حين تثق في قدرتها على إدارة وتخفيف مخاطر المعضلة ذات الجبهات الثلاث. ولإدارة الضغوط التصعيدية، اختار القادة الباكستانيون ما يزعمون أنها معسكرات للانفصاليين البلوش في إيران، بدلاً من الأهداف العسكرية الإيرانية المباشرة، وبالتالي التقليل من خسارة ماء الوجه للقيادة الإيرانية بسبب الأضرار التي لحقت بالتحرّك الباكستاني. 

إيران ومبدأ استعراض القوة

من الأهمية بمكان أن نفهم الدافع وراء الضربات الإيرانية في باكستان، إذ لا ينبغي النظر إلى تصرفات طهران الخاطئة على أنها مجرد انتقام من “جيش العدل” بهدف إثارة ردّ فعلٍ من باكستان. وبدلاً من ذلك، يجب أن يُنظر إليها على أنها تهدف إلى إظهار القدرة العسكرية لـ”الحرس الثوري” وإرسال رسالة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة العرب.

ردّت باكستان ليس فقط بالصواريخ، بل أيضا بالطائرات المقاتلة في مقاطعة سيستان وبلوشستان الإيرانية – إنترنت

كما تسلّط الضربات الصاروخية الإيرانية في العراق وسوريا وباكستان الضوء على قدرة إيران على إبراز القوة خارج حدودها ويمكن أن يكون لها آثار كبيرة على الأمن الإقليمي. 

هناك صورة أكبر تظهر في الشرق الأوسط للتدخل الإيراني العميق على جميع الجبهات، ويشكل دعم إيران لـ”الحوثيين” مصدر قلق للكثيرين، لأنه يمثل تحدّيا للاستقرار الإقليمي وأمن ممرات الشحن الرئيسية. 

علاوة على ذلك، ساهم دعم طهران للجماعات الوكيلة مثل “حماس” والجهات الفاعلة غير الحكومية في جميع أنحاء الشرق الأوسط في خلق شعور أوسع بانعدام الأمن في المنطقة، وعلى الرغم من محاولاتها المؤسفة لاستعراض القوة، إلا أن تصرفات إيران أثارت المخاوف بين جيرانها والمجتمع الدولي، حيث أصبح لِزاماً على باكستان الآن أن تعيد حسابات علاقاتها الهشّة بالفعل مع إيران. 

في هذا السياق يلفت الهتيمي، إلى أنه على المستوى الداخلي فإن إيران تعاني منذ سنوات من حالة ترهّلٍ وفشل أمنييَن أسفر عن وقوع العديد من الهجمات والاستهدافات التي نالت من سمعة الأجهزة الأمنية؛ وبالتالي فقد جاءت هذه الضربات للتغطية على الضعف الأمني الهيكلي والاختراقات في أعلى مستويات الأجهزة الأمنية والعسكرية الإيرانية.

ومع ذلك، هناك أسباب قد تدفع إيران إلى اتخاذ قرارٍ بعدم المزيد من التصعيد: 

أولاً: يشكل انتهاك باكستان للأراضي الإيرانية بوسائل عسكرية تقليدية سابقة سيئة للنظام الإيراني، إذ إن دورة الانتقام مع باكستان، والتي تنتهك فيها باكستان بانتظام سيادة إيران، من شأنها أن تؤدي إلى تآكل قدرة إيران على ردع الخصوم الآخرين، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل. 

ولهذا يشير مهدي في سياق حديثه مع “الحل نت “، إلى أن تراجع خامنئي السريع يظهر أنه حتى الاستعراض المزيّف للقوة للنظام له حدود معينة وهو على مستوى الحكومات الضعيفة الموالية له وأنه يتراجع بسرعة حالما يواجه الحزم.

ثانياً: أصبحت إيران منهكة بالفعل ــ ومع إشارة باكستان، الدولة المسلّحة نووياً والتي تتمتع بجيش أقوى من جيش إيران، إلى استعدادها لركوب سلّم التصعيد، فإن هذا من شأنه أن يزيد من الضغوط الاستراتيجية التي تتعرض لها إيران.

ثالثاً: قد يكون هذا حاسماً في الحسابات الباكستانية، إذ تأمل باكستان أن تتمكن الصين – التي تتمتع بعلاقة قوية مع إيران – من تقديم النصح لإيران بشأن تجنب المزيد من السلوك التصعيدي. وحتى قبل أن تنتقم باكستان، كانت هناك تقارير تفيد بأن الصينيينَ كانوا يحاولون التوسّط والتحدث مع باكستان عن الانتقام من إيران.

وأخيراً، وبعيدًا عن المواجهة المباشرة، قد يرى بعض صنّاع السياسات والقيادة المركزية الأميركية، التي تحافظ على علاقات قوية مع باكستان، تآزراً مع شعور باكستان بالتهديد من قِبل إيران لتحقيق التوازن بين القوة العسكرية الإيرانية وقوة وكلائها في المنطقة. 

ولكن التوترات بين إيران وباكستان ليست مستوطنة، مع وجود حوافز لدى الجانبين للحفاظ على علاقة وظيفية. إن هذا التشخيص الأساسي للعلاقات بين إيران وباكستان، إلى جانب أولويات الولايات المتحدة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وعدم اليقين في باكستان بشأن العمل مع الولايات المتحدة بشأن قضايا الشرق الأوسط، سوف يضع سقفاً لأي أجندة تعاونية حول الأنشطة الإيرانية العِدائية في المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات