لا يكفي الشعب اللبناني وجود ميليشيا “حزب الله” التابعة لإيران والتي تُصادر القرار الرسمي للدولة اللبنانية وتتحكّم به، وتورّطه في حروب الآخرين إرضاء لمصلحة مرجعيتها الإقليمية، حتى وجد نفسه أمام سلطة متماهية مع “الحزب” وتتبنى خطابه وتعمل على حمايته على نحو سافر، وبات ينطبق عليها اسم “السلطة المتواطئة”.

من المؤكّد أن هذا الأداء المستهجن أثار غضب أكثرية الشعب والمعارضة النيابية السيادية اللبنانية، وخصوصاً أن هذه السلطة المتمثلة اليوم بحكومة تصريف الأعمال التي يرأسها نجيب ميقاتي ورئيس “مجلس النواب” نبيه بري، تتصرف على نحو غير مسؤول وتعرّض لبنان ومصالح شعبه للخطر نتيجة الرضوخ لـ”الحزب” إمّا خوفًا أو إرضاءً لمصالحها، وهنا يثار التساؤل: هل قدمت السلطة اللبنانية مصلحة “حزب الله” على مصلحة الوطن؟

لبنان رهينة “حزب الله”

“حزب الله” وضع لبنان في عين العاصفة، نتيجة خوضه حرباً بالوكالة عن إيران في الجنوب اللبناني، متذرعاً أنه يخفف الضغط عن “المقاومة” في قطاع غزة ونصرة للشعب الفلسطيني، متخذاً قراراً منفرداً بمواجهة إسرائيل من دون توفّر إجماع لبناني على هذا الأمر، وسط تهديدات إسرائيلية جدّيّة بضرورة تنفيذ القرار “1701” بالطرق السلميّة الهادئة أو شنّ حرب على لبنان لتنفيذه بالقوة.

الوجه الآخر لـ"حزب الله": استخدام التنظيمات السنية لإنشاء حليف وهمي!
رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي خلال لقاء مع المبعوث الأمريكي الخاص عاموس هوشستين في بيروت في 11 يناير 2024 وسط استمرار التوترات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. (تصوير جوزيف عيد / وكالة فرانس برس)

في حديثه مع “الحل نت”، دبلوماسي لبناني سابق كان يمثّل لبنان في الولايات المتحدة الأميركية، أشار إلى أن الموفدينَ الدبلوماسيينَ الأميركيينَ والأوروبيينَ نقلوا رسائل جديّة في هذا الإطار، إلا أن “حزب الله” يتعامل معها بشكل غير مسؤول، رابطاً مصير لبنان بحرب غزة، مشترطاً وقف الحرب هناك، للبدء بالتفاوض حول تطبيق القرار “1701”. 

فيما إسرائيل وبحسب حديث الدبلوماسي الذي يتحفّظ “الحل نت” عن ذكر اسمه، تهدد بأن الوقت بدأ ينفد، وباتت كل الاحتمالات واردة، علماً أن درجات سخونة المواجهات بين إسرائيل و”الحزب” تزداد يوماً بعد يوم، وتدريجياً تذهب إلى العمق بين الجانبين.

ويؤكد الدبلوماسي اللبناني أن الخطر حقيقي، للأسباب التالية: أولاً، لأن استمرار المواجهات العسكرية بين “حزب الله” والفصائل الفلسطينية التي تقاتل تحت إمرته من جهة، وبين الجيش الإسرائيلي من جهة أخرى، يمكن أن يخرج عن حدوده في عملية نوعية من هذا الفريق أو ذاك تؤدي إلى الحرب الشاملة. 

أما الأمر الثاني، لأنه لا يفترض استبعاد مبادرة إسرائيل إلى شنّ الحرب المفتوحة والشاملة في وجه “الحزب” بهدف إزالة الخطر على حدودها بالتزامن مع إزالة الخطر من داخل كيانها، بخاصّةٍ بعدما شعرت بخطر وجودي غير مسبوق منذ قيام الدولة الإسرائيلية، وفي لحظة دعم خارجي واستنفار داخلي لن تتكرّر. 

في أن ثالث الأسباب، وهنا الحديث لا يزال للدبلوماسي، فكون لا يُفترض استبعاد أن تطلب القيادة الإيرانية من “حزب الله” أن يفتح المواجهة مع إسرائيل على مصراعيها من أجل تشتيت عنصر القوة الإسرائيلي ومنعه من الحسم على “حماس”.

الدولة إلى أداة بيد “حزب الله”

في خضم هذه الأحداث، طرح رئيس حزب “القوات اللبنانية” المعارض، سمير جعجع، مبادرة بإمكانها منع تكرار حرب تموز/يوليو 2006؛ عبر دعوته رئيس البرلمان اللبناني، نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، نجيب ميقاتي، إلى ترجمة أقوالهما بالالتزام بالقرار “1701” إلى أفعال، من خلال الطلب من “الجيش اللبناني الانتشار في منطقة عمل القوات الدولية، كذلك دعوة بقية المسلحين، سواء أكانوا لبنانيينَ أم فلسطينيينَ، إلى الانسحاب من هذه المنطقة”. 

شاشة تلفزيونية في مخيم البرج للاجئين الفلسطينيين تبث خطاباً للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 5 يناير/كانون الثاني 2024 في بيروت، لبنان. (تصوير مروان طحطح/غيتي)

مصادر سياسية لبنانية، همست لـ”الحل نت”، بأن الحل بالنسبة إلى جعجع هو تطبيق القرار “1701” وتكليف الجيش و”اليونيفيل” -قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان- الإمساك بالحدود الجنوبية، كي تكون هناك ضمانة دولية للسلام في لبنان فيتحمّل عندئذ المجتمع الدولي المسؤولية كي يبقى لبنان في منأى عن الحرب. 

في حال بادرت إيران الحرب، ستكون في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى إسرائيل. وفي حال رفض “حزب الله” هذه المبادرة سيتحمّل أمام الشعب اللبناني مسؤولية تدمير لبنان كما دمرّه في العام 2006.

لكن ما يحصل اليوم أن رئيس الحكومة ميقاتي لا يردّ طلباً لـ”حزب الله”، فيما المسألة هنا أبعد من مراعاة شخصية أو حزب، إنما تتعلّق بأمن لبنان واللبنانيين، فهل يتحمّل الرئيس ميقاتي تبعات ما قد يحصل في البلد من جرّاء الالتزام بأجندة الحزب الذي فرّغ مؤسسات الدولة ويريد اليوم شلّ المؤسسة العسكريّة عملًا بهذه الأجندة غير اللبنانيّة؟

من مُقاومٍ لعدوّ

بنظر الصحفية اللبنانية، آية عويس، فإن ميقاتي وبرّي تحوّلا “صندوق بريد” لـ”الحزب”، فيستقبلان الموفدينَ الدوليين ويستلمان الرسائل ويبلّغانها إلى قيادة “حزب الله”. ومن الواضح أن الدبلوماسيينَ الغربيين لا يهمهم المرجعية التي تفاوضهم وهدفهم تجنُّب توسُّع الحرب. 

اختراق أمني لطهران وصفعة قوية لنصرالله كيف تسرّبت إسرائيل إلى قلب الضاحية الجنوبية؟ (3)
صورة تصور حسن نصر الله، زعيم حركة حزب الله الشيعية اللبنانية، معلقة على مبنى بالقرب من موقع غارة إسرائيلية استهدفت نائب زعيم حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت في 3 يناير 2024. (تصوير أنور عمرو / وكالة الصحافة الفرنسية)

هذا الأمر جعل من الحزب الناطق الرسمي الوحيد عن لبنان، علماً أن هذا التفاوض يشكّل إدانة لـ”حزب الله” ويتطابق مع توصيف المعارضة السيادية له بأن لا علاقة للبنانيين بمشروعه الإقليمي.

هذا من وجهة نظر “عويس”، لا يحصل لأن “حزب الله” قويّ فقط، إنما بسبب غياب قامات رجال الدولة عن السلطة، فميقاتي وبري تخلّيا عن دورهما لمصلحة “الحزب” بل أذابا مفهوم الدولة بالدويلة، فيما هناك ضرورة الفصل بين مشروع الدولة ومشروع الدويلة. 

تضيف عويس في حديثها لـ”الحل نت”، أنه لا يجوز أن تتحوّل الشرعية إلى الناطق الرسمي باسم اللاشرعية، والتردّي الكبير الذي أصاب لبنان سببه التسلُّل السرطاني لمشروع الدويلة على جسم الدولة، الأمر الذي يجب وقف تمدُّده بدءاً بالانتخابات الرئاسية على قاعدة “ما للدولة هو للدولة، وما للدويلة هو للدويلة”، وذلك بانتظار اللحظة والفرصة التي تزول فيها الدويلة لمصلحة الدولة السيدة على أرضها وحدودها.

الشعب اللبناني في الآونة الأخيرة، ذهل بسلسلة مواقف للمسؤولين اللبنانيين متواطئة مع “حزب الله” بالكامل، عكس إرادة الشعب اللبناني الرافض للسلاح غير الشرعي وتوريط لبنان بالحروب، وهذا ما فعله ميقاتي في منتصف كانون الثاني/يناير الفائت، بإطلاق موقف غريب يجيّر فيه قرار الحرب بشكل واضح ورسمي لـ”الحزب”، أو لناحية تبنّيه الكامل والثابت لموقف “الحزب” بربط وقف الحرب في لبنان بوقف الحرب في غزة. 

وقد برّر ميقاتي في موقفه انخراط “حزب الله” في الحرب، فيما تناسى أنه لا يحقّ لـ”لحزب” إطلاقاً توريط لبنان واللبنانيين بهذه الحرب وأي حرب، والنأي بلبنان يجب أن يشكل نهجاً وسياسة ثابتة لا تتبدّل ولا تُخرق لدى حكومة تصريف الأعمال، كما أن انخراط لبنان في الحرب هو قرار تتخذه الدولة لا “الممانعة”، و بموقفه تبنّى ميقاتي بشكل واضح وكامل موقف محور “المقاومة”، الأمر الذي ألغى دور الدولة لمصلحة دور الدويلة.

الظلّ الذي يهيمن على لبنان

ويبدو أن أعضاء حكومة ميقاتي بات لديهم إجماع على هذا الموقف، فمنذ أيام قليلة وزير الخارجية عبد الله بو حبيب، خرج بتصريح لو لم يتسنَّ للمطّلع عليه قراءة هوية مَن أطلقه لاعتبر أنّ المتحدِّث هو نائب الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم. 

رئيس الجمهورية اللبنانية كيف يمارس نصرالله الرئاسة بصلاحيات استثنائية؟ (1)
دورية تابعة لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) تمر بصور زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله (على اليمين) ورئيس البرلمان نبيه بري في قرية العديسة بجنوب لبنان على طول الحدود مع إسرائيل في 10 أكتوبر 2023. (تصوير جوزيف عيد / وكالة فرانس برس)

حيث أكد وزير الخارجية، أنه “لن تكون هناك أي موافقة بإعادة الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني، لأن ذلك سيؤدي لتجدد الحرب”، وشدّد في حديث تلفزيوني على “أنّنا لن نقبل إلا بحلّ كامل لكل قضايا الحدود مع إسرائيل”، واعتبر أن “الجيش اللبناني لا يملك القدرة الكافية للانتشار على الحدود”، وأشار إلى “وجود مشكلة يعاني منها الجيش ألا وهي النقص بالعدّة والعتاد”.

الوزير بو حبيب بهذا التصريح خالف الشرعية اللبنانية والدولية، فببساطة هو هدّد بالحرب في حال الإصرار على إعادة “حزب الله” إلى ما وراء الليطاني، فيما “الحزب” نفسه وافق على القرار “1701” بدءًا بأمينه العام وصولًا إلى وزيره في الحكومة، وبنود هذا القرار واضحة بأن لا سلاح خارج الشرعية اللبنانية والدولية جنوبي الليطاني.

وما لم يعد الشعب اللبناني يريد سماعه إطلاقًا هو حجة “الممانعة” التي تبنّاها الوزير بو حبيب حرفيّاً بأنّ الجيش لا يمتلك القدرة ولا السلاح، وما لم يقله وزير الخارجية إنّه عندما يتحوّل الجيش اللبناني إلى الجيش الصيني نفكِّر بالتخلي عن “المقاومة الإسلامية”.

المحامي اللبناني، محمد كنعان، يشدّد في حديثه لـ”الحل نت”، أنه لم يعد مسموحاً أو حتّى مقبولًا أن يصدر هذا النوع من المواقف عن المواقع الرسمية، وبخاصّةٍ بعدما أسقطت عملية “طوفان الأقصى” نظريات (توازن الرعب، وأوهن من بيت العنكبوت، ووحدة الساحات، وقوة شعوب المنطقة في مقاومتها)، فيما أظهرت الأحداث أن هذه المقاومات لم تجلب سوى التعاسة والخراب والموت والدمار لهذه الشعوب.

لبنانيون يرفعون صوتهم

لبنان بنظر من تحدثوا لـ”الحل نت”، بحاجة إلى رئيس جمهورية مختلف عن خامتي ميقاتي وبرّي المتماهيان مع “حزب الله”، لذلك تخوض المعارضة معركة انتخاب رئيس جمهورية سيادي، علماً أنها تعرف أنه لا يستطيع أن يمنع توريط لبنان بالحرب، لأن قرار الحرب مصادر بقوة السلاح. 

رجل يقف لالتقاط صورة مع قطع من الورق المقوى لحسن نصر الله (يسار)، زعيم حزب الله الشيعي اللبناني، ووزير الخارجية السابق جبران باسيل، معلقين من قبل متظاهرين لبنانيين في وسط بيروت في 8 أغسطس 2020، خلال مظاهرة ضد قيادة سياسية يتهمونها بالمسؤولية عن الانفجار الوحشي الذي أودى بحياة أكثر من 150 شخصا وشوه العاصمة بيروت. (وكالة فرانس برس)

ولكن بإمكان هذا الرئيس إذا ما عرقل “حزب الله” انتخابه، أن يُعلي الصوت في المنابر الدولية والعربية قائلًا إنّ لبنان الرسمي ضدّ الحرب، ومع تطبيق القرارات الدولية، ومع نشر الجيش على الحدود، وإدانة مَن يُقحم البلد بالحرب لحسابات إقليمية على حساب الشعب اللبناني.

وهذا النوع من الرؤساء لا يريده “حزب الله” ويحارب وصوله ويسعى إلى رئيس يغطّي سلاحه ويشيد بما يسمى “مقاومة”، وعلى غرار التدخل السوري الذي كان بحاجة لثلاثية “شرعي وضروري ومؤقّت”، فإن “الممانعة” بحاجة لثلاثية “جيش وشعب ومقاومة” أكانت معلنة أم ضمنية.

“حزب الله” يريد رئيس جمهورية واستطراداً سلطة تنفيذية إما مؤمنة بخطه وإما تتعاقد معه مصلحيّاً وإما خاضعة له من أجل ألا ترفع الصوت رفضاً لسلاحه، والأهم ألا تتمسّك بمحطات مفصلية على غرار تموز/يوليو 2006 بتطبيق الدستور والقرارات الدولية ورفض السلاح غير الشرعي.

لذا، هناك أهمية قصوى لإنتاج معادلة سياسية بدءاً برئاسة جمهورية تتمسّك بسلاح الشرعية ونشر الجيش على الحدود ورفض السلاح غير الشرعي، وهذه المواجهة ستستعر بعد انتهاء حرب غزة بين “الممانعة” التي تريد سلطة تغطي سلاحها غير الشرعي، وبين المعارضة التي تريد سلطة لبنانية تحتكر وحدها السلاح.

وإذا كان نزع السلاح غير الشرعي ليس بيد اللبنانيين الذين لا يريدون انزلاق بلدهم إلى حرب أهلية، فإن بيدهم رفض التعايش مع “ممانعة” أوصلت البلد إلى حربَين وفشل وانهيار وكوارث، وبالتالي إما إنتاج سلطة لبنانية ترفض الشراكة مع الأمر الواقع، وترفض تبادل المصالح مع هذا الأمر الواقع، وترفض الخضوع للأمر الواقع، وإما أصبحت الحاجة ملحّة لتركيبة جديدة؛ لأن تجربة الـ18 سنة الماضية وافية وكافية ولم يعد من المقبول تمديدها رأفة بالبلد وشعبه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات