الهيمنة الإقليمية مقدمة للمكانة الدولية في المنظور السياسي الصيني، حيث تسعى بكين لفرض هيمنتها على بحر الصين الجنوبي، ولأجل ذلك تتنازع مع دول لها حقوقها القانونية فيه. ولتحقيق هذا الهدف، رفضت الصين قرار محكمة التحكيم الدولية لعام 2016، والذي أيد حقوق الفلبين وشكواها من الاستفزازات الصينية في هذا البحر، الذي تصفه الأخيرة بالكاريبي الصيني، في إشارة منها لمبدأ “مونرو” الأميركي، الذي منح واشنطن نفوذا حصريا في محيطها الجغرافي، مكّنها من اعتلاء الريادة العالمية، بعد اطمئنانها من زوال أي تهديد أمني قادم من جوارها الإقليمي.

مؤخرا، نددت سفارة بكين في مانيلا، وبشدة، بالتصريحات الأخيرة للسفير الفلبيني في واشنطن، خوسيه مانويل روموالديز، واصفة إياها بتجاهل الحقائق الأساسية. وبحسب بيان السفارة، أثارت تصريحات مانويل بشكل متعمد قضية بحر الصين الجنوبي، وأثارت تكهنات “وتشويهات ماكرة” ضد الصين. ووفقا لوكالة “رويترز” للأنباء، وصف مانويل مخاوف واشنطن من قضية بحر الصين الجنوبي والصراع المحتمل في تايوان بأنها “جدية”، إلا أن “نقطة الاشتعال الحقيقية هي بحر الفلبين الغربي”.

سابقا، اتهمت مانيلا بكين بارتكاب “تصرفات غير قانونية وعدوانية”، بإطلاقها مدافع المياه على سفينة صيد حكومية يديرها مدنيون. ودان بيان فرقة العمل التابعة لمانيلا “أحدث أعمال الإكراه غير المبررة والمناورات الخطيرة التي قامت بها الصين ضد مهمة إعادة الإمداد المشروعة والروتينية”، فيما اعتبر تصرف بكين “يثير شكوكا كبيرة في صدق دعواتها للحوار السلمي”. في المقابل، وصفت بكين الخطوة بإجراءات رقابة مشروعة. وبدوره حمّل خفر السواحل الصيني في بيانه كامل مسؤولية الحادث للفلبين، بالقول: إن سفينتين فلبينيتين تجاهلتا التحذيرات المتكررة، ودخلتا بشكل غير قانوني المياه المتاخمة لشعاب ريناي المرجانية في جزر نانشا دون موافقة الحكومة الصينية، وأن السفينة “عنيزة ماي 1” اصطدمت عمدا بسفينة خفر السواحل الصينية.

الأهمية الاستراتيجية لبحر الصين الجنوبي

بحر الصين الجنوبي أكبر بحر فـي العالم بعد المحيطات الخمسة، تبلغ مساحته نحو 3.5 مليون كلم مربع. وتتمثل أهميته الاستراتيجية بكونه أقصر الطرق الواصلة بين المحيطين الهندي والهادئ. وبهدف تحقيق هيمنتها عليه، أنشأت بكين منشآت عسكرية وبنى تحتية للصواريخ والرادارات والطائرات العمودية فيه، وخصوصا في جزر سبراتلي وباراسيل المتنازع عليها مع الفليبين، مع تعزيز وجودها وعدد مقاتلاتها في هذه القواعد، وإجراء مناورات وتدريبات عسكرية دورية في عرض هذا البحر. وإلى جانب ذلك، أقر مجلس النواب الصيني، قانونا يسمح لخفر السواحل بإطلاق النار على القوارب الأجنبية.

حسب ماركو مسعد، وهو باحث في العلاقات الدولية في مجلس سياسات الشرق الأوسط (MEPC)، ومقره واشنطن، فإن بحر الصين الجنوبي يتحكم في واحد من أهم الممرات المائية في العالم، ويقع في منافذ بحرية بين المحيطين الهندي والهادئ، وتوجد به ثروات هائلة من النفط والغاز والمعادن والأسماك، ويشهد نزاعات جغرافية بين الصين ودول مجاورة مثل الهند واليابان والفلبين. 

مسعد يردف خلال حديثه مع “الحل نت”، بأن الصين تري أهمية المنطقة تتعلق بـ “مضيق تايوان”، الذي يعد أحد أكثر ممرات الشحن ازدحاما بالمنطقة، ويمر من خلاله أكثر من 90 بالمئة من التجارة الصينية والكورية واليابانية نحو آسيا والشرق الأوسط والهند. ومن خلال رؤيتها للبحر كمنطقة دفاع لسيادتها ووحدة أراضيها وفقا “لدلائل التاريخ والجغرافية”، تعمل الصين على مجابهة النفوذ الأميركي في المنطقة.

وفقا لموقع “Geopolitical Monitor“، يُدر البحر قرابة 12 بالمئة من إجمالي صيد الأسماك في العالم، مع احتياطيات غير مستغلة من النفط والغاز الطبيعي تقدر بنحو 11 مليار برميل من النفط و190 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. ويشكل قناة أساسية تستوعب أكثر من ثلث حركة الملاحة البحرية العالمية، تمر عبره سلع تزيد قيمتها عن 3 تريليونات دولار سنويا، إضافة لكونه رابط لاقتصادات آسيا الرئيسية بأسواق أوروبا وإفريقيا والأميركيتين، مما جعله مسرح مركزي للمطالب الإقليمية المتنافسة والسلطات القضائية البحرية المتقاطعة، حيث تتنافس على السيادة على الجزر والشعاب المرجانية فيه كل من الصين والفلبين وفيتنام وماليزيا وبروناي وتايوان. فيما تضيف مشاركة القوى العالمية الكبرى، أبعادا إضافية لهذه المنافسة متعددة الأوجه.

فخلال ردها على بيان وزارة الخارجية الأميركية، الذي حثت فيه بكين على الالتزام بقرار التحكيم بشأن المياه المتنازع عليها مع الفلبين، وتوقف الصين “عن سلوكها الخطير والمزعزع للاستقرار”، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ: “أريد أن أؤكد أن النزاع البحري بين الصين والفلبين هو قضية تخص البلدين، ولا يحق لأي طرف ثالث التدخل فيه”، متهمة واشنطن بمحاولة تحقيق مصالحها الجيوسياسية، وأنها “شجعت ودعمت ونسقت مع انتهاكات الفلبين واستفزازها في بحر الصين الجنوبي، وقلبت الصواب والخطأ، وتسببت في تضخيم النزاعات، وإثارة المواجهة، وتعريض السلام الإقليمي لخطر شديد”.

رفض التحكيم

في كانون الثاني/ يناير 2013، قدمت الفلبين شكوى ضد الصين إلى محكمة للتحكيم تابعة للأمم المتحدة. ذكرت خلالها أن تصرفات وادعاء الصين ملكية 90 بالمئة من بحر الصين الجنوبي تنتهك اتفاقية “الأمم المتحدة” لقانون البحار الصادر عام 1982. وفي عام 2016 أصدرت المحكمة قرارها برفض ادعاء ملكية بكين الخالصة للمنطقة الاقتصادية في منطقة أرخبيل سبراتلي، كما نوه القرار إلى أن ملاحقة سفن فلبينية من قبل سلطات إنفاذ القانون الصينية، يخلق حالة من الخطورة وعدم الاستقرار في بحر الصين الجنوبي. رفضت الصين القرار، معتبرة أن السبب الرئيسي للنزاع بين بكين ومانيلا هو حقيقة أن الفلبين “احتلت بشكل غير شرعي جزءا من جزر نانشا الصينية”.

إلى جوار الفلبين، تتنازع الصين مع تايوان واليابان وفيتنام وماليزيا وبروناي في بحري الصين الشرقي والجنوبي. وتشمل تلك النزاعات جزر سبراتلي/نانشا، وجزر باراسيل/شيشا، وبنك ماكليسفيلد/تشونغشا، وجزيرة براتاس والشعاب المرجانية/دونغشا، وجزر دياويو/سينكاكو. وخلالها، احتلت جزر سبراتلي أعلى مستويات التوتر، نظرا لموقعها الاستراتيجي وغناها بالموارد البحرية الغنية والرواسب المعدنية والهيدروكربونية. وباستثناء الصين، اتخذت جميع الأطراف المذكورة خطوات دبلوماسية لحل النزاعات، مثل الإعلان غير الملزم لمدونة قواعد السلوك لبحر الصين الجنوبي الذي تمت صياغته في عام 2002، إضافة لمحاولة مانيلا تجنيد دول جنوب شرق آسيا “الآسيان” لفض نزاعها مع بكين رسميا، غير أن الصين لطالما احتقرت صياغة مدونة سلوك ملزمة، وفقا لموقع “Geopolitical Monitor“.

تعبير وزارة الخارجية الأميركية في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر الفائت، يؤكد على الدعم الأميركي للفلبين، من خلال تأكيده على أن أي هجوم مسلح ضد القوات الفلبينية في أي مكان سيؤدي إلى تنفيذ معاهدة الدفاع المتبادل بين الولايات المتحدة والفلبين، حسب مسعد. معتبرا التصريح “بداية جيدة”. منوها إلى إعادة تأكيد واشنطن على أن المادة الرابعة من معاهدة الدفاع المتبادل بين الولايات المتحدة والفلبين لعام 1951 تمتد إلى الهجمات المسلحة على القوات المسلحة الفلبينية، والسفن العامة، أو الطائرات، بما في ذلك تلك التابعة لحرس السواحل الفلبيني، في أي مكان في بحر الصين الجنوبي.

لكن واشنطن تحتاج إلى الذهاب أبعد من ذلك، حسب مسعد. حيث لم تؤد الرسائل إلى تخفيف التوتر من قبل الصين. لذا فالخيار الأول برأيه، هو اتخاذ ردود فعل أكثر حدة تجاه هجمات “الحوثيين” على حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر. فعلى الرغم من عدم وقوف الصين وراء تلك الهجمات، إلا أنها تراقب بوضوح الإجراءات الأميركية على مستوى عالمي. وبالتالي، من المرجح أن يؤدي عدم رد الولايات المتحدة على الهجمات على السفن الأميركية إلى إضلال بكين لرؤية الضعف والتردد الأميركي، بدلا من الالتزام. منتهيا إلى أن الرؤية الصينية ستكون صحيحة، حال مساومة الولايات المتحدة أمام قوة ضعيفة في اليمن.

بحر الصين الجنوبي ما بين مدونة السلوك والعسكرة

الفلبين ستتعاون مع الصين في المحادثات بشأن بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه، حسب تصريح الرئيس الفلبيني، فرديناند ماركوس الابن، أول أمس الاثنين، لكنها سترد إذا تم تجاهل سيادتها وحقوقها البحرية، مضيفا خلال حديثه أثناء زيارته لأستراليا، إنه ملتزم بالعمل مع دول “الآسيان” والصين من أجل وضع مدونة سلوك طال انتظارها لبحر الصين الجنوبي ترتكز على القانون الدولي.

إلا أنه في الوقت الذي تسعى فيه مانيلا لوضع مدونة سلوك، تجهد بكين لتحقيق الهيمنة الكاملة في هذا البحر، حيث شرعت مؤخرا في بناء أكبر رادار بحري في التاريخ، سيغير ميزان القوة البحرية في محيطات العالم، وفقا لعلماء صينيين، من خلال قدرته على رصد اختراقات الصواريخ القادمة، من آلاف الكيلومترات، وتتبعه لأهداف متعددة في نطاق 3500 كيلومتر. حيث يعتقد العسكريون الصينيون، أنه كلما زادت قوة الرادار البحري، كلما زادت القدرة على مواجهة القوات الأميركية في بحر الصين الجنوبي، واكتشاف التهديدات التي تشكلها السفن والطائرات المعادية في وقت مبكر.

قبل الرادار، بنت الصين مهبطا للطائرات في جزيرة تريتون، التي تطالب بها تايوان وفيتنام أيضا، وهي أحد جزر باراسيل التي سيطرت عليها الصين بالكامل بعد نزاع بحري قصير مع فيتنام عام 1974، ويصل طول المدرج فيه لأكثر من 600 متر، حسب المخطط الحالي، بما يكفي لاستيعاب الطائرات المروحية والطائرات المسيرة، دون الطائرات المقاتلة أو القاذفات، رغم وجود مهبط طائرات ورادار وميناء صغير في الجزيرة.

ختاما، المنافسات/ الصراعات الاقتصادية والجيو-سياسية تشكلان العنوان الأبرز للمنافسات والصراعات الدولية الحالية، وكلاهما يجتمعان في بحر الصين الجنوبي، بكونه قناة أساسية للتجارة العالمية، مع غناه بالموارد الطاقوية والمعدنية والثروة السمكية، ما يجعل منه نقطة تماس واحتكاك بين الصين والدول المتشاطئة فيه، أو بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها، لا سيما وأن بكين تنظر لهذا البحر وامتداده وصولا لمضيق ملقا، كرئة لا غنى عنها لتنميتها الاقتصادية، والتي تشكل بدورها ركيزة لاستقرارها السياسي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
1 تعليق
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
Danaa Ahmed
1 شهر

السلام على الجميع،

اسمي السيدة دانة أحمد. أنا امرأة سعيدة اليوم، وقلت لنفسي إن أي مُقرض ينقذ عائلتي من وضعنا السيئ، سأحيله إلى أي شخص يبحث عن قرض. لقد أعطوا السعادة لي ولعائلتي. كنت بحاجة إلى قرض لبدء حياتي من جديد لأنني أم عازبة ولديها 3 أطفال. لقد التقيت بشركة القروض الصادقة والخائفة من الله والتي ساعدتني في الحصول على قرض. إذا كنت بحاجة إلى قرض وسوف تقوم بسداد القرض، يرجى الاتصال بفايزة للتمويل وإخبارهم أن السيدة دانة أحمد هي التي تحيلك إليهم. اتبع جميع التعليمات وسوف تحصل على القرض الخاص بك. اتصل بهم على بريدهم الإلكتروني: ([email protected]) أو WhatsApp: +91 (923) 356-1861. للمزيد من المعلومات.

الأكثر قراءة